الجمعة ٢٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
بقلم أسامة عبد المالك عثمان

اللغة والحياة تحسن أم تأزم

بمناسبة انعقاد مؤتمر أبو ظبي تحت عنوان "اللغة العربية والتعليم.. رؤية مستقبلية للتطوير" نرى أنه من المفيد التأكيد، في هذه العجالة،على بعض الحقائق الضرورية لتخفيف حدة المشكلة، أو الخروج منها تماما.
تلك الحقائق التي لم تغب عن المشاركين في المؤتمر، إذ أشاروا إلى عدد من التحديات والحلول، منها: تحد يتعلق بتغلُّب اللغة الأجنبية على اللغة الأم؛ ما يعني تراجع اللغة العربية من الحياة. وآخر يتمظهر بطغيان اللهجات المحكية، ومنها كذلك مشاكل تتعلق بتعليم اللغة، أساليبه، ومادته، وحال معلميها.

و قد ألقى وزير التربية والتعليم بالإمارات الدكتور حنيف حسن علي في كلمته باللوم على وسائل الإعلام بما تبثه من مواد وبرامج "تعزز اللهجات الدارجة، واستخدام لغة منفرة في برامج ومواد اللغة العربية".
وطالب الدكتور رشدي طعيمة، أستاذ المناهج وطرائق التدريس في جامعة المنصورة بتطوير مناهج تعليم اللغة العربية، بحيث لا يكون التركيز في تعليمها على المفاهيم النحوية والصرفية، وإنما بإفساح المجال للجانب الوظيفي فيها، مشيراً إلى ضرورة تدريس اللغات الأجنبية، ولكن دون مزاحمتها للغة الأم بحيث يتم وضع حد لاستخدامها.

ودعا الأستاذ المشارك في جامعة الملك سعود الدكتور أحمد مطر العطية إلى سن القوانين؛ لإلزام المعلمين كافة بالالتزام باللغة العربية الفصحى في التعليم، إضافة إلى تعميمها على وسائل الإعلام باعتبارها البيئة اللغوية للمجتمعات جميعا.
وأشار العطية إلى أن دراسة الطب في كلية القصر العيني بمصر فور افتتاحها باللغة العربية، ولمدة 61 عاماً، واستمرار التعليم باللغة العربية في جامعة دمشق هو دليل على صلاحية اللغة العربية، وقدرتها على أن تكون لغة علم.

إِنّا، وإن كنا، في معرض التحديات، فإن الإنصاف يدعونا إلى أن نقر بالعلامات الإيجابية الدالة على عافية اللغة اليوم؛ حتى نعممها ونديمها، ومن تلك أن اللغة الفصيحة ما زالت حية في عباداتنا، وهي في صلب حياتنا؛ بتلاوة القرآن والاستماع إليه، والدعاء، والخطب والمواعظ التي تلقى قبولا يتسع، ويتعمق. وليس هذا غريبا فالعلاقة بين الإسلام ولغته عضوية تفاعلية؛ تحفظ به وتقوى، ويحسن هو بها فهما وأداء.
كما لا نستطيع تجاهل الصعود الملحوظ للإعلام الناطق بالعربية الفصيحة، وما يجده من تفاعل، بل ما يتركه بالتأكيد من أثر على رفع سوية التكلم؛ بالمفردات والتراكيب والنصوص التي تتكرر على الأسماع، وهذا السماع كلما زاد أدى إلى الارتقاء بلغة السامعين حتما.
لكننا، في الجانب الفارغ من الكأس، لا نستطيع أن نصم الآذان عن ارتفاع أصوات اللغات الأجنبية في جوانب الحياة العربية كالتعليم والتعامل اليومي.

ولا يخفى أن تراجع اللغة الفصيحة يدل على أزمة ثقة تجتاح أوساطا من أبنائها؛ بفعل العولمة التقنية والإعلامية التي جعلتها بينهم غريبة الوجه واليد واللسان. في وقت تحظى فيه بإقبال من الناطقين بغيرها، مسلمين وغير مسلمين.

ولعل من أُولى الحقائق أن اللغة تكتسب هيبتها من هيبة أهلها، ولو كانت لغة تستغني بخصائصها عن الناطقين بها لكانت اللغة العربية.
وعليه؛ فإن الأولوية في رأيي تقتضي منح اللغة سلطة، وليس ذلك بالقوانين الملزمة فقط، وإنما بتصييرها واقعا ذا سطوة على العربي، في داخله، وفي احتياجاته. ولذا كان حقا توجيه العناية حينا، واللوم حينا آخر، على الإعلام، الذي يكاد يستأثر اليوم بالسطوة الأوسع نطاقا. وعندما تتعلق احتياجات الناس المهمة بمعرفة اللغة العربية في جانبها الوظيفي؛ فإن هذا سيدعوهم إلى تقديرها، وليس صحيحا ادعاء الصعوبة فيها، ولو كانت الصعوبة مانعةً من تُعلُّم اللغة لمنعت أبناء العرب من تعلم اللغات الأجنبية. وتعلُّمُها أصعبُ من تهذيب لغتهم الأم؛ فهم يتكلمونها، ولا يحتاجون إلا إلى الارتقاء بها قليلا، بالمعايشة والسماع، وليس بالضرورة_ وِفَاقا للدكتور طعيمة_ بالإمعان في مفاهيمها النحوية والصرفية.

وهذا يقودنا إلى المادة العلمية المُضَمَّنة في المناهج المدرسية؛ حيث يمضي الطالب ما يربو على عشر سنين، ثم يخرج، في الغالب، وهو لا يحسن استعمال لغته، تكلما، أو كتابة، أو تذوقا، أو حتى استيعابا. والغريب أنك تجد من الطلاب المبرزين في الفروع العلمية الدقيقة، ولا تجده يحسن التعامل مع لغتة، تطبيقا، وقد يكون متميزا فيها، نظريا. وهذا ما نلحظه على غير قليل من كبار الشخصيات العلمية والإدارية والسياسية، وهم يتعثرون في خطاباتهم اللغوية؛ فكان الأّوْلى، تَمثُّل القاعدة الكلية: " ما لا يُدرَك كلُّه لا يُترَك جُلُّه".

وتبقى هذه المعاني قليلة الجدوى ما لم تنضم إليها القوى السياسية حتى أعلى الهرم؛ مُجَسِّدةً_ بالفعل قبل القول_ تقديرَ اللغة، ويغدو هذا قريبا في ظل استعادة الأمة ثقتها بثقافتها الذاتية، وهو لا يحدث بانقلاب فوري، وإنما هي حالة تراكمية تتضافر على تفعيلها مؤسسات وأفراد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى