الاثنين ٢٨ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨

التعبيرعن المفجع في قهبكة جذابة

بقلم: صبحي فحماوي

قد يبدو غريبا القول إن التفاصيل أو الأحداث التفصيلية التي يقدمها الكاتب الأردني صبحي فحماوي في نسج روايته الأخيرة "حرمتان ومحرم" تكاد في معظم الأحيان تشكل أعمالا قصصية ناجحة في حد ذاتها فتسرد وتحرك دون أن يقلل هذا من الرواية ككل.

يكتب فحماوي بأسلوب مميز من حيث الظرف وبطريقة قد يصح في وصفها اللجوء إلى أسلوب الأديب الظريف الراحل سعيد تقي الدين فنقول أنها "قهبكة" أي القهقهة ببكاء.

فصبحي فحماوي يبكينا اضحاكا في وصف شقاء الشعب الفلسطيني المعذب ويضحكنا من مآسينا "العربية" الصغيرة والكبيرة فيجعلنا نكتشف احيانا ان بعض امورنا الصغيرة مفجعة كالكبيرة أو أنها من اسباب هذه الفواجع الكبيرة.

الرواية التي صدرت في نطاق روايات الهلال في القاهرة جاءت في 234 صفحة متوسطة القطع وبرسم غلاف بريشة الفنانة صفاء علاء الدين.

يكتب فحماوي بشكل سيال يحمل إلى القارىء سخرية تنصب على كثير من أمور الحياة اليومية فيأتي ما يقوله مزيجا من الواقع اليومي والألم والخيبات ومن السياسي والديني والوطني فتمتزج فيه المصطلحات السياسية والفكرية والاجتماعية والأدبية وتتإلى أو تتجاور أبيات شعر من الجاهلية وآخرى لشعراء معاصرين. وقد "يتلاعب" الكاتب بظرف وسخرية بكثير من الأفكار والمقولات. وكتابته تتمتع دائما بجاذبية أكيدة تشد القارىء فتبقيه بين حالين مؤلمين من الضحك والبكاء.

تبدأ الرواية بفصل يحمل عنوانا "حربيا" ليس ببعيد عن الأذهان هو "النجم الساطع". عالم الرواية الأول والاساسي هذا هو مخيم فلسطيني لمشردين فلسطينيين يقع في الارض المحتلة اي في فلسطين. أنه هنا لا يتحدث عن المصطلح المعروف في عالم مدننا الحديثة أي "الهجرة الداخلية" بل عن تهجير إلى الداخل فكأن التهجير إلى الخارج لم يعد يكفي.

يصف الحياة في هذا العالم الصغير بواقعية وبرموز ومجازات فيقول بسخرية مؤلمة هي مزيج من المناقضات احيانا مما كان -مثلا- احلاما تحولت إلى كوابيس ومن مصطلحات عالمي السياسة والأخبار والتاريخ المعاصر. "في معسكر الحصار يتوسط حي "سلام الشجعان" سوق شعبي تقليدي... وفي الزاوية البعيدة تقبع محددة "العودة" التي تلفت الانتباه اليها باصوات طرقاتها والرائحة الخانقة المنبعثة من اشعة لحام الاكسيجين والشرر المتطاير من جسد حديدي يتم تقطيعه من الوريد إلى الوريد...

"من هنا منجرة ابو ريالة وبقالة "غظب" ومستودع البطل لمواد الحديد من هناك مستودع الفار للبلاط ومحل البان الثور ومحلات المهلبي للاسمنت ومغسلة السلطة للسيارات وبجوارها محل بناشر العذراء وميكانيكي الضبع... محلات العصفورية لمواد البناء.. ومطعم فلفل للفول والفلافل المفلفل..."

ويصف البؤس في المخيم بواقعية فيها كثير من التصوير فيقول "والشارع شبه ترابي تنبعث رماله من كل جروحه ويتمدد مثقلا بأوساخه كعمود فقري لموقع مهترىء تملأ حفره سوائل مجار وأوراق بلاستيك وعبوات شرائح البطاطا الاصطناعية... تمر سيارة مسرعة بعجلاتها التي تطبطب فوق حفر الطريق فتطرطش المارة بالمياه العادمة والمعدومة... واشياء كثيرة تتطاير بعفوية هنا وهناك لتخلق جوا من الحركة وتشغل بال سكان المكان عن توترات الاحداث المخيفة في المنطقة." والاحداث يعرفها الجميع فهي موت دائم وجروح وتهديم وافقار واذلال.

وسط ذلك تنمو قصص حب كثيرا ما حال البؤس والموت دون ان تكلل بالزواج. يصف الكاتب مرور الصبية تغريد بمزيج من المصطلحات منها العلمي ومنها الادبي ومنها اليومي. فمرورها كمرور الثريا او المذنب هالي. ويستشهد جهاد الاسمر الذي يحبها يشعر نزار قباني اذ يقول "طفلة الامس التي كانت على بابك تلعب/ والتي كانت على حضنك تغفو حين تتعب/ اصبحت قطعة جوهر/ فتصور."

صراع بطولة وموت يدور في معسكر الحصار. حجارة تواجه الدبابات والاسلحة الاسرائيلية. "في معسكر الحصار المحتل كما في سائر بقاع الاقليم الفلسطيني المكتظ صار المارون ينطفئون مثل الشموع على الطرقات.. وداخل البوابات. وفي صف المدرسة تقصف زهرة برية فتاة بعمر الزهور..."

بعد تخرج الفتاتين تغريد وماجدة واجهتا انعدام فرص العمل والفقر الاخذ بخناق عائلتيهما والذي يحول دون زواج كل منهما بخطيبها. تقرر ان تسافرا للعمل معلمتين في مدرسة في "ولاية الرمال" العربية. ولانهما لا تستطيعان السفر وحدهما دون ان تكونا برفقة "محرم" موثوق به يحميهما فقد استقر الرأي على ان يرافقهما صديق العائلتين الطيب "ابو مهيوب" الخمسيني عمرا والذي زوج بناته واستشهد ابنه وتوفيت زوجته ولم يعد له احد معه فعاش وحيدا. ولقاء اجر خصصه الاهل له جرت كتابة عقدي زواج صوريين تربطان الرجل الطيب بالفتاتين هو اشبه بوالد لكل منهما.

قبل ان يصف الكاتب الحياة في مدينة الواحة يتحدث عن الطائرة التي اقلتهم وعن ركابها العائدين إلى الواحة. يقول "بعد وصول الطائرة إلى مطار مدينة الواحة في ولاية الرمال وقف الرجال والنساء نابتين في مقاعدهم وتكاثفوا في ممر الطائرة حيث ملابس النساء المزركشة ووجوههن المزينة وصدورهن الناهدة واردافهن المثيرة ببنطالاتها القطنية المفصلة على اخر طراز واثوابهن الملونة وتنانيرهن القصيرة...

"كل هذه النعم الملونة تحوصلت فجأة وتشدرت فوقها براقع سوداء فحولتها إلى اللون الأسود واختفت معالمها وصارت على شكل بقج سوداء..او خيم سوداء لا يعرف ما تحتها.. غمامات او براقع او مهاجع لاجساد لا تعرف ما بداخلها..."

ووصف التقنية العالية المدهشة في المطار ليصل بعد ذلك إلى نقيضها. جرى الفصل بين النساء والرجال. وتحدث عن رجل دين يبدو انه معين للحفاظ على ان تكون النساء محجوبات تماما. كان يحمل عصا يهدد بها كل من يظهر لها وجه أو ذراع أو ساق. حاول الشيخ نهر امرأة اجنبية غربية لكنها لم تأبه فاضطر بعد ان نهره زوجها إلى الانكفاء والعودة إلى الاهتمام بالنساء "الوطنيات".

ويصف الكاتب رفض الاجنبية وزوجها أوامر الشيخ "الشيبة" والقول له ان هذا لا يعنيه "ذس از نط يور بزنس.. اجلس والتزم نفسك". اضاف "يا اخي هؤلاء الغربيون لا يفهمون غير البزنس. حتى شؤون المرأة عندهم بزنس. ولكن هذا الرجل الشيبة التقي النقي الطاهر العلم... لم يفهم شيئا من رطن الاجنبي... ويبدو ان مع هذا الاشقر قوة "فيتو" جعلته يقرر تفويت الفرصة على هذا الملتحي..."ويصف الشبق الجنسي المسيطر على كثير من رجال مدينة الواحة وطرق تعاملهن مع النساء.

الذي جرى في النهاية بعد سنوات من العمل في مدينة الواحة والشعور باليأس عند العودة إلى الوطن في الاجازات وقد امتلأ بالموت وغياب الاحبة -وفي خطوة رمزية إلى حد ما- فاتحت الفتاتان "المحرم" الخمسيني ابا مهيوب وطلبتا منه ان يتزوجهما. جرى ذلك وعاش الجميع بهدوء في ولاية الرمال ورزقوا باولاد كي تستمر الحياة التي بدا انها يصعب ان تستمر بشكل اكثر "معقولية" واقرب إلى منطق الحياة الطبيعي. واسكتت الفتاتان غضب اهلهما باعتماد مبدأ "اطعم الفم تستحي العين."

في الختام يعود فحماوي فيجعل ابطاله الذين تحولوا امامه إلى اشخاص حقيقيين يثورون عليه لأنه تحكم باقدارهم وخطط لهم حياتهم ولم يكونوا بالضرورة ليقبلوا مصائرهم كما ارادها. ويعود هو فيسعى إلى تبرير ما قام به وكأنه يتساءل عن قدرة الانسان في احوال مثل التي وصفها على ان يختار ماهو افضل له. لكن الحياة يجب ان تستمر ولو في "قهبكة".

بقلم: صبحي فحماوي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى