الثلاثاء ٥ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
بقلم أحمد الخميسي

أساتذة وزملاء في حياتي

يضم كتاب أساتذة وزملاء في حياتي للدكتور محمد مندور نحو ثلاثين مقالا كتبها د. مندور في مختلف الصحف ما بين 1954- حتى 1964، ومقالا واحدا من مجلة الرسالة يعود تاريخه إلي عام 1945. وهي المرة الأولى التي تصدر فيها هذه المقالات في كتاب واحد.

وينطوي الكتاب على أكثر من رسالة حب، الأولى التي كان يبثها د. مندور بحكم تكوينه الإنساني والثقافي لينقل إليك في كل ما يكتبه محبة رجل كريم للحياة والتماس الأعذار لأخطائها والبحث على حد قوله عن: مواضع القوة والاستبشار والثقة في زماننا، تشعر بذلك سواء أكان د. مندور يعرض لخطبة التاج لديموستين المدافع عن حرية أثينا، أو حين يطالب الدولة بتكريم دريني خشبة، أو عندما يشير لأساتذته في مدرسة طنطا الثانوية فيضعهم على قدم المساواة مع طه حسين من حيث تأثيرهم في نفسه، أو عندما يكتب عن بلدته بمركز منيا القمح أو يقوم بتقديم زوجته الشاعرة ملك عبد العزيز.

تتضح بقوة في مقالات ذلك الكتاب ما يسميه د. مندور"الذاكرة العاطفية"، وهي جانب مما أشار إليه د. مندور تحت عنوان"المعدن النفسي"في مقاله عن مي زيادة. وكما أن رد الماء إلي عنصريه الأساسيين لا يفسر مذاقه، فإن تفكيك طبيعة المعدن النفسي لعوامل أولى تاريخية وطبقية وثقافية لا يقدم تفسيرا مرضيا، ذلك أن هناك شيئا آخر في كيمياء ذلك التفاعل يكسبه توجهه الذي يحكمه في صيغته النهائية. لقد ولد طه حسين وعباس العقاد في العام ذاته (1889) وعاش الاثنان طفولة على حافة الفقر وشبابا في ظروف تاريخية وتحديات واحدة، فإذا بالعقاد يتحول من كاتب الشعب الأول الذي يشتري الناس الصحف بفضله إلي كاتب رجعي يقاطع الناس الصحف بسببه ! أما طه حسين فيظل محافظا على اعتداله واستنارته وتعاطفه مع هموم الشعب. ما العامل الحاسم في ذلك ؟. كاتبان آخران هما سلامة موسى (1887) والمازني الذي ولد بعده بثلاث سنوات، الاثنان من أسر متوسطة، تعرفا إلي الثقافة الأوربية، أحدهما ظل مخلصا لدعوته للعدل حتى وفاته، والآخر اشتهر بأنه متشائم ساخر، يائس من كل شيء، وكل ما في الدنيا عنده"قبض الريح".

أعتقد أن د. مندور قد أصبح ما نعرفه ونقدره ليس بفضل جهده في تأسيس علم النقد الأدبي، لكن وأيضا بفضل طبيعته النفسية التي جعلته لا يفصل على امتداد حياته بين دوره كناقد أدبي، ودوره كمواطن يعتبر أن دفاعه عن الديمقراطية واجب حتى لو أفضى به إلي السجن، ودفاعه عن بلاده واجب يجعله يعتلي زعامة تيار الطليعة الوفدية المنشق على باشوات الوفد، والتزامه بقضايا مجتمعه ضرورة حتى لو تعرض لاضطهاد حكومة إسماعيل صدقي، وهذا تحديدا ما يسوق د. مندور إلي إنشاء المجلات، وترسيخ مبدأ أن العلاقات الداخلية للعمل الأدبي تتضح على ضوء الصلة بين العمل ومحيطه الاجتماعي والثقافي في مقاله"النقد الأيديولوجي". لهذا كله يقول د. مندور في نهاية مقاله عن أحمد لطفي السيد:"إن العلم بلا ضمير ما هو إلا خراب للنفوس". ومن هذا الربط الوثيق بين دور المثقف ودور المواطن تشكلت قيمة د. مندور الكبرى، وفي هذا الربط ظهر"معدنه النفسي".

يضم الكتاب مقالين عن رائد لم ينل حقه الأول بعنوان"الرائد سلامة موسى"والثاني"سلامة موسى المفترى عليه"، ويلفت د. مندور النظر إلي دور ذلك المفكر:"كرائد من أكبر رواد الفكر العربي المعاصر"ويعتبر د. مندور نفسه على حد قوله"من تلاميذ سلامة موسى ومحبيه". وهناك مقال آخر جميل بعنوان"المنفلوطي أديب تقدمي"يعرض فيه د. مندور القضية التي عرفت باسم قضية السفهاء حين رجع الخديو عباس الثاني من رحلة ترفيهية عام 1897 فوزع البعض قصيدة على مستقبليه تهجو الخديو. ولم يعرف أحد إلي الآن مؤلفها، لكن الشكوك حامت حول ثلاثة أدباء تم اعتقالهم ومحاكمتهم ! وكان مطلع القصيدة يقول:

قدوم ولكن لا أقول سعيد.. وملك وإن طال سيبيد !

وحاول الشاعر أحمد شوقي التغطية على القصيدة بأخرى مشابهة جاء في مطلعها:

قدوم ولكني أقول سعيد.. وملك وإن طال المدى سيزيد !

الكتاب ينطوي على رسالة حب أخرى مرسلة من د. طارق مندور لوالده العظيم، حين جمع د. طارق تلك المقالات ونشرها في سلسلة"كتاب الثقافة الجديدة"لتكون رسالة لوالده أن محبته باقية، وليؤكد لنا نحن أن الوفاء للراحلين قيمة إنسانية عطرة وعزيزة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى