الثلاثاء ٥ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
بقلم محمد متولي محمود

صورة

تروح هنا وهناك بلا توقف، إنها لا تهدأ، تغسل الملابس ثم تنشرها وتكنس الخيام لمن يطلب، عمل دائب متواصل بلا تواني، هذه الفتاة بأسمالها البالية، ببطنها المكورة، بوجهها الشاحب الممصوص، بلونها الذي يشبه الإسفلت حيث يمتزج السواد بلون التراب والطين، بأرجلها الحافية، بيديها المعروقتين، بشعرها البالي المتساقط، بنظره عينيها الساهمة، بفمها المرسوم في شبة ابتسامة تقول (هذا هوقدري) ترنو إلي بين الحين والآخر، ترنو بوجهها الذي لا يحمل أي تعبير غير تعبير الاستسلام للقدر، أم هواستسلام لأفعال البشر؟

تستمر في الحركة هنا وهناك، تطأ أقدامها الحافية الرمال الملتهبة في إصرار، كانت كأنها تتحدى الأقدار بالاستسلام لها، لا تشعر بحملها وكأنه غير موجود بالمرة , قفز إلى ذهني سؤال (هل هذه الفتاة متزوجة؟ أم أن حملها هذا من......) وبترت باقي السؤال من ذهني بالرغم من احتمال حدوثه أليست مستسلمة تماما للقدر أوأفعال البشر؟ سرحت بنظري فيمن حولي...هؤلاء الرجال من أبناء جنسها الجالسون في ظل الأشجار المعمرة العملاقة...هل منهم من هوأبوها؟ أخوها؟ قفزت المفارقة أمام عيني كالبهلوان فابتسمت في سخرية مريرة... فتاة تكدح تحت سياط الشمس المحرقة وفوق جمر الأرض الملتهب ورجال نائمون في ظلال الأشجار...يلعبون الكوتشينة في خشوع وكأنهم يتعبدون.... يتحاورون... يتسامرون.... لا أحد يهتم بها وكأنها لا شئ... يأتي ضابط من أبناء جنسها فيقذف لها بملابسه يأمرها بأن تغسلها... ها هوجندي من أحد أبناء حام بن نوح ينظر إليها باحتقار.... تتناول الملابس تضعها في دلو... تسير مطرقة ساهمة حيث حوض الماء... ترنومرة أخرى إلي بطرف عينيها... أتبعها بعيني... إنها تتحرك حركة آلية... إنها لا تتحرك من ذاتها ولكن يحركها شئ ما... أهوالقدر من يحركها أم... هي أفعال البشر؟ تغسل الملابس بنفس الآلية... تنشرها... ينقدها صاحب الملابس ورقة مالية... بنفس الحركة الآلية تضع الورقة المالية بين ثنايا صدرها...أما وجهها فلا يعبر عن شئ إلا الاستسلام. قفز السؤال إلى ذهني بصيغة أخرى (هل ما في بطنها هونتيجة لحركة آلية ما من نوع آخر من أجل ورقة مالية؟ أم من أجل بضعة أوراق؟) أما لحركتها هذه من نهاية؟

تذهب إلى أحد أبناء حام بن نوح... تمد له يدها المعروقة...يقذفها بنظرة نارية... يصرخ... يصيح في وجهها... يحدثها بلغة ساكني الغابات وأعالي الأشجار... يتموج وجهه تموجات قبيحة وهويصيح فيها... ولكنها لا تهتز... جمدت كالتمثال أمامه وهي مادة يدها إليه لا تطويها... أما ملامحها فلا شئ... في النهاية يمد يده في جيبه يخرج ورقة مالية... يقذفها على الأرض... تنحني... تلتقط الورقة... تنظر لي هذه المرة مدة طويلة وتتحدث ملامحها لأول مرة فيما يشبة الصراخ... صراخ ذبيح يائس من النجاة... تسألني بعينيها (أرأيت؟)

تتحرك مرة أخرى حيث ورقة مالية أخرى... تمر بأبناء وطنها وهم خاشعون أمام الكوتشينة تحت ظل الشجرة العتيقة... شجرة دارفور العملاقة النابعة من قلب معسكر مراقبي الاتحاد الإفريقي... تمر بهم كأنها لا شئ... أخذت أتأمل الرجال الدارفوريين وهم منهمكون في اللعب وكأن مصيرهم متعلق بالكوتشينة.... هل يكون مصير تلك الفتاة الدارفورية متعلق بهم؟ كيف؟
انتبهت إلى صوت هامس يحدثني بلهجة أهل دارفور التي اعتدتها... تحولت إلى مصدر الصوت فوجدتها هي... رمقتها بنظرة متسائلة... سألتني بلهجة متوسلة:

 ألا تريدني أن أغسل ملابسك يا جنابو؟

تفحصتها مليا ثم هززت رأسي بـ " لا "... استدارت... ثم راحت تبحث عن ورقة مالية من غيري.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى