الاثنين ٤ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
بقلم محمد متولي محمود

خطـــــاب

دشمة حصينة ذات جدر معدنية محاطة بشكائر الرمل... مدفونة في باطن الأرض الرطب على الخطوط الأمامية للجبهة في ليلة من ليالي ديسمبر حيث تهب نسمات باردة - مختلطة بنسيم القناة - على الأذرع والوجوة الجامدة والأعين اليقظة والقلوب المتأججة المضطربة...

دشمة حصينة كالقوقع المستتر برمال المحيط ينطوي في باطنه على حبات لؤلؤ منضود... حبات لؤلؤ خلقتها المعاناة والألم سوف تغدويوما عقدا يزين جيد امرأة حسناء.. سمراء.. عبقة الجسد عبقرية المفاتن... كلما ازداد بها العمر كلما ازدادت جمالا... وكلما صهرتها المعاناة ازدادت بهاءا...

والسكون يطبق على الفضاء الشاسع إلا من صفير الريح وهذا القلب النابض واليد المرتجفة الممسكة بالقلم والورق والعين الشاردة والوجة المشوب بمسحة حزن تنعكس جلية على نور لمبة الجاز الخافت في باطن تلك القوقعة... تلك الدشمة الحصينة...

لا يزال يمسك بالقلم واضعا سنه على الورقة التي أمامه وفي عينيه تلوح بوارق اللهفة والانتظار كتلميذ في حصة إملاء... اليد ترتجف بارتجاف القلب والذهن يناجي الكلمات داعيا إياها إلى الحضور والعين تستحضر ذكريات ظن يوما أنها الخلود الأبدي وما كان يدري يوما أنها قد تصير مجرد ذكريات...

تنبة على صوت حفيف بجانبه... آه... لقد غاب عن الواقع لفترة طويلة حتى أنه لم يدري أين هو... ولج في بحور الذكريات حتى سرقه الوقت من قبل أن تسعفه الذكريات بالكلمات تاركا النور المنبعث من لمبة الجاز يضايق زميله في الدشمة... هذا الزميل الأخ... الدفعة كما يسمونه في الكلية الحربية... النقيب " شريف كامل "...

أدار وجهه ناحية " شريف " المتدثر بالمنامة الغارق في النوم... ابتسم ابتسامة حانية ما لبثت أن جفت على وجهه.. وغاض الوجة مرة أخرى بملامح الألم... وعاد مرة أخرى ينظر إلى الورقة المسجاة على المكتب يداعبها سن القلم قبل أن تبرق عيناه فيتحرك القلم على السطور يلونها بمداد الروح وفتات القلب المنصهر :

  " كم ترددت طويلا قبل أن أخط لك هذا الخطاب وسر ترددي هوحيرتي وحيرتي هذه كبحر مضطرم مليء بالحيتان الفاغرة فمها تتنازعني فيما بينها بينما أنا أتخبط بين تيارات الأعماق الصاعدة والهابطة أحاول الفكاك منها.. وما كنت أغرق في هذا اليم المضطرب قبل اليوم بل قبل اللحظة التي يجري فيها الآن قلمي على الأسطر السوداء بدمائي.. نعم.. تلك الأسطر السوداء كخيوط الحرير المنسدلة من مفرق رأسك الخمري - المسكر بعبقه وعبقريته - على جبهتك المشرقة وخديكي وظهرك... ولكن... هل لي أن أعتبر أن دمائي هي الحناء التي تخضب هذه الخصلات الحريرية كما تخضب الآن هذه الأسطر بتلك الكلمات الفقيرة ؟

بلى يا حياتي... لا... لست حياتي.. فأنت أعمق وأكثر خلودا من هذه الكلمة المحدودة بالزمن... كم من مرة كنت أهمس في أذنيكي بروحي المنصهرة في صورة أنفاس ملتهبة وكلمات " أنت حياتي "... وكم كنت مخطئا وكم أنا أهزأ من نفسي الآن لقولي لك هذه الكلمة وأنا على أعتاب أن أفقدها...

نعم... أنا على أعتاب أن أفقد حياتي الآن وأنا أقدمها في سبيل ما اعتدنا أن نسميه واجبا..
" الواجب ".. تلك الكلمة التي تنكرت لها هذا الصباح وأنا ألقن بالمهمة عندما هتف قلبي بأنك أنت واجبي المقدس وما دونك ليس واجبا.. ولكني سددت أذناي عن هذا النداء القلبي المحموم حتى حين وأنا أكاد أرى على " تختة الرمل " جثتي مضرجة بالدماء تعبث بها وحوش ضارية جارحة لا تحترم قدسية جسدي... ذلك الجسد الذي وهبته إياكي منذ سنوات فطهرته برحيق فمك وغذيته من أحضانك...

كدت أن أرفض الاشتراك في المهمة.. هممت بالانسحاب... وهنا غمرني ماء المحيط وتناوشتني الحيتان وتلاعبت بي تيارات الأعماق ما بين قسم أقسمته يوم تخرجي وحب يضطرم في قلبي إلى جانب حبك وهوحب وطني.. وحبي لك الذي منعني من أن أفعل فعلا أوصم به بوصمة الجبن مدى الحياة.. وصدقيني يا حبيبتي.. لن أسمح لنفسي بأن أحني رأسك يوما خجلا.. لن أسمح لنفسي إلا بأن أكون جديرا بامرأة مثلك...

صدقيني...

ولست مبالغا.. فهذه المهمة غير ما سبقها... إني أرى نهايتي... أراها يقينا...
ولكني لا أستطيع أن أخطوعلى بلاط المذبح من قبل أن أتوسل إليك خاشعا... اغفري لي... اغفري لي إن أصبت قلبك بذرة حزن.. إن أصبت عينيكي الصافيتين بقطرة دمع مريرة.. اغفري لي فإنه واجبي ولن أهرب منه...

واتركيني أنا أكتوي وروحي المغسولة بدمائي نتخبط في أعماق الجحيم.. ذلك الجحيم الذي سوف أعاني منه بعد ساعات عندما تشتاق رأسي المنهكة إلى صدرك.. عندما تترائين لي كسراب أظل أركض نحوه فلا أدركه..

غفرانك... فمعاناتي أعظم وأجل..

فقط يحدوني أمل أن أضمك يوما ما ضم أبدي خالد عندما نجتمع معا في مكان لا يعرف إلا الخلود... وحتى نصل إلى ذلك المكان اتركيني أتعذب بفقدك ولا تأملي أن أرتاح من ذلك العذاب... فلن أرتاح... لن أرتاح..

فإلى ذلك اليوم وإلى ذلك المكان يا خلودا لا ينتهي.. يا حياة لا تفنى.. يا نورا لا تنطفئ شمعته... "

وضع القلم فانداحت في قلبه راحة أم وضعت وليدها للتوفلم تعد تشعر بما يشتعل في باطنها من الألم... ونداءات داخل نفسه تتصاعد مع قرب ساعة الصفر... وعيناه تجولان في كل شيء تتفحصه وهى لا ترى بنور لمبة الجاز بل ترى الأشياء بنور آخر سطع في قلبه الآن.. وراح يدرك الأشياء كطفل في عمر الثانية ما انفك يكتشف دنياه للتوواللحظة...
طوى الرسالة... نهض بهدوء محركا كرسيه حركة محدودة حتى لا يحدث احتكاكه بالأرض صريرا يزعج " شريف "...

اقترب على أطراف أصابعه من سترة أفرول " شريف " المعلقة على مشجب بجانب سريره ودسها في جيب الأفرول الأيمن...

ألقى على " شريف " النائم نظرة حانية.. " لن أقول وداعا.. فأنا أدرك أنك سوف تلحق بي في جحيم الوحدة وفقد الأحباء.."

لسعته رغبة محمومة في أن يتملص من كل ذلك فانحنى على لمبة الجاز يطفئها وانسل خارجا من الدشمة بخطا سريعة...

أخذت ذبالة اللهب المنبعثة من لمبة الجاز تخفت رويدا رويدا حتى غاصت الدشمة في ظلمة عميقة وكأنها ذلك القوقع الصلب هيكله الهشة أحشاؤه وقد التقط الصياد حبة لؤلؤ من داخله ثم بذر الرمال فيه وتركه كي يستتر مرة أخرى بظلمة الأعماق وقاع المحيط ليبدأ رحلة جديدة من معاناة جديدة وألم بالغ وهويلد حبة لؤلؤ أخرى في انزواء وصمت...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى