السبت ٢٦ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
بقلم محمد بنلحسن

التلقي والقوى الغيبية في الشعر العربي

اهتمت العرب بالتلقي، وأوجدت له في نقدها مرتبة مرموقة شأنها في ذلك شأن من تقدمها من الأمم العريقة التي بصمت تاريخ الأدب ونقده.

وإذا تصفحنا ما تركه الأسلاف من تراث في هذا المجال، لوجدنا مادة غزيرة تند عن الحصر، وقد تنوع الاحتفال بالمتلقي وأشكال التلقي بحسب بيئات النقاد ومرجعياتهم.

لقد "اعتنى النقد العربي القديم بالمتلقي سامعا وقارئا، وبلغت العناية أوجها في عصور ازدهار النقد.. وبلغت هذه العناية حدا يدفعنا إلى القول إن النقد العربي وضع المتلقي في منزلة مهمة من منازل الأدب وقصده بخطابه قصدا وحث الشعراء على أن يكون شعرهم متوجها إليه" [1].

والمتأمل في هذا الاعتناء الكبير بالمتلقي في سائر أحوال تلقيه، يلمس إيمان العرب بالتلقي مذهبا ومنطقا لتقويمهم النصوص وتصنيفها من حيث الجودة وحيازة السبق. من هنا "يعسر اعتبار العلاقة المنعقدة بين القارئ والنص في التراث النقدي قائمة على الصدفة أو على هوى مبدع وميله، وإنما هي في الوجه العميق منها تعاقد بين الأطراف المضطلعة بوظيفة التخاطب الأدبي لا يخلو من نوايا مبيتة" [2].

إن المتلقي حاضر باستمرار داخل كل كتابة إبداعية ولا يمكن إطلاقا طرده خارج أسوارها شئنا أم أبينا. هذا المنظور هو جزء من مصير النص الإبداعي.

وإذا كان الشعراء العرب والنقاد من حولهم، كلهم محتفلين بما يقال، متسائلين كيف قيل ولماذا قيل؟ أفلا يكون سلوكهم هذا سباحة في فلك التلقي ومعانقة لشروطه وأحواله؟

إن الجواب بالإيجاب طبعا، والعودة إلى ثنايا شعرنا العربي ونقده، تغنينا عن التخبط في كثرة الاستفهام الذي يمكن أن يصبح ارتيابا.

وقد تنبه الدارسون لهذه المسألة، ونبهوا على وجوب ترك تأكيد نزوع نقدنا العربي نحو التلقي، لأن ذلك من حكم المسلمات التي لا تحتاج إلى إثبات، يقول أحد الباحثين "وعلينا أن نتجنب أن يكون هدفنا إثبات أن الشعرية العربية عرفت وعيا بالتلقي وبوجوده سيكون ذلك من تحصيل الحاصل، ما دام التلقي من مستلزمات العملية الإبداعية فالتلقي ضارب بجذوره في الأدب العربي" [3].

وقد يظن السامع لحديثنا عن التلقي عند النقاد القدامى، لهاثا وتهافتا، يروم تقليد الدراسـات الحديثة، ويركب موجة التلقي التي أصبحت تصدح بها الأقلام في أيامنا هذه نتيجة التأثر والمثاقفة والسعي الحثيث للحاق بخطاب الغرب في مجال الدراسات النقدية، ومواكبة مستجدات الساحة، والحقيقة أن اقتحام أستاذ باحث،مبرز في اللغة العربية،مكناس، المغرب.

مجال التلقي عند القدماء، يهتك القناع عن وعيهم بالتلقي، وإن كان لا يخفي بعض التأثر بما يروج بين الباحثين من موضوعات حديثة، ليس لهاثا لأجل الاتباع والتقليد والزعم، وإنما اقتناعا ويقينا بإسهام نقادنا العرب القدامى في هذا المجال وهذا ما سارع لتأكيده الدكتور محمد المبارك في مقدمة مؤلفه، استقبال النص عند العرب، حيث يقول: "وما كان اختيارنا لموضوع القراءة والتلقي في النقد العربي استجابة ورد فعل، أو حديث حادث.. لأن مشكلة التلقي توجد حيثما يوجد الأدب، فمن الصعب تصور انصراف الدراسات النقدية العربية عن مفهوم مهم مثل التلقي" [4].

الآن بعدما مهدنا لموضوع التلقي عند العرب ببسط هذه المسلمات المتفق بشأنها، لابد من تفصيل ما جاء مجملا في كلامنا من أحكام، ذلك بأن الإقرار بحضور التلقي في درسنا النقدي العربي، وتمتع المتلقي بتلك المنزلة الخاصة يدفعان الباحث إلى كشف تجليات هذا التلقي وهتك القناع عن صيغ حضور المتلقي.

1-التلقي والقوى الغيبية.

أول جسر يأخذنا إلى التلقي لدى العرب، هو مفهوم الإبداع لديهم، ذلك أن العرب أدركت من خلال رؤيتها لطرق الإبداع ومصادره معنى من معاني التلقي.

يقول أحد الباحثين معرفا مفهوم الإلقاء عند العرب: "يضعنا المفهوم الأولي للإبداع الفني في قلب ما يسمى بنظرية الإلهام" [5].

فما الإلهام؟ يزيد صاحب النص السالف الأمر وضوحا بقوله: لعلنا نذكر أن مصطلح الإلهام كان يرادف مصطلح الإلقاء عند العرب. القوى الغيبية تلقي بالشعر إلى الفنان، وهي تلهمه الشعر كذلك، إنهما تعبيران لفكرة واحدة" [6].

إذا الإلهام مرادف للإلقاء عند العرب، والشاعر يتلقى الشعر من القوى الغيبية وتلهمه به.

وإذا شئنا مزيدا من التوسع، اتجهنا صوب المعنى اللغوي للإلهام لنكشف صلاته بالإلقاء والتلقي.

أتى في اللسان "وألهمه الله خيرا: لقنه إياه، واستلهمه إياه:سأله أن يلهمه إياه. والإلهام: ما يلقى في الروع. الإلهام أن يلقي الله في النفس أمرا يبعثه على الفعل أو الترك وهو نوع من الوحي" [7].

فالإلهام على نحو ما جاء في اللغة إذا هو نوع من الإلقاء إما في النفس أو الروع على حد تعبير ابن منظور.

لكـن من الذي كان يقـوم بإلقاء الشعـر إلى الشعـراء؟

لقد ظل مصدر الشعر قضية مبهمة غير واضحة بسبب اختلاف الناس في من يمد المبدعين ومن يلهمهم، وهكذا اختلفت التفسيرات بحسب المرجعيات الفلسفية والأدبية.

لقد "بقي الغموض يكتنف إبداع الفنان وشخصيته مدة طويلة، وصار الفلاسفة والنقاد القدامى أمام هذا الغموض وعللوه تعليلات شـتى... وربطه قدماء الـعرب بالشيطان وبوادي عبقر وأن لكل شاعر شيطان" [8].

إن القول بالإلهام في الشعر يقتضي وجود ملهم يمد الشعراء بالقول الذي يلقيه عليهم. وهذه المسألة ثابتة عند العرب، أفرد لها أبو زيد القرشي في جمهرته بابا حيث نسب الشعر إلى الشياطين والجن التي تلقيه على الشعراء. وفي رواية أن رجلا التقى جانا هو هبيد ولم يكن يعرفه أول الأمر فسأله الرجل "أتروي من أشعار العرب شيئا؟ قال: نعم أروي وأقول قولا فائقا مبرزا. قلت: فأسمعني من قولك ما أحببت، فأنشأ يقول: [9]

طاف الخيـال علينا ليلـة الوادي مـن آل سلـمى ولم يلملـم بميعاد

أنى اهتديـت لركب طـال ليلهم في سبسـب ذات دكـداك وأعقـاد"

نلاحظ من خلال هذه الرواية أن الجن كانت تجمع إلى جانب الرواية قول الشعر، وليس أي شعر، بل الفائق منه الذي يأتي على لسان الشعراء المبرزين. فالشعر أعلاه لعبيد بن الأبرص، يقول الرجل المذكور في الرواية السالفة بعد سماعه البيتين "لهذا الشعر أشهر في معد بن عدنان من الفرس الأبلق في الدهم العراب، هذا لعبيد بن الأبرص الأسدي، قال: ومن عبيد لولا هبيد؟ فقلت: ومن هبيد؟ فأنشأ يقول: [10]

أنا ابن الصلادم أدعى الهـبيـد حبـوت القـوافـي قـرمي أسـد
عـبيـدا حبـوت بمأثــورة وأنطقـت بشـرا على غيـر كـد
ولاذ بمـدرك رهـط الكـميت مــلاذا عزيـزا ومجـدا وجـد
منحنـاهم الشعر عـن قـدرة فهل تشـكـر اليـوم هـذا معـد

ويختتم هذا الحوار بين الجني والإنسي بعرض الأول على الثاني عسا من لبن ظباء، يقول الرجل "فكرهته لزهومته فقلت إليك، فأخذه ثم قال امض... فصاح من خلفي: أما إنك لو كرعت في العس لأصبحت أشعر في قومك" [11].

تكشف لنا هذا الرواية، على الرغم مما قد يعتريها من بعد أسطوري، أن مصدر الإبداع، قوى غيبية وهي الجن والشياطين، كما تبرز لنا أن هذه القوى لا تملك غير الشعر الجيد، فحتى لبنها الذي هو في الأصل لبن ظباء يحتوي طاقة خلاقة من الإبداع جعلت ذلك الرجل يشعر بالندم لامتناعه عن شرب اللبن، وأنشأ يقول أسفا: [12]

أسفت على عـس الهبيد وشـربه لقــدم حرمتنـيه صـروف المقـادر

ولو أننـي إذ ذاك كنـت شربتـه لأضحيت في قومي لهم خيـر شـاعر

ويثير انتباه القارئ المتلقي، ربط الجني بيـن الشراب والشعر، و "هذه التتمة لا يتيسر لنا أن نحسن فهمها ما لم نتذكر مصطلح الإلقاء.. الشعـر يلقي في الفهم لكـن ما يلـقى هنا ليـس الشعر، إنه لبن زهم" [13].

وقد حـرص الشعراء على الإشارة لعملية الإلقاء والتلقي، هذه التي يتم بينهم وبين الجن، يقول الأعشى: [14]

فما كنـت ذا شعر ولكن حسبتني إذا مسحـل يسدي لي القـول أنطق

شريكان فيما بيننـا مـن هوادة صفـيـان: إنسـي وجن موفـق

يقول الباحث مجدي أحمد توفيق تعليقا على قول الأعشى: "ها هو مفهوم الإلقاء في ظهوره الأول الشاعر خالص لصاحبه الجني مسحل الجني هو الذي يقول ويسدي القول للشاعر" [15]

استنادا على هذه الروايات، نخلص إلى أن العرب كانت تعتقد في هذه القوى الغيبية، وتنسب إليها الشعر الجيد. إن إلهام الجن للشعراء وكذلك الشياطين، حيث كان يقال إن لكل شاعر شيطانه أيضا، يفضي إليه بالقول، لم تكن فكرة يؤمن بها بعض الناس في الجاهلية فحسب، بل تحكي لنا المصادر، أنها كانت مسلمة لا ينازع فيها أحد، وقد امتد الاعتقاد بها حتى بعد العصر الجاهلي، جاء في الموشح عن "ابن منذر، قال : أنشد رجلا الفرزدق شعرا له، قال كيف تراه؟ قال: أرى أن ترده على شيطانك لا يمتن به عليك" [16].

وجاء في الموشح عن الأصمعي "قال : عرض رجل على أبيه شعرا، فقال له: يا بني، ما بقي أحد إلا وقد عرض عليه الشيطان هذا الشعر فما قبله أحد غيرك" [17].

هذه أمثلة مختصرة، ولو رجعنا إلى تراثنا العربي، لوجدناه غاصا بالقصص والروايات التي تحكي صلات الجن بالإنس، وبالشعراء خاصة. وقد ارتأينا بسطها لبيان مصدر الشعر كما اعتقدته العرب، ثم لنقف عند أول محطة للتلقي عندهم.

ومن الخلاصات المهمة التي نصل إليها بعد هذا الحديث: إن الجن تشارك في عمليـة التلقي بواسطة ما تقوم به من إلقاء، إنها المرسل والشعراء هم المستقبلون عن هذه القوى الخفية، ثم بعد ذلك يقوم الشعراء بتوصيل شعرهم لعموم المتلقين.

والسامع المتلقي ينظر للشعر بعين الإعجاب والتقدير الكبير، لأنه يعتقد أنه من وحي تلك القوى الخارقة.

نستنتج مما سبق، أن رحلة الشعر تبدأ من الجن لتصل في نهاية المطاف إلى الجن، بمعنى أن هناك نقطة انطلاق ووصول واحدة.

هذا الارتباط بين الشعر والجن أكسبه خصوصية وتميزا، لا سيما و "عالم الجن والشياطين اختلط في الجزيرة العربية بالخير والشر. وأصبح عالم الجن والشياطين عالما متداخلا يعيش في واقع حياة العربي معيشة تامة. وكانت للجن قداستها في حياة العرب" [18].

ونحسب أن مبادرة الشعراء الفحول إلى الكشف عن أصحابهم من الجن في أشعارهم مظهر لهذه القداسة، يقول حسان بن ثابت: [19]

ولي صاحب مـن بني الشيصبان فطـورا أقـول وطـورا هـوه

وهذا جرير يقول أيضا: [20]

إني ليلقـى علي الشعـر مكتهـل مـن الشياطيـن إبليس الأباليس

ويعلق الثعالبي في ثمار القلوب على قول جرير هذا بقوله: "كانت الشعراء تزعم أن الشياطين تلقي على أفواهها الشعر، وتلقنها إياه، وتعينها عليه، وتدعي أن لكل فحل منهم شيطانا يقول الشعر على لسانه، فمن كان شيطانه أمرد كان شعره أجود" [21].

إذا كانت رواية الجمهرة السالف ذكرها، تربط بين شراب لبن الجن والشاعرية استنادا لقول الجني: "أما إنك لو كرعت في العس لأصبحت أشعر في قومك"، فإن هذه القولة للثعالبي تربط بين جودة الشعر، وصنف معين من الجن، وهو الأمرد من هنا نستخلص أن رؤية العرب للجن، ونفوذها على الشعراء، لم تكن تشمل الجن كلهم، ولا الشعراء جميعهم، إن العرب كانت تميز بين الجن وكذلك بين الشعراء، وهذا مظهر من الوعي باختلاف مقامات التلقي انطلاقا من تباين مقالات المبدعين. إن كل قصيدة جيدة تكشف عن نمط القوى الغيبية التي وراءها، وكلما كانت القصيدة آية من التعبير أوحت للمتلقين بعظم مصدرها. إن إحساس المتلقي العربي بجمال القصيدة وانتباهه إلى تباين الأثر الناجم عن سماعه الشعر، كل ذلك جعله يفصل بين الشعراء ويقيم فرقا بين أنواع الجن بقدر ما يفجرونه في الشاعر من طاقات الإبداع.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه ههنا، لماذا عزت العرب الشعر إلى الشياطين؟ يجيبنا الدكتور محمد العمري بقوله: "لقد كان الشعر غريبا في مواتاته وتمنعه، كما هو غريب في أثره الذي لم يجدوا له تفسيرا" [22].

تبدو الأسباب هنا نفسية بالأساس، إن القول بأثر القوى الغيبية في الشعراء من خلال إلهامها لهم، تعبير من عموم المتلقين، عما كانوا يجدونه في أنفسهم من انبهار أمام هذا الكلام الذي يتلى على مسامعهم، انبهار وإن كان يكشف لهم من جهة بعض جوانب الجمال الشعري، فإنه يكشف بالمقابل مظاهر عجزهم عن مضاهاة الشعراء الفحول، أو حتى القدرة على الرد عليهم.

ويربط الدكتور محمد العمري بين فكرة القول بالقوى الغيبية ممثلة في الجن وغرض الهجاء، في قوله: "وربمـا قوى بعض الشعراء الهجائيين هذا الميل إلى ربط الشعر بعالم الجن والشياطين باتخاذهم مجموعة من المظاهر والطقوس الغريبة التي ينتظر منها إحداث أثر في الخصم في مجالات الهجاء" [23].

يبدو من خلال النص، أن المتلقي يأتي في المقام الأول عند العرب لحظة ربطهم بين الجن والشعر. فالشاعر مقصده هو إحداث الأثر في المتلقي، من هنا يكون المهجو أكثر انفعالا للهجاء المقذع الذي يظن أن وراءه ذلك النمط من الجن الذي قيل عنه إنه أمرد كما أتى في تعليق الثعالبي.

لكن، هل الجن والشياطين حقيقية عاشها العرب في الواقع، أو كانت مجرد فكرة تقبع في الخيال؟ إنها أقرب إلى الأسطورة من الحقيقة فهي تندرج ضمن التناول الخرافي حسب الباحث توفيق الزبيدي.

ينطلق هذا الباحث من مرحلة الإبداع التي يرى أن العرب وقفت أمامها مندهشة، ذلك بأنها تبدأ بمعاناة يجدها المبدع في صوغ القصيدة، إن "حالة المعاناة حالة يكتنفها الغموض وهي مليئة بالأسرار مما جعل العرب يحيطونها بالاعتقادات الخرافية. وفي هذا المجال تتنزل ظاهرة شياطين الشعر. فلقد نزل القدامى الشاعر منزلة شخص غير عادي أخرجوه من الظاهرة البشرية ليجعلوه ضمن الجن" [24].

يجعل الباحث ربط العرب إبداع الشعر بالجن اعتقادا خرافيا لا أساس له من الواقع. كما أن الباحث نفسه، يذهب إلى عقد أواصر بين عسر العملية الإبداعية وإرجاعها إلى هذه القوى كما رأى من قبل الدكتور محمد العمري، قائلا: "فاستقصاء الأدبية وعدم التمكن من السيطرة عليها، دفع بعضهم إلى تفسيرها عن طريق الخرافة" [25].

ويخالفهم الباحث مجدي أحمد توفيق الرأي، حيث يعتبر أن ما جاء في الروايات المستشهد بها آنفا، ما "يجعلنا نأمل أن يعيد الدارسون النظر فيما يسمونه بفكرة شياطين الشعراء" [26].

ويقف هذا الباحث عند قول الثعالبي الذي أكد فيه زعم الشعراء إلقاء الشياطين على أفواهها الشعر، ونسبة الشعر الجيد إلى ما كان أمرد من الجن، قائلا: "ويشير هذا النص إلى أن العرب لم تستخدم فكرة القوى الغيبية في تفسير مصدر الإبداع فحسب، بل استخدمتها في تفسير الملاحظات النقدية بجودة الشعر ورداءته وبتفاضل الشعراء في معيار الجودة إننا لسنا أمام كلام في الخرافة لا قيمة له، إننا أمام أفكار نقدية هامة تعالج ظواهر الإبداع الفني" [27].

وإذا تركنا قضية صدق أو كذب هذه الروايات ومدى أسطوريتها جانبا، وتأملنا دلالاتها ومدى صلتها بالتلقي حجر زاوية هذا البحث، اكتشفنا أن نسبة الإبداع عموما والشعر بخاصة إلى هذه القوى الخفية دليل ساطع على وعي وإحساس العرب الكبيرين بالتلقي وصدورهم عن هذه الرؤية التي تربط الشعر بالأثر.

إن العرب لم تجد تفسيرا لفعل الإبداع نظرا لآثاره البالغة في النفوس، وهذا الأثر راجع إلى انفعالها للكلام الشعري دون سائر الكلام الذي كانت تتلقاه في مجالسها وأنديتها.

إن هذه النسبة، وتلك التهمة التي وجهت للشعراء لاستعانتهم بهذه القوى الغيبية، ليسا قدحا في حق الشعراء وليسا انتقاصا من قدر الشعر، بل إن ذلك رفع لمنزلة الشعر والشعراء واعتراف بجلال ما تقوله القصائد وما تجود به القرائح.

إن هذه الظاهرة، وإن لم تصح على أرض الواقع، فهي مسلمة عاشت في ضمائر المتلقين وفي أنفسهم وكانت مصدر إعجاب بالشعر وانبهار أمامه ولا غرو أن يحظى الشعراء باعتبار فائق ربما يصل درجة تقديس هذه القوى الخفية، ألا يستمد منها حسب زعمهم القول؟


[1استقبال النص عند العرب،للدكتور محمد المبارك، 91، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، ط 1/1999.

[2جمالية الألفة (النص ومتقبله في التراث النقدي)، لشكري المبخوت، 13، الحكمة قرطاج المجمع التونسي للعلوم والاداب والفنون، 1993

[3التلقي في النقد العربي القديم، رشيد يحياوي، مجلة علامات، 247، ج 19، المجلد 5، مارس 1996

[4استقبال النص عند العرب، 10

[5مفهوم الإبداع الفني في النقد العربي القديم لأحمد توفيق، 64، الهيئة المصرية العامة 1993

[6نفسه

[7مادة لهم في لسان العرب

[8مناهج الدراسات الأدبية الحديثة، د. عمر الطالب، 59، مطبعة النجاح الجديدة، ط 1/1988.

[9جمرة أشعار العرب في الجاهلية والإسلام لأبي زيد القرشي، تحقيق الدكتور محمد علي الهاشمي، ط 2/ دار القلم دمشق، 1/166.

[10نفسه، 1/167

[11نفسه، 1/168.

[12نفسه.

[13مفهوم الإبداع الفني، 57.

[14جمهرة أشعار العرب، 1/184.

[15مفهوم الإبداع الفني في النقد العربي القديم، 101.

[16الموشح في مأخذ العلماء على الشعراء في عدة أنواع من صناعة الشعر للمرزباني، 447 تحقيق علي محمد البجاوي، دار الفكر العربي.

[17نفسه، 451.

[18الأسطورة والشعر العربي.. المكونات الأولى، لأحمد شمس الدين الحجاجي، مجلةفصول، م 4، ع 2/ 1984، 45

[19ديوان حسان بن ثابت تحقيق الدكتور وليد عرفات، دار صادر، بيروت، 1/520.

[20المستدرك على دواوين شعراء العرب المطبوعة، للدكتور رضوان محمد حسين النجار، 315، معهد المخطوطات، نقلا عن نصوص المصطلح النقدي لدى الشعراء الجاهليين والإسلاميين، للدكتور الشاهد البوشيخي، 173، ط.1 / 1413هـ - 1993، مطبوعات النجاح الجديدة الدار البيضاء.

[21تمار القلوب في المضاف والمنسوب للثعالبي، 70، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار نهضة مصر ، القاهرة 1965.

[22البلاغة العربية أصولها وامتداداتها، د. محمد العمري، 48، افريقيا الشرق 1999.

[23نفسه.

[24مفهوم الأدبية في التراث النقدي إلى نهاية القرن الرابع، توفيق الزبيدي، 55، النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط 2، 1987.

[25نفسه، 59.

[26مفهوم الإبداع الفني، 56.

[27منهاج البلغاء وسراج الادباء، لحازم القرطاجني،تح محمد الحبيب بن الخوجة، 56، دار الغرب الاسلامي، بيروت لبنان ط 3/1986..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى