الخميس ٣١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
بقلم بسام الطعان

تصبحون على ندم

الأمل .. الحلم .. الفرح .. البراءة.. الطيبة.. الورد.. والعطر، كل هذه الأشياء غادرت وجهك المتألق كجبين الصباح يا عروس، غادرت دون وداع ولم تترك خلفها إلا الحزن والألم الذي لا يشبه الألم.

بريئة وحالمة كنت.. شيّدت من أحلامك بيتا تطل شرفته على وادٍ أخضر وأفق ازرق وقلت: "متى يأتي اليوم الأجمل". ثم سافرت مع الأحلام إلى حيث الحبيب الغائب، فحملك وأخذك إلى غابة يزنرها ضباب أحمر فاتح، وهناك، فرش صدره سريرا وثيرا، فتمددت فيه، وذهبت إلى ضفاف لينة من ندى، لكن أحلامك قـُتلت، وانطفأ بريق الشباب في عينيك، واشتعلت في ممرات شرايينك حرائق كادت تحولك إلى رماد.

قدموا لك عرضاً مغريا بالنسبة لهم فقلت بصوت لا خوف فيه:

ـ لا.. لا أريده حتى لوقدم لي ولكم مقابل أوزاننا ذهباً.

ـ ماذا تقول هذه المجنونة ؟ قالها والدك وهويلتفت إلى أمك التي بشرتك بالحياة السعيدة.

ألقيت بهذه الحياة السعيدة ومعها العريس تاجر الماشية الخمسيني في بركة الرفض والعناد، فانهالت على جسدك صفعات وركلات وصيحات شبه مجنونة، حينئذ صار النزيف حادا بين أركان قلبك.

حرموك من أمنيتك الأولى، فامتهنت القهر زمناً، ثم ابتدعت عشاً في غرفة من تعب وأنين وانتظرت، على أمل أن تتغير النفوس، ولكن كيف لنفوس ليس لها كبرياء، ولا تعرف الشبع أن تشبع؟
يوم الخميس، وفي الخامسة بتوقيت الخراب، حددوا موعد زفافك ، فخبأت جراحك، اخترت من الدروب أكثرها حرية، وصممت على هزيمة المهزلة، وقبل الموعد بنصف ساعة، خرجت من غرفتك، فاتسعت العيون، انفتحت الأفواه، وطارت منها عصافير الدهشة، أما أنت فكنت تضحكين، تضعين على وجهك قناعا كاريكاتورياً، وترتدين ثوبا ممزقا من أطرافه، وليس فيه غير السواد.

قلت بسخرية لاذعة:

ـ هذا هوالثوب المفضل لمثل هذا اليوم، أليس كذلك؟

ثم تابعت وأنت تبعثرين شعرك بأصابعك العشرة:

ـ حمقاء من باعت قلبها من أجل شيء فان.

هددوك، سخروا منك، ثم أجبروك على مسح القناع وارتداء ثوب الزفاف التقليدي.

تقدم العريس القصير ليتأبط ذراعك، ويسير بك نحوالسيارة الفارهة، فانطلقت الزغاريد وملأت سماء القرية في الجزيرة، فشعرت بأنها نحيب على شابة فقدت حياتها وهي في كامل صحتها، وبدوت كبالونة تسبح في فضاء فارغ ولا تعرف أين تستقر.

حثك العريس السعيد على ركوب السيارة، فنظرت إليه بقرف واضح، فبدا أمامك مثل شبح يصغر شيئا فشيئا، ثم يتحول إلى نقطة سوداء تكاد تكون غير مرئية، وفجأة سحبت يدك بعنف وقلت بصوت أردت أن يسمعه الجميع:

ـ كم أنت ساذج وغبي.

لم يتفوه بكلمة على الرغم من اتساع العيون من حوله، وإنما راح يبتسم وكأنه يقبض على سعادة غامرة.

وقفت أمام السيارة كشجرة حور تحمل على أغصانها أوراقا سوداء، وقبل أن تصعدي، التفت نحوأمك الباسمة، وأبيك المنتشي، وقلت بصوت هادىء:

ـ تصبحون على ندم.

ـ مع السلامة يابنتي. قالاها معا وراحا يوزعان الابتسامات عليك وعلى العريس بالتساوي، ربما لم يسمعا الجملة جيدا، أولم يفسراها.

يا وردة أرادوا سقايتها بالقار، كجريحة فيها بقايا روح وذاهبة إلى مثواها الأخير رغماً عنها كنت وأنت تجلسين إلى جانب العريس الذي يحلم بأشياء حلوة ولذيذة تحت ضوء أحمر خافت، فجأة سمعت هسيس كلمات تأتي من جهة القلب:" عند أول فرصة سنهرب، ولن نسمح لهذا الشبح المعبأ بالقبح والغباء أن يدنس هذا الجسد الطاهر".

فما كانت منك إلا أن ابتسمت، ظن العريس أتبتسمين له، فأزحت وجهك عنه بسرعة وأرسلت نظراتك نحوالبعيد.

قلب اللص دائم الخفقان، ونظراته سهام تنطلق بخط مستقيم نحوالهدف.
في البلدة القريبة، وفي المكان المخصص لكما في ساحة النادي المكتظ بأنواع عديدة من الفرح، أجلسوك إلى جانب العريس، ولأنه لم ير فيك غير ما يشتهي ويريد، لم يرفع بصره عنك، بينما نبضات قلبه تتصارع داخل ضلوعه، وأنت يا عروس، رحت تعلنين موت الدنيا كلها ـ ما عدا الحبيب الضالع في دمك ـ في عينيك.

انتشى العريس، فطلب منك مشاركته الرقص، فنظرت إليه بعينين ذابلتين، شعرت بأنك تتفتتين إلى قطع صغيرة يصعب جمعها، بحثت عمن يمــتص حزنك الشامل، ويقتل العويل المتصاعد من نفسك، ولكن كيف والعالم كله صار ضدك، عندئذ قلت للعريس وأنت تتصنعين الفرح:

ـ سأقضي حاجة وأعود.

أراد مرافقتك لكنك صممت على ألا يحدث ذلك، فنادى إحدى قريباته كي ترافقك، لكنك طلبت منها مع ابتسامة أن تبقى في مكانها.

خلسة، وبعد دقائق كنت على سطح البناء المطل على ساحة الرقص، وقفت على الحافة كحمامة بيضاء، ألقيت بالإكليل وأطلقت صيحات الاحتجاج:

ـ ليسمع الجميع.. من يقترب مني فسأرمي بنفسي على الأرض، وهذا الذي يسمي نفسه عريسي لا أريده وليذهب إلى الجحيم.
توقف الرقص، والعزف، والغناء، والأطفال عن اللهووالركض، واتجه نحوك جيش من العيون المندهشة، وتحول العريس إلى تمثال أسود لا ينطق إلا بوحي من الصمت وربما الخجل، وبعد عشر دقائق أوأكثر من الرجاء والتوسل، الهجوم والانسحاب، التهديد والوعيد، جاء والدك مهرولاً، ومن خلفه أمك وأختك.

ـ انزلي قبل أن أصعد إليك وأذبحك. صاح والدك بغضب وهويكاد ينفجر.

ـ بعتني لهذا من أجل المال ولم تسأل إن كان لي قلب . صحت وأنت تشيرين إلى التمثال.

ـ انزلي يابنتي وارضي بقدرك ونصيبك .. عريسك رجل طيب وستعرفين معه طعم السعادة. صاحت أمك وهي تلطم خديها.

ـ انزلي يا أختي ولن يكون إلا ما تريدين . صاحت أختك وهي تبكي.

ـ لا تنزلي. قال قلبك.

ـ إياك والاستسلام. همست روحك.

ـ لا تفعلي ولا تخافي. قالت نفسك.

ـ لن أنزل قبل أن يطلقني . قلت وأنت جاهزة للطيران نحوالأرض.

حاول العريس الصعود خفية، لكنك انتبهت إليه وصحت بصوت غاضب:

ـ ارجع أيها الغشيم.. متى ستفهم منطق القلوب.. ارجع وإلا سألقي بنفسي.

توقف في مكانه، وبدا وكأن سكيناً صدئة مغروزة في صدره، اقتربت منه امرأة ثخينة وبخته بشــدة ثم نعتته بكلام لا ينطبق إلا عليه، آنئذ، تغيرت ملامحه، تقدم نحووالدك الساكن في دوامة، رفع سبابته في وجهه وقال بعصبية كلاماً لم يسمعه الجميع، فغرز والدك سيوف نظراته في وجهه، ثم أرسل إلى خده لطمة قوية جعلت اللعاب ينساب من بين شفتيه الغليظتين، وبعد لحظـــات، انتفضت الأجساد، تمزقت الثياب، ظـهرت العورات، اختلط الحابل بالنابل، وسـال الدم، وظل يجري.. يجري، ويأخذ معه الرجال والشباب والنساء والفتيات إلى مستنقع آسن، وكنت وحدك تتفرجين، وقبل أن تنتهي المعركة، كنت قد تحولت إلى حمامة تطير إلى البعيد بعدما غسلت تجاعيد الحزن الواضحة فيها بماء زلال، وارتوت عيناها من فرح لا ينضب.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى