الخميس ٧ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
بقلم عادل الأسطة

تلك القدس ... ذلك السبت

وقصص قديمة أخرى

الوجه الجميل والبناية

لو قص محمد العبد الله عليكم ما كان رآه لقلتم: لعله الزمن ترك علامات أقرب إلى الجنون منها إلى أي شيء آخر على هذا السوداوي المدعو محمد العبد الله، الذي أراد أن يبث اليأس في قلوب الآخرين لأنه عاني من احباطات متتالية. والحقيقة أن محمد العبد الله الذي سكن في أحياء فقيرة أعواماً طوالاً، ثم انتقل قبل عام ليسكن في حي راق من أحياء نابلس لم يكن ليختلف كثيراً عن الآخرين في إصدار الحكم نفسه لو أن شخصاً ما قص عليه الحكاية ذاتها.

ولقد تردد محمد العبد الله في البداية، ولام نفسه التي راودته على إخبار الآخرين بالحكاية، فمحمد العبد الله هذا لم يكن من قبل يكتم سراً تماماً مثل والده الذي كان يبدو وكأنه محطة إذاعة للبث المباشر، وكثيرون من معارفه كانوا قد ابتعدوا عنه لخصلته هذه، وكان محمد يدرك ذلك وحين تذكر عظم ما رآه وغرابته قال مخاطباً نفسه:

  لا بد من كتمان السر وإلا فألف لعنة ستحل بي.
وأضاف:

  يجب اعتبار ما رؤي وكأنه لم ير.
بل ولقد أصر على كتمان الأمر حين فكر جدياً بالمرحلة التي يحياها شعبه الفلسطيني وخاف على نفسه إن حاول أن يقص ما رأى، ولم يكن خائفاً من السجن بقدر ما كان خائفاً من الاتهامات التي ستوجه إليه من جهات ما من أبناء قومه ممن يقولون إنهم يعملون لصالح الوطن، فكيف إذا كان حديثه يتعلق بواحد منهم كما عرف فيما بعد.

وهمس في سره:
  يا ولد مالك وللأمر. هنالك من هم أعلى منك وأشهر، فدعها تخرج من أفواههم وهم لا شك يرون ما رأيت، ويعلمون ما تعلم ويصلهم الكثير الكثير، فان كنت تعرف قصة، فهم يعرفون قصصاً، كما أن الوجه الجميل إليهم أقرب، وهم به أعرف.

وتابع محمد العبد حواره مع ذاته مقنعاً إياها بكتمان السر.
  إن الثرثرة لا تجدي والبون شاسع بين ما ستقوله وبين ما سيقوله الآخرون ومنهم صاحب الوجه الجميل. فلقد دفع صاحب الوجه الجميل دمه ثمناً، ولا شك أن كلمته مسموعة، وإن لم تكن كذلك فلا رد الله الدنيا حين تتداعى أركانها، وتابع محمد العبد الله.

  وأنت .. من أنت؟ عبد فقير .. كثير الحزن .. دائم الشكوى .. فاقد الأمل.
غير أن محمد العبد الله تراجع عن قراره وقرر أن يقص ما رأى على الرغم من أنه ليس قصاصاً ماهراً، ولقد كان سبب إصراره، رؤيته المتكررة للوجه الجميل، مصراً على قول شيء ما من خلال محمد العبد الله. ومما حدا أيضاً به إلى قص ما رأى أن الوجه الجميل كان يوميء له بحركات يشعر معها محمد وكأنه ملوم تارة، أو كأنه جبان طوراً .. أو هكذا يخيل إليه .. وفي فترات لاحقة كانت تعابير الوجه الجميل، كما قال محمد العبد الله، فيما بعد، تتهمه بالخيانة.
ولقد قال محمد العبد الله في البداية: جبان جبان، وتابع ومن الشجاع فينا سوى أولئك الذين حملوا أرواحهم على أكفهم وساروا باتجاه الوطن. وأضاف: ومن الشجاع فينا سوى أولئك الذين ضحوا...

ولكن محمد حين تصور أنه خائن، كما أوحت إليه تعابير الوجه الجميل في فترة متأخرة، قرر بلا تراجع، وأعلن أنه سيقص الحكاية، حتى ولو كلفه ذلك حياته، أنه رأى أن في اتهامه بالجنون أمراً طبيعياً من منطلق يقول أن من يتهم بالجنون في أيامنا هذه هو العاقل بعينه، ذلك أنه ليس سوى الإنسان الذي أدرك الحقيقة كلها ولم يستطع أن يعيش كالبهائم، ولو فعل وعاش كالبهائم لما اتهم بالجنون، وسيقال عنه ساعتها أنه عاقل ومؤدب، وواقعي، ومتزن.

كما رأى محمد العبد الله في اتهامه بالجنون ما لا يعيبه، وبرر ذلك بعدة مبررات منها أن بنيته الجسمانية خلقت ضعيفة هكذا، ومنها أن والده كان يطلب منه دائماً أن لا يتدخل في الآخرين، وأن يقابل الإساءة بالإحسان، وأن يدير خده الأيسر لمن لطمه على خده الأيمن، ومنها أن معلمه كان يطلب منه أن لا يعاشر الطلاب المشاكسين، ثم نظر محمد العبد الله في من حوله وضحك قائلاً بصوت مرتفع:

  ومن الشجاع فينا، فها نحن نموت، وها نحن نطرد، وها نحن نجوع، وها هو رؤوف الرافع ذو الجثة الضخمة الذي كان ينازل أربعة أشخاص ويفتخر بأنه يقاتل عشرة يقلع ثيابه على مرأى الكثيرين، حين أمره أحد حرس الحدود، بل وذهب إلى أبعد من ذلك، فها هم عربه كلهم يستجدون من الآخرين أن يتدخلوا من أجل مد عاصمة من عواصمهم بالماء والكهرباء.

لكن محمد العبد الله استكثر على نفسه أن يكون خائناً، فهو واحد من الذين رفضوا في البداية حمل الهوية الإسرائيلية، وهو واحد من الذين يشعرون بالغثيان حين يقرأون اسماً حروفه أجنبية، وهو واحد من الذين طالبوا رجال الدين بإصدار حكم قاس يعتبر الذين يتعاملون مع عدوهم من ذوي الكبائر، بل من المشركين، فكيف إذن يتهم بالخيانة؟ لقد بدا له هذا الاتهام أمراً خطيراً، وأقسى وأمر من حبل المشنقة. وقال هامساً:

  لعنه الله إذن علي لو كنت كذلك. إنني لن أعدو أن أكون ساعتها سوى دابة تعدو، بل لعل الدابة أفضل مني، وإن لم تكن أفضل فهي على الأقل لا تؤذي الآخرين.

لقد ازدادت قناعته في قص ما رأى حين تكرر حدوث الشيء غير مرة، ولقد فكر ذات مرة أن يصطحب شخصاً ما معه ليرى ما يرى، غير أنه تراجع حين خطر بباله أن الوجه الجميل لا يظهر حين يرى شخصاً آخر، وبدأ يفكر: على من أولا سأقص الرؤية.
بدأ يتذكر أصدقاءه المقربين ليخبرهم أولا وليستمع إلى رأيهم، فأن شجعوه على ذلك، فسيستمر في قص ما رأى، بل وسيذهب أبعد من ذلك، إذ رأى أنه سيكتب الحكاية وينشرها في الصحافة، غير آبه برأي واحد من أصدقائه، يكرر دائماً على مسمعه عبارة أن الناس في بلادنا لا يقرأون، وأنهم يسخرون من الشعراء والقصاصين وعامة الأدباء، ويتهمونهم بأنهم خياليون يرفضون الانعتاق من مرحلة الطفولة. وكان صديقه الفنان التشكيلي أول من استمع إلى الحكاية وأعجب بها أيما إعجاب، إذ أدرك للوهلة الأولى المغزى الذي تذهب إليه، وأنه كان يحث الآخرين على الكتابة في هذا الموضوع، غير أنهم كانوا هيابين. ثم حين قصها على صديق له يعمل في الصحافة طلب منه أن يكتبها على شكل مقالة وينشرها بسرعة.
وإذ دهش محمد العبد الله قائلاً:

  وهل تنشرونها في صحيفتكم؟
أجابه الصحفي:
  بالتأكيد.
ولقد فرح محمد العبد الله كثيراً، فالصحافة كثيراً ما تحتاط في نشر رؤى غريبة في مرحلة نحتاج فيها إلى التفسيرات العقلية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد ترى الصحافة في الرؤية ما يناقض خطها السياسي أو الفكري.
ولقد ازداد إصرار محمد العبد الله على قص الحكاية حين شجعه آخرون، ممن لا يشك في أمرهم.
هل ما أراه يحدث فعلاً؟
سأل محمد العبد نفسه وترك المجال لمخيلته:

  عليك السلام يا رسول الله يا حبيبي يا رسول الله هل هذا هو الزمن؟ قل أعوذ برب الناس، ملك الناس إله ا

لناس، من شر الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس، من الجنة والناس. هل هذا هو الزمن؟ هل يصيح الحجر؟ قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق، ومن شر غاسق إذا وقب، ومن شر النفاثات في العقد، هل يصيح الحجر؟ ولكن أين شجر الغرقد.
ونظر محمد العبد الله حوله فلم يجد شجر الغرقد، واسترجع ما كان سمعه قبل عام، حين كان في بلد عربي قريب، ثم عاود النظر:
  ولكن أين شجر الغرقد؟ لعلي لا أعرفه. لقد جبت هذا الوطن من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه، فلم أعثر عليه. قلت: الذي أخبر العرب هناك كذب عليهم. لعله أراد أن يبث الأمل في نفوسهم في زمن الهزائم. وهل يصيح الحجر؟
وظل الوجوم مسيطراً على ملامح محمد العبد الله. فلقد ابتعد عن البناية، ولكن ما رآه ظل ماثلاً في داخله. ولقد تراءت له أفكار كثيرة. غير أنه قرر أن يمر غداً في الساعة نفسها وحيداً. ولقد فعل ورأى ما رآه بالأمس. حدق هذه المرة في سور البناية، حدق في الوجه الذي ظهر خلف الحجارة.
  ها هو الوجه الذي رأيته بالأمس. ولكن من هو؟
وغاص محمد العبد الله عميقاً في ذاكرته. كان رأى وجوهاً كثيرة، فلقد سافر من بلده، وتجول في بلدان كثيرة ولم ير ما رآه بالأمس، حدق – لكن هذا الوجه يختلف ويختلف، يود أن يتكلم ولكنه يتراجع. لماذا؟ هل يخشى أن يسمعه صاحب العمارة فيهدم السور ويبني سوراً جديداً. هذا الوجه يختلف. لكأني أعرفه. ترى لماذ لم يخرج إلا حين أمر؟ لو كان غيـري رأى ما رأيت لفضح الدنيا. هذا الوجه ليس عدواً، الحجر لم يتكلم، شجر الغرقد يبدو مألوفاً ولكن ماذا يريد؟
ولقد قلب محمد العبد الله الأمر وحاول أن يتوصل إلى نتيجة، ولكن عبثاً حاول، ولقد كاد يصاب بالجنون. فلم ينم لليال عديدة وظل القلق رفيقه أينما حل؟ ولقد قرر أن يغادر المنطقة ولكنه تراجع، إذ أين سيذهب؟ أليس من العيب ألا يعرف السر الذي يكمن خلف هذه الحادثة؟ لقد اختار صاحب الوجه الجميل الوقت الذي يمر فيه محمد العبد الله، ولم يختر أي وقت آخر، وكأنما هو يريد أن يقول الشيء الذي يود قوله عن طريق محمد العبد الله، وكان هذا أحد الأسباب التي حدت بمحمد العبد الله أن يصل إلى السر. وكانت البناية محور اهتمامه:
  ما السر إذن؟ ما العلاقة بين الوجه الجميل وبين البناية؟ ثمة بنايات كثيرة في هذا الحي، فلماذا لا يختار الوجه الجميل إلا البناية هذه.
تبدو البناية متواضعة، غير أنها جميلة تحيط بها الورود البيض والحمر وفي الصيف تبدو أشجار العنب أجمل ما يكون .. تمنع أشعة الشمس من الوصول إلى الوجوه الممتلئة التي لا تفارقها الابتسامات، في ساعات الصباح يجتمع الأب الذي يرتدي معطفاً أنيقاً، والأم التي يبدو رداؤها أخاذاً، والأطفال الذين يلفظون الألفاظ لفظاً رقيقاً ناعماً، وبأيديهم أكواب الحليب، يجتمع هؤلاء جميعاً لينطلقوا في سيارتهم الأنيقة، الأنيقة.
ولقد لفت هذا الشيء انتباه محمد العبد الله، وقرر أن يعرف كل شيء عن صاحب البناية، ولقد كان ذلك صعباً صعوبة كبيرة. صحيح أن محمد العبد الله هذا يسكن في هذا الحي الراقي، ولكن أنى له أن يجالس صاحب البناية، فثمة فروقات كبيرة، أنه كما يقول دائماً يسكن هنا بالغلط.
ولقد عرف محمد العبد الله بعد وقت طويل أن صاحب العمارة، كان شخصاً عادياً جداً ذات نهار. لا يختلف وضعه عن وضع محمد العبد الله الذي، كما يقول، لن يصبح ذات نهار على غير ما هو عليه الآن، فراتبه يكاد يكفيه بالكاد، وفرص العمل هنا صعبة، والتجارة ليست حسنة و ... و ... كيف إذن ستتغير أحوالي؟ قال محمد العبد الله وتساءل: ولكن كيف تغيرت أحواله؟ ولقد توقف كثيراً عند لفظة التجارة هذه، ولكنه تابع: صحيح التجارة في أيامنا رابحة، ولكنه كان موظفاً. وكان ذا اهتمام بالسياسة. ومن ذا الذي يهتم بالسياسة وتتغير أحواله إلى الأفضل إلا ...
وكأنما فجأة اكتشف السر بدأ يسترجع أحاديث الناس، وبدأ يستذكر أشخاصاً اختلف وضعهم رأساً على قدم بين ليلة وضحاها. فهذا إبراهيم المزيد يذهب إلى بلد قريب، ويعود بعد أيام ثلاثة وقد اختلفت أحواله كلياً نحو الأفضل، وهذا المزارع الفني يبرطع و ... و ... وقال محمد العبد الله:
سوف أقول أيها الوجه الجميل. لن أجعلك حزيناً لن تصبح شعاراً أو حجراً في بناية، إنهم يتاجرون بدمائكم أيها الشهداء.
وتابع محمد العبد الله طريقه بخطوات صلبة، باحثاً عن أماكن يجتمع فيها الناس ليعلن على الملأ ما رآه بأم عينيه، وليخبر من يعنيهم الأمر أن الشهداء لن يكونوا حجارة في بناية. لن يكونوا حجارة في بناية.
.........................
من ماتوا ماتوا مرة
وأعاقر كأس الموت هنا في أيام السبت المرة
ألفي مرة
أمقتها، كم أمقتها أيام السبت
أرشقها بنبال الرفض وحشرجة القلب المذبوح
وأجدف تحت معاناتي وأئن وصدري مفتوح
يا وطني .. آه يا وطني
فدوى طوقان
تلك القدس ... ذلك السبت

حين أخذت أحدق في الساعة التي ثبتت على دوار الحسين في مدينة نابلس ترددت كثيراً قبل أن أذهب إلى مدينة القدس، وأمعنت النظر مرة أخرى لأرى عقارب الساعة، غير أنها ظلت في مكانها وكأن الزمن قد توقف في مدينة نابلس غير راغب في المسير. كانت الشوارع خالية إلا من بعض الباعة وبعض السيارات التي تقل الركاب، وكان صوت عبد الحليم حافظ يرتفع من إحدى المسجلات المثبته على عربة لبيع الأشرطة، ومع ارتفاع صوته كان بائع الأشرطة يرفع صوته مكرراً مردداً ما يكرره المغني: كل ما أملي معاي معاي وبأيدي سلاح. ولعلي تساءلت لحظتها إن كان بائع الأشرطة هو الذي أوقف الساعة عمداً، ليظل يعيش على الذكريات، غير أبه بالحاضر وبالمستقبل وما يحمله من تطورات، وقلت: لعله أدرك أن القادم أسوأ فقرر أن لا يعيش الانكسارات والهزائم.
كان الجو خريفياً، وطلبة المدارس الذين عادوا إلى بيوتهم لم يفضلوا التسكع هذا النهار، ذلك أن دوريات حرس الحدود كانت تجوب شوارع المدينة بكثرة، على عادتها كل سبت. وعدت بذاكرتي إلى الوراء: لقد كانت المدينة قبل شهرين مكتظة بالمواطنين، ليس أيام السبت وحسب، بل أيام الأسبوع كلها، لقد كان أبناء المدينة موجودين فيها بعد عودتهم من دول الخليج التي يعملون فيها، ثم غادروها بعد انتهاء أجازاتهم. وعادت المدينة خاوية إلا من شباب قليلي العدد وشيوخ ونساء وطلبة.
نطرت إلى الساعة مرة ثالثة، كانت عقاربها على ما هي عليه: واقفة لا تتحرك، وبدا زجاجها متسخاً، لدرجة أن أحد العقارب لم يكن واضحاً إلا قليلاً، ولقد ارتفع صوت وردة الجزائرية فيما خفت صوت عبد الحليم، وأخذت أسير نحو موقف سيارات القدس ملغياً حالة التردد التي كانت قد أصابتني. لقد كنت أود الذهاب لأعرف السبب الذي حال دون صدور الصفحة الأدبية في جريدة الشعب.
قبل أن أصل إلى موقف السيارات كان بائعو الخضار يصرخون لتسويق بضاعتهم مكررين مفردة: يا بلاش، وكان أحد المارة الذي يسير بمحاذاتي ينظر إلى الفاكهة، ولكنه أبداً لم يجرؤ على الاقتراب من العربات و "يابلاش" هذه كانت مزعجة له أشد ما يكون الإزعاج، ولقد أتضح لي ذلك حين علق على العبارة: انا ببلاش. ولقد كان محقاً فيما قاله، ذلك أن الأسعار كانت ترتفع بشكل لا يصدق، ولم تعد للنقود الإسرائيلية قيمة على الإطلاق، وكان الناس في نابلس كثيراً ما يقولون: ما ظل شيء أرخص من الإنسان.
ولقد زالت حالة التردد التي كانت قد اعترتني لحظة وصلت إلى موقف السيارات، ولم يعد من مقاعد السيارة فارغاً إلا مقعد واحد، وبلا أدنى تفكير وجدت نفسي جالساً على المقعد الشاغر. في البداية بدأت أقلب صفحات جريدة القدس التي اشتريتها صباحاً، ثم سرعان ما لفت انتباهي حديث بين شخصين بدا أنهما موظفان في أحد المعاهد العليا في الضفة الغربية. تحدثا عن المنح التي توفرها مؤسسة (الأمدايست) الأميركية للجامعات والمعاهد والبعثة التي سيحصل عليها احدهما. إذ كان قد قابل قبل، فترة، لتحديد موعد السفر، وكان عليه أن يتذكر موعد المقابلة، غير أنه أخفق في تحديد اليوم والتاريخ فطلب مساعدة زميله، الذي لم يتذكر من موعد المقابلة المذكور إلا حضور زميلة لهما كانت قد أحضرت معها ذلك اليوم سلة من التين. وهكذا فقد تذكرا يوم المقابلة: يوم أحضرت فلانة سلة التين. لقد ضحكت ضحكة مسموعة، حين علقت: تماماً كما ولد أخي يوم الثلجة.

وتذكرت الساعة التي ثبتتها بلدية نابلس على الدوار، وقلت: هل أصبحت الساعة شاهداً على عادات النابلسيين، وأبت إلا أن تصبح تماماً مثلهم؟

كنت أمعن النظر على جانبي الطريق حتى أنفق الوقت وأصل إلى القدس، فلقد كنت متلهفاً لمعرفة السبب، ولعلني قلت: لعلهم استغنوا عن خدماتي، كان معسكر حوارة هادئاً، ولم يبد حزيناً على الإطلاق. وقلت: أتراه لا يحزن على الأيام الخوالي؟ لقد كان معسكر حوارة معسكراً للجيش الأردني قبل عام 1967. ولا أذكر اليوم بالضبط أول مرة جئت إلى هذا المكان، غير أني ما زلت أذكر السبب: يومها كنت طالباً في الابتدائية، وبلا مقدمات طلب منا الأساتذة الاستعداد لاستقبال الملك حسين، ذلك أننا كثيراً ما كنا نخرج لاستقبال زائر أو ضيف أو مسؤول كبير. والمرة التي فجعنا فيها يوم كنا صغاراً، كانت يوم زار الحبيب بورقيبة القدس والضفة الغربية. ما زلت أذكر أننا وقفنا، نحن جميع طلبة المدارس، منذ الصباح لرؤية الرئيس، وكان الحر شديداً يومها، غير أننا لم ندر إن مر أو لا، وعدنا إلى بيوتنا نتساءل: هل مر الرئيس؟ قلت وأنا أرى بعض جنود جيش الدفاع الإسرائيلي: تلك الأيام دول؟ ولكنني أضفت: أما زال جيشاً للدفاع ؟.

كانت عقارب الساعة تسير ببطء شديد، والسائق الذي فتح المذياع على أخبار الظهيرة لم يبد معنياً بالوصول سريعاً. كانت يده اليمنى على المقود، فيما يده اليسرى على شباك السيارة، وكان يسير، لعله كان يفكر في أشياء كثيرة، لا أدري لم لم يتكلم عن ضريبة الدخل والضريبة الإضافية التي فرضتها سلطات الاحتلال قبل ثلاثة أعوام؟ لعله وجد أن الحديث مضيعة للوقت الضائع، وأن لا جدوى من الشكوى. وكنت الوحيد الذي علق على سائق سيارة إسرائيلية كان يسير بلا اكتراث في وسط الطريق: إذا كان العرب لا يسألون عنا فلم لا يستلطخنا؟

ولعل الجميع كان ينظر إلى المستوطنات التي أقيمت حديثاً، والى الطرق التي شقتها الجرافات الإسرائيلية، ولقد تذكرت لحظتها أقوال احد إخواننا من عرب الداخل يوم قال: تستطيع التمييز بين القرية العربية والمستوطنة الإسرائيلية من خلال نظرتك للشارع، فإذا كان واسعاً مسفلتا فاعلم أنه يؤدي إلى مستوطنة.

وحين وصلنا مشارف رام الله كان ثمة حاجز تفتيش. وبحركة لا إرادية وجدتني أضع يدي على جيبي لأتحسس الهوية الإسرائيلية، كانت ذات لون أزرق قاتل كسماء ذاك اليوم، لقد ناولته الهوية دون أن أتفوه بأية كلمة، وحين تحدث بالعبرية فهمت ما قال ولكنني تجاهلت تجاهل العارف، فما زلت اذكر ذلك اليوم الذي صفعت فيه صفعة لا تنسى. كنت ذاهباً إلى المدرسة التي أعلم فيها وطلب مني أحد حرس الحدود العودة، وحين حاولت أن أكلمه بالعبرية التي تعلمت قليلاً منها حديثاً أجابني:

  أنا أكلمك عربي.

كان ضجراً، ولعله كان حزيناً أيضاً، ولم أشأ يومها الإطالة في الحديث، ولكنني قلت: أنه درس ينبغي ألا ينسى.
في الطريق من رام الله إلى القدس، كانت البنايات تنتشر على طرفي الشارع، نظيفة أخاذة لافتة للنظر، وكان جميع من في السيارة ينظر حواليه، فيما همس أحد الموظفين لزميله:

  حي الصمود

وعقب الآخر.

  حقاً انه حي الصمود.

لقد كان الحديث يومها كثيراً عن الأموال التي ينفقها هؤلاء في غير مكانه، ويبدو أنهم نجحوا في الحصول على ما يريدون بعد أن خدعوا إخواننا الذين هناك، أي في خارج الوطن حين كانوا يزعمون أن القدس تضيع رويداً رويداً بسبب الصراع على الأرض وتعميرها، ولقد كانت الطريق من مستشفى العيون إلى جمعية الشبان المسيحية، فالقنصلية الأميركية، فموقف السيارات، قرب باب العامود، شبه فارغة وحين فتحت باب السيارة صرخ علي السائق:

  الأجرة

لقد كنت الوحيد الذي لم يعطه الأجرة، ويبدو أن إمعان النظر في جانبي الطريق هو الذي شغلني عن ذلك.
حين نظرت إلى باب العامود، وجدت سيلاً هائلاً من البشر، كأن المدينة هذه غير المدينة التي أعرفها وتساءلت: هل هي القدس؟؟ عشرات من البشر: رجال ونساء وأطفال من ذوي البشرة البيضاء والشعر الأشقر والعيون الزرق. قلت: يا الهي. أأحلم؟ أين أنا؟
اتجهت يساراً، كانت الإشارة الضوئية تحول دون قطع الشارع، فقد كان اللون البادي هو اللون الأحمر، كنت أحاول الانتقال إلى طرف الشارع ولكن الشرطي على مقربة مني. همست: كل شيء ضدنا، حتى الإشارة الضوئية. فكرت للحظات في أن أعود واستقل السيارة عائداً إلى نابلس، ولكني عزفت عن ذلك، نظرت إلى الأمام: كان الطريق الممتد من باب العامود إلى مكتب البريد مكتظاً بالبشر. كانوا كأولئك الذين أبصرتهم وهم يتجمعون أمام باب العامود. البشرة البيضاء والشعر الأشقر والعيون الزرق. ولقد بدوت للحظة شاذاً غريباً.
  أهذه هي القدس ؟
أذكر أول مرة جئت فيها إلى هذه المدينة. كان ذلك عام 1964م حين نظمت المدرسة التي كنت فيها رحلة مدرسية إلى البحر الميت فالقدس. كان الطقس ربيعياً وكان منظر السماء جميلاً. يومها اقتادنا المدرس عبر شوارع القدس وأزقتها حتى وصلنا إلى الصخرة. ويومها نظرت إلى السماء وأنا جالس على السور الذي يحيط بالمسجد الأقصى فأبصرت نوراً قلت لعله نور الجنة. كانت القدس في مخيلتي فيضا من الاشراقات، ولحظة غادرنا المكان حزنت كثيرا، كنت أتمنى لو أبقى هناك إلى الأبد، أقيم فيها وأظل حتى أدفن في مقابرها. أنظر إلى الناس فأرى وجوها أليفة وديعة هادئة. أما الآن فأبدو نغماً نشازاً فرداً فريداً، كأنما هبط من السماء، فجأة، على مكان لم يألفه ولم يره من قبل.

هبطت الطريق الفرعية المؤدية إلى مكاتب جريدة الشعب مسرعاً. صعدت الدرج درجتين درجتين، وفتحت الباب بلا استئذان، وسرت باتجاه رئيس التحرير الذي رحب بي كعادته، وبادرته متسائلاً عن السبب الذي حال دون صدور الصفحة الأدبية يوم الخميس، فقال إن الرقابة حذفت أجزاء كبيرة من مقال، ورفضت نشر مقال آخر وقصة قصيرة وقصيدة، ولم نكن طبعنا المواد الاحتياطية التي أرسلتها.

تحدثنا قليلاً عن الأدب والأوضاع السياسية والقدس يوم السبت، وبدا حزيناً. وقال: إذا ظلت الأوضاع على ما هي عليه فهذا حسن، وكنت أنظر إلى لوحة كتب عليها: تذكر أن الجريدة ستصدر غداً. ابتسم لقد كان الرقيب حاضراً حين كنت أحرر الصفحة ويحتل جزءاً من ذاكرتي، كما احتل أولئك الذين يسيرون في الشوارع مساحة القلب ليصاب بالتجلط. ودعته وقفلت عائداً إلى المدينة التي أتيت منها. ولأول مرة لم أفكر بالذهاب إلى مكتبة المحتسب في شارع صلاح الدين لرؤية الكتب وشراء ما أراه مناسباً. كنت أسير بخطى سريعة لأصل إلى موقف سيارات نابلس، غير آبه أيضا ببائع الكعك المقدسي الذي كان مشغولا ببيع ذوي البشرة البيضاء والشعر الأشقر، ذلك الذي عرفني لكثرة ما اشتريت منه، فقد كان لزاما علي أن اشتري، كلما زرت القدس، كعكا مقدسياً، ذلك أن أمي كانت توصيني باستمرار أن أحضره معي لأنه من المدينة المقدسة التي زارها الرسول وأسرى منها ليلاً. وتمنيت لو أنني أصل نابلس فجأة، فقد كانت القدس تختفي ولا أرى منها ما كنت أراه، وبدا لي – وأنا أسير – أنني في مكان آخر غير القدس، مكان لا أشعر فيه بالدفء، مكان يبعث في القلق والرعب والخوف، وحين اقتربت من المقهى القريب من موقف السيارات كانت إذاعة عربية تبث نشرة أخبار الساعة الثانية ظهراً، وكان المذيع يتحدث عن القدس والأهل الصامدين بصوت حاد، غير أنه بدا لي تافهاً وغير ذي بال، فقد كنت أصغر وأصغر ولا أقوى إطلاقاً على التحديق في وجوه الآخرين. لقد كنت فرداً شاذاً في هذا الجمع البشري الهادر. ولا شعورياً – وأنا أصعد السيارة – بدأت أقرأ سورة الفاتحة على المدينة التي كنت أعرفها.

مكان آخر للعشب

حين صحا مبكراً، كان أول شيء فعله قبل أن ينهض من فراشه أن تحسس قدميه، حمد الله حين تأكد من أنهما ما زالتا بخير، ولكن شعوره بالارتياح لم يستمر طويلاً، إذ سرعان ما انتابته حالة من الملل التي كثيراً ما تنتابه في ظهيرة أيام الصيف الحار أو في ضحى أيام الخريف، حين تبدو نابلس فارغة إلا من أولئك الرجال الطاعنين في السن، أو من حرس الحدود الذين يجوبون شوارع المدينة.
نهض من فراشه، ولم يلق تحية الصباح على زميله الذي يسكن معه في الغرفة نفسها، واتجه صوب المرحاض فالمغسلة، حيث اقتطع صاحب البيت جزءاً من مساحة الغرفة لانشائهما يوم فكر في تأجير الغرفة للطلبة. أشعل الغاز ووضع إناء الماء ثم توقف جانباً ينتظر حتى يسخن الماء. كان الجو بارداً جداً والثلوج التي تساقطت على حي الأشرفية في اليومين السابقين ما تزال آثارها باقية، وعاد بذاكرته الى أيامه الخوالي في نابلس، ولم يعده إلى لحظته إلا صوت فقاقيع الماء. أطفأ الغاز، وأخذ يفرغه في أبريق صنع من البلاستيك، ثم صب الماء على يده اليمنى، وفجأة أخرج صوتاً حاداً. كانت درجة حرارة الماء مرتفعة، ولم يفطن إلى تبريده. وجاء صوت زميله:
  تستحق،! حتى صباح الخير لم تقلها.

أشعل زميله النور، فقد كانت الغرفة مظلمة بعض الشيء، لكونها تقع في أسفل البناية، ولأن الغيوم كانت تحجب أشعة الشمس، ولم يحاول أن يتفوه بأية لفظة، واختلطت الأمكنة في ذهنه، ولم يعد الأمر يعينه كثيراً في تلك اللحظة، ولعله أيضاً أخذ لا يرى كبير فرق بين السواد الذي كان أسفل الإناء، بسبب وضعه، في بعض الأحايين، على صوبة علاء الدين التي أنعم عليهما بها بعض أقارب زميله، وبين ظلمة الغرفة التي بدت مثل زنزانة كان قد اعتقل فيها ذات مرة، على الرغم من ضوء الكهرباء. وحين انتهى من غسل وجهه أخذ يبحث عن المنشفة التي علقها على مسمار كان قد وضعه في مكان ما من الحائط، كانت المنشفة في مكانها، ولكنه في البداية لم يرها فأدار نظره في الغرفة، ثم أخرج صوتاً غير مفهوم مما أزعج صديقه الذي كان قد عاد إلى الفراش ليغفو بعض لحظات، عله يسرق من الوقت نصف ساعة نوم أخرى إضافية، ذلك أنه قد تأخر في عمله الإضافي الليلة الماضية، فقد كان على زميله أن يعمل ليل نهار لإرسال بعض النقود إلى أهله في مخيم عسكر قرب نابلس ولأخيه الذي يدرس في أميركا، ثم لينفق على نفسه أيضاً، فقد ترك له والده خمسة أخوة بين ذكور وإناث. ولما كان والده كبيراً في السن يوم تزوج، فقد كان عليه أن يكد ليطعم إخوته، ذلك أن والده فوق ذلك لم يعمر طويلاً بعد زواجه، ولقد بادره الكلام قائلاً:

  ماذا حدث؟

غير أنه لم يلق إجابة، إذ التزم الصمت ولم ير فائدة في إخباره، ثم أنه هو، فوق ذلك، لم يدر ما يقول، ففي اللحظة التي صحا فيها من نومه تحسس قدميه فوجدهما على ما هما عليه. ولكنه قال لزميله أن لا وقت لكي تنام، فالساعة السابعة والنصف، وليس أمامك سوى نصف ساعة للوصول إلى البنك العربي، وإلا فإن غضب الإدارة سيحل بك.
كان كل صباح يسير وزميله، يهبطان إلى قاع المدينة سيراً على الأقدام ليوفرا اثني عشر قرشاً على نفسيهما، وفي الطريق يتحدثان معاً عن المخيم والأهل والأصدقاء، وحين يصلان أول سقف السيل ينتهي الزمان الأول ليبدأ زمان آخر، ويزول المخيم من الذاكرة ليحتل سقف السيل سقف عقليهما معاً، العمال المصريون الذين تركوا مصر وجاءوا ليسببوا أزمة السير الخانقة، الإشارات الضوئية الخربة، وذلك السائق الذي يحاول رشوة الشرطي حتى لا يحرر له مخالفة قد لا يجمع نقودها طيلة يومين من العمل المتواصل، ثم بائعو الفلافل الذين كثروا كثرة مفرطة في أواخر السبعينات.
وفي ذلك الصباح اتجه نحو الباب ليرى إن كانت الغيوم تنزل خيراتها على رؤوس الناس، لاحظ الجو ماطراً، ثم أغلق الباب، فقد بدأ البرد يتسرب، وقال لزميله:

- سندفع اثني عشر قرشاً.
وعلى الرغم من أنه سيدفع، إلا أنه لم يشتم، لم يشتم الغيوم، ولم يشتم إدارة الجامعة التي لم توفر السكن للطلبة، ولم يشتم السواقين الذين رفعوا الأجرة مؤخراً، وبدا ذلك نشازاً، ولاحظ زميله ذلك، ثم علق:
- خيراً. لم تشتم هذا الصباح أحداً.
- ولكني قد أشتم عنك في المساء. لم يبق طويل وقت، والساعة تقارب الثامنة. كان باستمرار يكثر من التفوه بالشتائم على ذلك المسؤول الذي سرعان ما يوجه له إنذارا يوم يتأخر عن عمله خمس دقائق. ولم يكن ذاك المسؤول ليقتنع أن تأخيره إنما يعود إلى أزمة المواصلات، كان يقول له دائماً:

  اشتر سيارة. هذه مشكلتك.

خرجا من الغرفة، ولم يكترثا للشتيمة التي سمعاها من جارهما، فقد كان ذلك الجار كثيرا ما يشتمهما ويشتم صاحبة البيت التي أجرت الغرفة لشباب غير متزوجين، ثم كثيراً ما يشتم زوجته وأولاده حين لا يعطونه مبلغاً من المال، ليشتري به بعض المشروبات الروحية. لقد تعودا معاً على صراخ ذلك الرجل ولم يحاولا معرفة السبب الذي كان يدفع به للإكثار من شرب الخمر وشتيمة الآخرين، فقد كانا يريان حالات كثيرة في المخيم الذي كانا يسكنانه، وكانا يعرفان السبب الذي يدفع بهؤلاء الأشخاص إلى سلوك هذا السلوك.

كانت الغيوم قد شكلت حاجزاً كثيفاً بين الأرض وبين السماء، تماماً مثل ذلك الحاجز الذي حال بينه وبين الفرح في ذلك الصباح والذي يحول بينه وبين الفرح في كل صباح. لقد كانت الغربة، والدراسة المملة، ونشرات الأخبار وعناوين الجرائد والشوارع المتسخة ورائحة الفلافل، وقلة النقود، والطلبة المملون، وأزمة المواصلات، وصفارة الشرطي، لقد كانت هذه الأشياء كلها كريهة له، ولم يكن ليغض النظر عنها وينسى أنه إنما يقيم مؤقتاً في هذه المدينة التي لم يألفها منذ جاء إليها. وعلى الرغم من الأمطار الغزيرة، فقد كان الطلبة ينتظرون الحافلات لتقلهم إلى الجامعة، ومنهم من يردد بصوت خفيض أغنية لوردة كانت قد وصلت حديثاً مع آخر طائرة، كما أشارت لافتة كتبها بائع الأشرطة الذي يواجه موقف الباصات. وقف مع الواقفين ينتظر صعوده إلى الحافلة، ولما طال مجيئها استقل سيارة نقل إلى العبدلي ليتابع المسير من هناك. في السيارة كان ثمة طالبتان تقطنان جبل اللوبيدة، كانتا ترتديان ملابس أنيقة ورائحة العطر تفوح منهما.

قالت إحداهما للأخرى:

  لقد بلل المطر شعري، يا للخسارة لن يبدو منظري جميلاً.

وعلقت الثانية:

  لقد أخذ والدي سيارتي هذا الصباح، لأن سيارته خربة، ثم سخرتا من مدرس اللغة العربية لأنه يجهد نفسه في أثناء الحديث، ولا يتكلم إلا باللغة العربية الفصيحة، وأشارتا إلى أن اللغة الفرنسية تبدو أكثر جمالاً، كالأزياء الباريسية، وكقصة الشعر الفرنسية التي غالباً ما تكون أكثر القصات ملاءمة لوجهها.

كان يتابع حديث الفتاتين، ولكنه في اللحظة ذاتها ينظر إلى قدميه، يشعر قليلاً بالارتياح فينظر من زجاج نافذة السيارة، ولكن الخارج لا يبدو واضح الرؤية، فثمة طبقة خفيفة قد تراكمت على نافذة السيارة بحكم الاختلاف في درجة الحرارة، ولكنه يرى الشوارع خالية من حوادث الطرق ودماء الجرحى التي غالباً ما تبقى أثارها لساعات قليلة في الشارع.
على جانبي الشارع كانت البنايات ما زالت تكثر، وكان ينظر إلى هذه البنايات التي لم تكن قبل سنوات قليلة خلت على الإطلاق، وإنه ما زال يذكر تماماً كيف كانت الطريق بين دوار الداخلية والجامعة الأردنية خلوا إلا من المدينة الرياضية ومكاتب جريدة الرأي، أما الآن فالفنادق الكثيرة والعمارات السكنية الضخمة، والكلية العربية ومباني جريدة الشعب، والجسور الهوائية، والشوارع العريضة، ولكنها لم تبد له ذات قيمة أو ذات حضور، فقد كان يعاود النظر إلى قدميه ليراهما إن كانتا ما زالتا على ما هما عليه حتى مساء أمس. قبل حلم الليلة الماضية، الحلم الذي يتذكره الآن:
قدماه وقد ابيضتا ابيضاضاً لافتاً للنظر، وقد كبرتا أكثر ما يكون وفجأة كان العشب ينمو وينمو ويتطاول، إلى أعلى ثم ينفذ إلى أعمق أعماق قدميه. يحاول الوقوف فلا يستطيع، يحاول مرة أخرى فتتقصف الأعشاب ويبدأ الدم الأخضر.
كانت السيارة قد توقفت أمام بوابة الجامعة الأردنية، فيما أخذ الطلبة يركضون حتى لا يبللهم المطر، وكان هو يسير ببطء ينظر إلى قدميه تارة وطوراً إلى الفتيات اللاتي بدون أنيقات وهن يركضن أكثر مما بدون وهن داخل الحافلة.

فلاش باك

كانت نابلس هادئة تماما، فلقد انتهى ذلك الضجيج الذي تسببه باصات (ايجد) كل صباح حين تأتي لنقل العمال العرب إلى فلسطين، ولم يكن شارع فيصل يضج بالسيارات ذلك أن الطلبة لم يغادروا بيوتهم بسبب العطلة الصيفية، كان خالياً إلا من سيارات قليلة، وأما المحلات فما زالت مغلقة أبوابها، باستثناء بعض الباعة الذين كانوا ينتظرون السيارات التي تقل لهم الخبز، والفلاحات اللاتي يأتين من قرى سالم ودير الحطب وعزموط وروجيب ليبعن بعض ما أنتجنه من حليب وجبن ولبن. وكانت سيارة من سيارات حرس الحدود تجوب الشوارع ذهاباً وإياباً. في هذه الأثناء كان يغادر بيته من اجل الذهاب إلى مدينة حيفا ليحصل على بعض المعلومات من جريدة الاتحاد ومجلة الجديد اللتين تصدران في حيفا ويمنع توزيعهما في المناطق المحتلة، ولقد كان عليه أن يسير على الأقدام مسافة كيلو ونصف الكيلو حتى يصعد سيارة تقله إلى المدينة، وكان ينقل نظره بين القرى العربية النائمة وبين مستوطنة ألون موريه التي أقيمت حديثاً، ليرى الفرق بين البيوت التي بنيت بطريقة عشوائية وتلك البيوت التي بنيت بطريقة منظمة، ولأول مرة كان يرى القبح في الجمال والجمال في القبح، ولم ينقذه من محاولة فلسفة الأمر إلا رؤيته أحد الناس الذين قد عادوا لتوّهم من المدينة، ولقد أخذته الريبة مآخذ شتى، فلماذا يعود أبو محمد إلى بيته الآن في الصباح المبكر، ولما اقترب منه لم يترك له أبو محمد فرصة ليبادره السؤال، فقد قال له: ثمة انفجار هز المدينة كلها، ارجع إلى بيتك.

ولكنه تابع مسيره واستقل سيارة إلى المدينة، كان الناس يخرجون من بيوتهم ليعرفوا ماذا حدث، وكل منهم يسأل الآخر، ولكن أحداً لم يعرف ماذا حدث بالضبط وثمت أقاويل غير مؤكدة كانت تدور على الألسن، فمنهم من زعم أن هناك اشتباكاً حصل، ومنهم من قال أن باصاً للعمال قد فجر، وآخرون قال أن الانفجار وقع بالقرب من بيت رئيس البلدية، فيما كانت سيارة الشرطة تسير في الشوارع معلنة فرض نظام منع التجول على البلدة القديمة والأحياء المحيطة بها. وفجأة بدأ الناس يتراكضون صوب بيوتهم، فيما كان قسم من السيارات يسير في الطريق المؤدية صوب مستشفى رفيديا حيث تجمع عدد كبير من الناس، كانت الحركة قد هدأت رويداً رويداً، وبعد لحظات قدمت سيارات حرس الحدود لتفرق الجموع الكبيرة. وكان الخبر قد انتشر بين الناس، وبخاصة أن وكالات الأنباء قد عممته وأذاعته محطات الإذاعة. لقد فجر المستوطنون سيارات رؤساء البلديات في الضفة الغربية.

في منتصف الظهر كانت بعض السيارات تجوب شوارع المدينة التي لم يفرض عليها منع التجول، وكان التنقل يتم في الشوارع الفرعية، الجبل الشمالي، بليبوس، رأس العين، المقبرة الغربية، كان يجلس مع مجموعة من أولئك الرجال يثرثرون حول الذي حدث صبيحة هذا النهار، وعن الحكومة التي تقلب الدنيا رأسا على قدم حين يرجم طفل حجراً على سيارة وتدعي أنها لا تعرف شيئاً عن هذا الذي حدث، ولم يقطع عليهم حوارهم سوى صوت سيارة الإسعاف التي كانت تقترب من مكانهم، فيما ردد أحدهم:

  لقد مات الشكعة.

اقتربت السيارة، وحين أوقفها سائقها نزل منها رجلان، أحدهما شاب في العشرين، والثاني في الأربعين من العمر، كان القلق يبدو على وجهيهما وكان في يد الكبير كيس من الخيش مربوط من أعلاه، فيما عاد هذا ليحضر من السيارة فأساً ومجرفة أحضرهما معه لدفن من في الكيس. كان يسأل نفسه: ما الذي يريدان فعله؟ في تلك الأثناء لم يفكر كما كان يفكر دائماً حين يمر بالقرب من المقبرة الغربية في أمر بدا له عجيباً، ولعله سيبدو له أيضا في المستقبل، ولكنه في تلك اللحظة لم يبد كذلك، لم يفكر فيما كان يفكر فيه، ولم يسأل نفسه عن السر الذي يجعل بعض أغنياء المدينة يخصصون لأنفسهم جزءاً خاصا من المقبرة يدفنون فيه موتاهم، ويسيجون ذلك الجزء، ثم يزرعونه نخلاً، ولقد بدا مثل هذا التفكير ضرباً من الهبل إذ ثمة سؤال واحد كان يلح على تفكيره وهو: كيف يدفن الإنسان جزءاً من جسده ويبقى حياً؟

لقد كان الكيس يضم قدمي بسام الشكعة وفردتي حذائه، وكان الدم يكسوهما معاً. وحين انتهيا من دفن القدمين والحذاء، كان الرجلان قد غادرا وكان هو ينظر إلى المكان فيرى العشب وقد نما هنا، ويرى الأرض وقد اكتست العشب الأحمر، ولم يتساءل قط عن لون التراب المائل إلى الحمرة، فقد كان أدرك منذ زمن أن لون التراب إنما مال إلى الحمرة لأنه سقي بدماء الناس. ظل واقفاً للحظات، حاول النزول إلى قاع المدينة لكنه تذكر أن منطقة دوار تل الزعتر/ الحسين سابقاً، خاضعة أيضا لنظام منع التجول الذي فرض على المدينة هذا الصباح، ومع ذلك فقد غذ السير صوب شارع المطحنة، ليستقل من هناك سيارة إلى الحي الذي يقطن فيه، وفيما هو سائر كان ينظر إلى جانبي الشارع الخاليين إلا من مبان قليلة تبدو قديمة باهتة، ولم يكن منظر دفن القدمين وفردتي الحذاء الملطختين بالدم ليفارقة. كان يرى القدمين وقد بدتا تراباً وعليهما ينمو العشب، وينظر حوله فلا يرى سوى أقدام مورقة.

حلم عابر

تحدق في المرآة .. ها هو وجهك يشبه مثلثاً قاعدته إلى أعلى .. تفتح باب الغرفة – القبر .. تنظر إلى السماء .. ربما تمطر .. يرتفع صوتك: "سحقاً لهذا النهار" تضيف "لقد مللت الموت .. متى أعود إلى نابلس؟" تستدرك. ولكنه الاحتلال" تمشي في الغرفة وتسأل نفسك: والاحتلال يمتد حتى هنا والفرق أنك هناك تتحدى وهنا تصمت، فالتحدي هنا مرفوض لأنك ساعتها ستكون .. هكذا في نظرهم.

تنحدر الآن إلى قاع المدينة .. تبحلق في الوجوه علك تجد شخصاً تعرفه .. تنزعج هذا النهار .. إن العالم كله من الجنس الخشن .. هذا هو نهار الجمعة .. ما أسوأه من يوم لنا .. لنا نحن الذين لا نملك سيارة أو حتى ديناراً ندفعه من أجل التنزه في رحلة .. الوقت سكين حاد. ولكن هل تشعر هذي الجموع كما تشعر .. أنها تسير على الرصيف .. تمتثل للأوامر. سر مثلها. ولكن إلى أين تصل؟ هذي المدينة سوف تبتلعك. لست مميزاً ولكن السير دون تساؤل خنجر أخر. ابدأ إذن بقطع الشارع ولا تكترث للشرطي هذا ولشارة المرور تلك .. لا تكن كتلميذ مهذب في نظرهم. هنا يظهر لك أن بنايات المدينة الضخمة ليست جميلة .. حين يكون للمدينة قاع يجب أن تعيد النظر في كل شيء. هنا قاع .. لماذا قالوا: قاع ولم يقولوا: صخر. لماذا لم يقولوا: منحدر .. ليختاروا الاسم الذي يشاؤون .. الناس هنا تسير على الرصيف .. هذا هو المهم .. ترى من المخطيء أنت أم هذه الجموع؟ هل يظنون أنهم كل المدينة حتى يسيروا بصمت؟ هذه الطائرة التي يزعجك صوتها. تقول لك أن المدينة ليست كلها هنا. ثمة آخرون يعيشون في السماء. أنهم الآن في الطائرة يتجهون صوب أميركا أو فرنسا أو .. الخ اللعنة على هذه الطائرة كم تزعجك. بل اللعنة على الأسرة الواحدة. الذين في الطائرة يشربون الويسكي وأنت تخرج دون إفطار. تريد أن تختصر الوجبات هذا اليوم ..
يا الله كم أنت ممزق! من أين تأتيك هذه الأفكار السوداوية؟ اللعنة عليك فما الذي جعلك تغادر نابلس؟ تلك المدينة تحب أطفالها .. ليس جميعهم .. ولكن معظمهم يرسمون للزمن القادم خريطة جديدة .. الآن تقول أن نابلس جميلة .. وحين تكون فيها تقول .. ليخرس لسانك .. لا تقل شيئاً عنها .. هنا الناس تسير على الرصيف .. ولكنهم هناك يحاولون الخروج دوماً.
ولكن ماذا لو خالف هؤلاء أوامر الشرطي وقطعوا الشارع دون الاكتراث لصفارته المزعجة.
سحقاً لك .. سيسمعك الشرطي. ليسمع. هذه فوضوية .. اذن لتسر على الرصيف أيها التلميذ المهذب .. لم ينضج الوقت .. متى ينضج؟ في الصيف ليس الوقت حبة تفاح .. أنه شريحة من اللحم إن لم تضعه على النار بنفسك يظل نيئاً. أيه هذه الأمة تعشق الصمت والانتظار.. إنها قطعة لحم تحتاج إلى من يضعها. على أنها تصرخ وامعتصماه .. تنتظر حتى يفرغ المعتصم من ممارسة الجنس مع الأمة الجديدة. أنها تحب الفقر أيضا .. تتذكر كيف كان عمر يأكل ولا تتذكر قول أبي ذر .. رحماك أبا ذر كأنك لم تقل شيئاً .. إنها ترى أن المال مفسدة. حتماً سيمتدح هؤلاء قاع المدينة .. سيفخرون بأنهم اشتروا المعطف والبنطال بسعر زهيد .. يا الهك سيتباهون دون أن يعلموا أن فضلات أميركا تستر عوراتهم .. لتذهب أميركا الى الجحيم .. سيحتج البعض فها هي أثواب أناسها تستر عورات الآخرين. الله يستر على الذي يستر .. ليستر الله إذن على أميركا .. إنها تستر عورات الآخرين.

إلى أين تتجه؟ هؤلاء لا يتجهون صوب مكان محدد. ألا ترى أن قسماً يرتاح وهو واقف يستمع إلى صوت البائع. بعض منهم يتجهون نحو الجامعة، هؤلاء تقتلك نظراتهم .. إنهم يعيقون الآخرين .. سر مع السائرين إلى رأس الشارع .. لكنهم يسيرون ببطء. إنهم يسيرون عليّ أن أسرع. لا. انك لا تستطيع إلا إذا خرجت عن الرصيف؟
ولكن كيف ستجابه الشرطي وحدك:

- بربع دينار.
- بثلاثين قرشاً.
- بخمسة وثلاثين قرشاً.
مبروك عليك.
سيارة الشرطة تلاحق الأطفال. هؤلاء الأطفال بشعون جداً، ليسوا جميلين أبداً. سينزعج منك البعض.
- الأطفال جميلون دائماً.

  لا يا صديقي. انهم في بلادنا بشعون. ليس جميعهم هكذا، ولكن غالبيتهم. انهم بريئون أما أنهم جميلون فلا. هل يجتمع الجمال والبؤس. أعني هل يؤدي البؤس الى الجمال. هل يكون جميلاً من يلبس فضلات الأمم الأخرى.

تسير .. هذا الطريق طويل .. الناس الذين يأتون إلى هنا أقزام والا ما معنى وجود المنارة وسوق الجمعة .. عرفت أن سوق الخميس مخصص لبيع الدواب، فهل أوجدوا سوق الجمعة ليقولوا إنكم امتداد للدواب. سحقاً سحقاً ذات مرة عندما كنت طفلا كانت وكالة غوث اللاجئين توزع عليك وعلى الطلاب ملابس لها رائحة غريبة كنت تعتز بها. لم تكن تدري أنها فضلات الأمم التي أذلتك .. وها هي العادة ذاتها، وان اختلف مكان التوزيع. هناك كنت تقف حتى يأتي دورك والناس هنا يقفون أمام السيارة أمام الفرن .. و .. في سوق الجمعة.
هذه مدينة غريبة .. هؤلاء عبيد شاؤوا أم أبوا ..الشرفاء الآن يقبعون خلف الجدران .. إيه أي قرن هذا الذي تعيش فيه .. انه حتماً القرن العشرون .. ولكنه قبل الميلاد ..

- متشائم أنت.
- إنني أترك لك نصيبي من التفاؤل.
- حقاً ماذا لنا في هذي المدينة.
- سوق الجمعة والبنايات الصفراء التي خلفها الانتداب.

هؤلاء يسيرون بسرعة يريدون أن يؤدوا فريضة الصلاة .. ترى هل يصلون لرب السموات أم لرب الأرض .. ليس رب السموات رب الأرض .. على الأرض رب كل شيء باسمه. حتى معارض .. لا تكمل سوف تبتلعك البنايات الصفراء .. ذات مرة رحب صاحب المعرض بـ .. ترى أين هو صاحب المعرض الآن. يقال أنه تلاشى .. الناس هنا قسم منها يتلاشى.

ها أنك الآن تجد شارعاً يتفرع من شارع القاع .. تخطو خطوات .. تبحلق في القادمين.

- لعله هو.
تقترب منهم ..
- انه هو.
لا تصدق.. ترى ما الذي أتى به إلى.. ترحب به ثم تسأله:
- ما الذي أتى بك الى هنا؟
- لا تسأل يا صديقي .. الضيق. معايير القبول الاجتماعية. على أية حال سأعود، حالما أجمع بعض النقود سأعود .. لن أمكث هنا طويلاً، هنا الحياة صعبة.
تسير معهم .. تطاردك الأسئلة .. هل تتحدث ... كثيرون ابتعدوا عنك .. يقولون انك وربما .. تبتلعكم شوارع المدينة.
- أين وجهتنا؟
- نذهب الى المقهى.

هذه المقاهي الرديئة كم تضم شباباً كالورد. ولكن أين يذهبون. لا بيت جيد. ولا رحلات .. انهم لا يملكون ثمن طعامهم فكيف يدفعون أجرة رحلة .. معظمهم من مدن الوطن المحتل. يأتون إلى هنا متفائلين .. وحال وصولهم يلعنون اللحظة التي خرجوا فيها.

- نذهب الى البار.
- أنا لا أشرب.
- بل يجب ان تشرب ودعه يحاسب.
- أحاسب.
- اذن لماذا تغادر بلدك؟ ألم تقل انك تريد توفير النقود.
- انها مرة في الأسبوع.

لست تدري ماذا تقول. ألف سؤال وألف إجابة .. حين يسألك الآخرون السؤال تخجل، ولكنك حين تسألهم يكونون أكثر جرأة .. سوف يقولون لك لا تُنظّر. لا تقل شيئاً تمارس نقيضه.

تصعد السيارة وأياهم .. هذا المكان يختلف كلياً عن الأماكن التي مررت بها صباحاً .. هناك قاع المدينة وهنا .. هنا هـ ..
تنظر اليه. تتذكر الأيام التي قضيتها وإياه في نابلس .. يلمح في عينك ألف سؤال. لا يصمت.

- هذه هي الدنيا .. اللعنة على هذا الزمن.
- هل أنت مرتاح؟
- انني مستاء استياء لا حد له. ولكن.
لا يكمل حديثه فالنادل جاء..
- ماذا تريدون؟
- أربع علب بيرة.
- بل ثلاث وانا أريد شايا.
- كما أنت.
- كما أنا.

تتحدثون عن الوطن البعيد القريب.

أحدكم يستمع فقط ولا يدلي بدلوه. الثالث يبرر مجيئه قائلاً أنه لم يجد عملاً. كذب العمل موجود ولكن الغنى غير موجود. وهؤلاء معظمهم يريدون أن يصبحوا أثرياء .. ترى هل سيحدث هذا معك؟

النادل المصري لا يأتي بالتصليحة إلا ليأخذ البخشيش. إنهم مثلك تركوا مصر وأتوا ليعيشوا هنا .. يتحملون الذل ويصمتون ..الذين يملكون شعوراً بالكرامة يعودون إلى مصر ليبدأوا حياتهم يا أبا النحس لماذا اتيت بسعيد" (1)
ها انك تراهم شباباً كالورد يعاملهم أبناء لغتهم كما يعامل الفرنسي العامل الجزائري .. هناك يحتقرون العرب .. وهنا المصري لا احترام له. لقد نجحوا في الأقلمة إلى ابعد الحدود .. ذات نهار تعارك اثنان بسبب الصعود إلى الحافلة، اشتركت فتاة في العراك، تعالت الأصوات .. يقال إنهم طلبة جامعة.

- انها مصرية
- لو كانت .. لما قاتلت.
أي زمن هذا؟
- أين وصلت؟
- انني معكم.
- نغادر.
النادل المصري أصبح كمقرور يرتجف. لم ينل البخشيش لعله شتم ..
- كم دفعت.
- بسيطة
- بسيطة تعب نهار وتوفير عمل نهارين.
- من أجل عيونكم؟
- إذن لماذا أتيت إلى هنا؟
- من اجل أن احتفل بكم؟
- والنادل.
- لم أعطه شيئاً.
- لعله شتمك. الذي يدفع الدنانير يدفع القروش.
تلتزم الصمت .. تفكر .. يأتون إلى هنا ليوفروا ويعودوا.
ولكن المدينة تصبح جزءاً منهم .. ترى هل يعودون، الأخوان يتصايحان كالديكة .. ثمة كلمات تسمعها من أفواه هؤلاء: برجوازي صغير .. بروليتاريا رثة. البخشيش .. طرق النضال الصحيحة . شرب البيرة من طرق النضال ..إنني اعشق البيرة .. اعشقها. تسيرون صوب قاع المدينة .. الغيوم تتلبد في السماء .. يسود الصمت .. تتناثر الغيوم .. تدندن. انت متعب .. هل تمطر؟ ليس الآن .. البيرة لا تساعد على المطر..
تودعهم ..تسير أنت الآن في قاع المدينة
- نصف دينار
- نصف دينار وشلن.
- مبروك
سيارة الشرطي تلاحق الأطفال من جديد .. يهرب قسم منهم ويختفي آخرون .. تشعر بغثيان. تنظر .. ثمة أطفال يحاولون قطع الشارع .. يرددون بصوت واحد:
- نريد أن نبيع .. نريد ثمن خبز نأكله.

هل أنت تردد معهم؟ ينظر الآخرون. تتذكر مدينتك .. يتساقط المطر خفيفاً .. يتجمع الشرطة .. حين يثبتون .. حين تتساقط الأمطار بغزارة .. تسير ..تقترب منك نابلس الجميلة.

الانتظار

أشعل سيجارته بعد لحظات من جلوسه في زاوية المطعم وأخذ ينتظر زميله، بين الفينة والفينة كان ينظر في الساعة، ثم يعاود النظر إلى الصحيفة، مرت من أمامه فتاة فلم يكترث لها.

لم ينه سيجارته الأولى حتى أشعل سيجارته ثانية، كانت سحب الدخان تصعد في الهواء على شكل حلقات دائرية، وكان يتأمل هذا الوضع، يعود فينظر إلى الصحيفة للحظات، ويرفع معصمه لينظر إلى الساعة ثانية، حين أخرج الدخان من فمه نفخ بقوة، لعله كان يريد أن يلغي هذه الحلقة الدائرية اللولبية ويصل فجأة إلى أعلى السقف.

كانت الفتاة تتناول طعامها بشهية، حسدها على ذلك وفكر في أن يذهب ليحضر الطعام، لكن موعده لم ينته بعد، ولا بد أن يحضر الصديق.

أشعل سيجارة ثالثة، فنظرت إليه الفتاة. لم يكترث لها كثيراً، وأغلب الظن أنها تضايقت من رائحة الدخان، بعد قليل انتقلت إلى طاولة أخرى. كان منظره غريباً، أو هكذا يبدو. الذين جاؤوا بعده فرغوا من تناول طعامهم. قبل أيام أخذ يتردد مع شخص آخر، ولكنه لم يبد مسروراً.

ملاحظات قالها النادل:

كانوا ثلاثة يأتون كل مساء يتناولون عشاءهم، ثم يشربون قدحاً من النسكفيه ويغادرون. فيما بعد أخذ يتردد وحده. سألت عن صديقه فلم يجبني. أخذت العيون تنظر إليه دوماً، ذات نهار كاد يصرخ فيهم ولكنه بكى بشدة، ثم جلس يأتي كل يوم يدخن ويدخن ويدخن، ثم يغادر المطعم دون أن يتناول طعامه. قبل أيام أخذ يتردد مع شخص آخر، ولكنه لم يبد مسروراًً ... كان حزيناً .. حزيناً.

قراءة على هامش الصحيفة التي تركها:

محمد الجميل الجميل هل أنا الذي ...؟ ذاك المساء تأخرت لرؤيتها .. ليتني الآن .. ليتني أنا .. الموت .. أنا الميت .. سوف أذهب هناك .. هذا الوضع زفت .. انهكتنا أحلامنا ... سوف نصبح حيوانات مستهلكة .. السيارة .. الرحلة .. الكولونيا المستوردة. محمد الجميل .. ذهب الجميل .. وأنا .. أنا سترة مستوردة. هل أنت مثلي يا سعيد .. ترى هل تهرب من زمنك؟ هل تهرب من نفسك .. العمارات .. الخليج .. العودة يا سعيد .. أين أنت أنهكتني الصعلكة. هل تظنني المسؤول؟؟

وأنت أيها الصديق الجديد .. ما الذي أخرك، هل عرفت شيئاً عن محمد .. هل عرفت محمداً؟ هل ظهر لك في النوم؟ هل أخبرك شيئاً عني؟ تعال حتى نثرثر عن زمن مضى؟ زمن أتى ؟ زمن يأتي؟ الخيانة الهروب، الضعف المرأة، العبث البشري.

الجميل الجميل مضى .. أنا بقيت .. قدح من الشاي سجائر فاخرة .. إمرأة .. الجميل الجميل مضى .. أتى سعيد في أية زاوية تراه الآن قال شيئاً .. لو قال لأنقذني .. أنهكني التعب .. الصعلكة .. الصديق الجديد هل سمع شيئاً هل سمع شيئاً؟ الجميل الجميل هو ينهض من قبره .. لو أخذني معه؟ النادل هل قال شيئاً للصديق الجديد؟ هل جاءه سعيد وقال شيئاً. هل قال شيئاً؟ قال قال قال .. والدخان .. الفتاة هربت .. هل سمعت شيئاً .. الدخان .. الدخان هل يقتلني؟ لو هكذا فجأة .. لو ينهض الجميل .. الجميل ..

ما قاله الصديق الجديد:

كان يحدثني عن الخيانة واللاجدوى. ذكر اسم شخص قتل بعد أن تخلى عنه صديق ولم يأت في الموعد، لو أتى لما تم القتل، الثالث لم يدر أين هو .. لعله في زاوية مهملة، فيما بعد عرفت أنه ثالثهم، انه صديق محمد ترى هل هو ..؟ في هذا الزمن يلزم الحذر، لعله صادق ولكن ..

زمن للصمت

حين اقتربت من المخيم انبثق في داخلي شعور غريب، لم أكن أشعر به من قبل، فلقد مضى على سكناي في هذا المخيم وقت طويل طول رحلة العذاب والنفي، الرحلة التي عاشها أهل هذا المخيم الصغير، ولقد تساءلت عن سر هذا الشعور الغامض غموض مساء خريفي فلم أجد جواباً شافياً، ولقد تضاعف هذا الشعور وأنا أنعم النظر في الدور المتراصة التي تحيط بالزقاق الضيق الذي أمر عبره باحثاً عن المقهى، وكانت تساؤلاتي هذه المرة تعبيراً عن الشعور الغريب الذي يسكنني كلما أقترب من أهل هذه البيوت التي تبدو أشبه شيء بعلب الدخان تارة، وعلب الكبريت طوراً، مع فارق مهم هو أن علب الدخان وعلب الكبريت أكثر أناقة، وبالتالي أكثر جاذبية.
والحقيقة أني حين كنت أغذ الخطى باتجاه المقهى، انما كنت أبحث عن صديقي غلبان، فلقد مر شهر كامل دون أن أشاهده وأثرثر معه. وشهر كامل لنا يعني زمناً طويلاً، وبخاصة أننا ما كنا لننقطع عن بعضنا البعض هذه المدة، لقد كانت لقاءاتنا سابقاً شبه يومية، ولم يكن أحدنا يبتعد عن الآخر، وحين يغيب شخص منا يكون الآخر قد أقام الدنيا وهو يبحث عنه، كنا في لقاءاتنا نتحدث عن المخيم واللجوء، نسترجع زمن الطفولة فيحدثني عن بؤسه، ونتصور زمناً لم يأت فنتحدث عن مدننا التي ولدنا بعيدين عنها، لكنها كانت تسكننا أكثر مما يسكننا هذا المخيم الذي كنا نعتبره محطة عابرة لا بد ذات نهار وأن نغادرها إلى مكان أجمل.
وحين اقتربت من المقهى شعرت بحرج كبير، فلم أكن لارتاد المقاهي، بل وكثيراً ما كنت ألوم صديقي لأنه يجلس في هذه الأمكنة التي لا تعدو أن تكون مضيعة للوقت، ولم أكن لاقتنع بكلامه حين يقول لي أنها المكان الوحيد الذي باستطاعته أن يقضي فيه وقت فراغه في بلادنا، وهي بالتالي أفضل من القعود في البيوت حيث ضجة الصغار وصوت الجيران الذي يأتي من كل الجهات عنيفاً مدوياً، وبخاصة من جارهم أبو العبد الذي لا ينفك يقاتل زوجته باستمرار، ولا يترك شتيمه ما لا يقولها، وكان يقول لي أن أبا العبد هذا في صوته صورة مكررة عن أحمد سعيد والمذيعين العرب الذين يحررون أوطاناً بالكلام، وحين كنا نمر قرب السجون كنت أهمس له أليس هذا مكانا آخر؟؟؟ فيضحك ونحمد حكامنا العرب وبريطانيا العظمى الذين خصصوا لنا أماكن كهذه نقضي فيها سني عمرنا، تاركين المقاهي التي يكثر ذمها في اذاعاتهم وعلى صفحات جرائدهم.
وكان هذا الشعور بالحرج قد أبعد عني الشعور الغريب الذي انبثق في داخلي ساعات المساء، كما أبعد عني التساؤلات التي أثارها سيري عبر الطريق من بيتنا إلى المقهى، ولقد أخذت العيون تتطلع إليّ، وكأنما سكنتها الدهشة، فهذا أنا الذي ما جلس في مثل هذه الأماكن، والذي يحلف بحياته حتى من الذين يجلسون فيها بأنه ما جلس فيها يأتي هنا، ولم أكن لاكترث لنظرات الجالسين حين رأيت صديقي. ولقد أذهلني منظره لدرجة أنني بعد أن بادرته بالتحية جلست على كرسي مباشرة ونسيت أنني قلت، عندما قررت أن أبحث عنه، في المقهى، سنخرج معاً فوراً. لقد بدا لي كأنه يتضخم بسرعة، وبشكل لافت للنظر، تضخماً يقترب من نقطة الانفجار. لقد بدا وجهه أحمر احمر كوردة، ولقد كان العرق يتصبب من وجهه مع أنه جالس. كما أن عيونه كانت آخذة في الاتساع لدرجة تسأل فيها عن السبب في وضعه النظارة، كما أن رقبته كانت تتضخم لتلغي المسافة بين كتفيه ورأسه، لتوحي بأن رأسه متصل بكتفيه دون وجود رقبة. وعلى غير عادته بدا صامتاً صمت أبي الهول، ينظر إلى الآخرين ولا يبدي أية حركة، كما أنه لا يهمس بأي حرف، وعلى الرغم من أنني حاولت محادثته لإخراجه من هذه الحالة، إلا أنه لم يجبني إلا بأصوات غير مفهومة، أصوات أقرب إلى الهمهمة منها إلى الحروف المبينة، أصوات لا تبين عما يختلج في وجدانه، ولقد قلت في البداية: ربما كان متعباً من العمل، وأثر التعب على حالته النفسية، غير أن التعب لم يكن سابقاً ليحيله إلى كتلة من السكون كما هو عليه الآن، ومع أنه كائن بشري، إلا أنه لم يختلف في تلك اللحظات عن الكرسي الذي يجلس عليه، ولقد دفعني الفضول إلى تكرار الحديث، لقد أردت أن أعرف شيئاً ما عن هذا التغيير المفاجيء، ففيما مر من أعوام، وفي اللقاءات اليومية المتتالية كان هو نفسه يفاجئني بالكلام، لدرجة أني كنت أبدو أمامه تلميذا مهذبا لا يتكلم إلا حين يسأل وحين يسمح له بالكلام، أما الآن فقد انقلب الوضع رأسا على قدم. غلبان الشاب الحيوي الذي ما مل ولا كل. غلبان الذي عبر حدود غير دولة متنقلاً من مكان إلى أخر بحثاً عن لقمة عيش، غلبان الذي كان يقابل الطغيان ببسمة معلناً أن زمانهم لا بد زائل. غلبان الذي كان يخرج من همه اليومي بمعاشرة الآخرين ومحادثتهم ومحاولة إخراجهم من سكوتهم، الذي يدين الكون كله، حيث لا بيت ولا شعور بالاستقرار، وحيث الخوف والقلق. غلبان الذي ما كان ليصمت لحظة واحدة يجلس في المساء يراقب شباب المخيم، وهم يلعبون ورق اللعب، ينظر اليهم فقط لا يكلم أحداً، ولا يتفوه بأية كلمة، يستعير منهم ماضيهم الذي كان يعيبه حين يراهم صامتين، كأنما الطير على رؤوسهم. ويظل جالساً لساعات طويلة على هذه الحالة، كأنما ينتظر شيئاً ما لا يأتي.
بالقدر الذي كنت أراه فيه يتضخم، كانت الدهشة تكبر في داخلي، صحيح أنني لم أره منذ شهر، غير أن شهراً غير كاف لتغييره من حالة إلى حالة، وليغير فيه طباعاً ما، فالناس عندنا تقول: الطبع ما بطلع إلاّ بطلوع الروح، والطبع غلب التطبع، فكيف حدث هذا مع غلبان؟ لعله الاستثناء الذي يثبت القاعدة ويؤكدها. صحيح أن غلبان كان يشعر في لحظات ما بالملل، ولكنه كان يعبر عن حالة الملل هذه بأسلوب أخر غير الصمت، لقد كان يشتم وينزل كثيرين عن عروشهم ليرضي بشتائمه هذه بعض أصدقائه ويغضب آخرين، غير أن أحداً منهم لم يكن ليقاطعه، ولقد أصبح سيد الشتائم وأستاذها، لدرجة أنك إذا أردت أن تشتم تستعير منه بعض شتائمه، ولدرجة أنك تراهن الآخرين إن كان هناك شخص ما يفوق غلبان في ذلك، كما أنني لم أكن لأتصور أن شعوره بالملل أوصله إلى حالة الصمت هذه. لقد أخذت دهشتي تكبر وتنتشر في خلايا جسدي كانتشار الغاز المسيل للدموع الذي يستخدمه رجال الأمن هذه الأيام بكثرة للمحافظة على النظام. وكدت أصرخ في وجه غلبان قائلاً:
  يا رجل تكلم.
ولكنني التزمت الهدوء، منطلقاً من حديث كنا حفظناه، يقول أن الشديد من يملك نفسه عند الغضب، وأخذت لأسباب أخرى أقنع نفسي بواسطتها عن سر هذا الصمت، إذ أن التعب من العمل لم يكن سبباً لإقناعي بسكوته، فقلت لعل ظاهرة التسمم التي أصابت فتيات مدارس الضفة الغربية أثرت عليه تأثيراً كبيراً، فلقد أصيب كثيرون من سكاننا بالذهول حين سمعوا بالخبر، ولعل ذلك يعود إلى الإشاعات التي ستنجم عن ظاهرة التسمم، ومنها الإصابة بالعقم، فأن يهدم بيت، أو يقتل شخص أو يرحل شعب، فليس هذا كله بالأمر الخطير عندنا، ولكن أن تنقطع ذريتنا! كيف إذن سنقابل رسول الله حبيبنا يوم القيامة، كيف إذن وهو الذي قال لنا: تناكحوا تكاثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة، ونحن العرب كلنا، لم نحفظ عنه سوى هذا الحديث، وإن كنا حفظنا أحاديث أخرى، فإننا لم نعمل إلا بما جاء في هذا الحديث. كيف إذن؟
ولكنني عدت وقلت أن ثمة أشخاصاً كثيرين أصيبوا بالذهول حين سمعوا هذه الأخبار، ولكنها لم تترك أثاراً خطيرة كتلك التي تركتها على صديقي غلبان، وأن كان أكثر حساسية من غيره، فليس من المعقول أن يكون فرداً مفرداً، ولعل هناك من هم أكثر حساسية منه من هذه الناحية، فكثيرون منا لا يكترثون لشيء في هذه الدنيا، يرحلون ويفقرون ويذلون، ومع ذلك لا يثورون للحظة، ولكنهم سرعان ما يصبحون كنحلة لا تعرف الهدوء حين يمس شخص ما سمعتهم فيما يتعلق بالذكورة، إن الرجولة كل الرجولة عندهم تقدر بما يخلفون وما ... ولقد اعتقدت اعتقاداً راسخاً بهذا الشيء نتيجة للتجارب التي مرت بنا في الأيام والسنوات الأخيرة ... فالعرب كلهم لم يتظاهروا يوم قتل منا الآلاف في المدينة التي اسمها بيروت، ولعلهم كانوا يمارسون حياتهم بهدوء، فالمهم عندهم ذكورتهم، وليس غير.
ولقد آثرت أن لا أفلسف الأمور وأعقدها، وقلت: ما لي وللأمر، واقترحت على غلبان أن نخرج من المقهى ونمشي معاً في الهواء الطلق، ولعلني ظننت أن المشي سيطلق العنان لمخيلته وسيفك عقدة من لسانه، فلقد كنا سابقاً نخرج معاً، ونجلس تحت الأشجار ونثرثر ثرثرة لا تنتهي إلا حين يبلغ الضحك منا مبلغاً لا نعود معه قادرين على الحديث، ولكنه أعتذر دون إبداء أي سبب، ولما قلت له:
  الجو جميل حيث الربيع
أجابني:
  لا فرق بين الربيع والخريف.
في هذه اللحظات أدركت أن الأمور قد بلغت الذروة وأدركت أن غلبان لم يعد بقادر على احتمال أي شيء، فقد بدا لي أن صخرة ترقد على جسده. ومع أنني في البداية آثرت أن أكون فضولياً، إلا أنني وجمت حين اعتذر، ورفضت أن أكون كذلك، خوفاً من العواقب التي قد تترتب على الاستمرار في حالة الفضول هذه. أخذت أحدث نفسي: هل ثمة مشكلة عائلية يعاني منها؟ ولكنني لم اقتنع كذلك بذلك، فغلبان الشاب المرح، الذي كان يجعل الحجر يتكلم، كما يقولون، لم يكن ليصل إلى هذه الحالة بسبب مشكلة عائلية، فالمشاكل العائلية موجودة منذ وجد، منذ صحا على هذه الدنيا. فلكم كان يصحو في الليل على والده وهو يخاصم والدته، ولكم كان والده يطرده من البيت طالبا منه أن يترك المدرسة وان يعمل، ولكم كان والده يضربه بعد أن يعود من عمله في الكسارات خلال الإجازة الصيفية لأنه لم يحافظ على ملابسه التي تمزقت قليلاً، ولكم تنقل من مكان إلى مكان بسبب هذه المشاكل وهو يبتسم، وحين كان ينتقل من دولة إلى دولة من دول الطغيان لم يكن لينقم على أبيه الذي كان السبب في معاناته، وإنما كان يتبسم ويردد عبارته المألوفة: لا بد سيزولون، هذه العبارة التي أثارت حفيظة أحد أصحابه فقال له ثائراً: ولكنك ستزول قبل زوالهم، لقد بدا غلبان لي لغزاً محيراً، محيراً أبعد حدود الحيرة، وفجأة قلت: ليكن ما يكون وسوف أثيره، سوف أخرجه عن صمته، لن اقبل هذا الوضع، كما أنني لن أتركه، لأن مغادرتي المكان تعني هزيمتي وتعني أكثر من ذلك، تعنى أنني لا شيء، أنني غير كفء لمجالسة أحد، لقد شعرت حقاً بإخفاق جعلني اشعر بفراغ هذا الكون ولا جدواه. لعنت وشتمت من كان يشتمهم. أسهبت في الحديث عن ظاهرة التسمم وطلبت منه أن يبدي رأيه.
ولقد ذهبت أبعد من ذلك، فلقد تحدثت عما تشهده الساحة العربية ونبهت إلى احتمال انضمام الأردن إلى المفاوضات، واستطردت مشيرا إلى غير وجهة نظر، مسترشدا بأحداث تاريخية مهمة وهامة في الوقت ذاته، وأنا أظن أن تلك الأحداث ستعود به إلى الزمن الماضي فيذكر الأيام الخوالي، وربما تحدث عملية نفسيه ما، فتلغي حالته الآنية ليحتل الماضي مساحات من وجوده، سواء أكان الماضي الذي سينبعث مأساوياً أم مفرحاً، فليس الذي يهمني سوى خروجه من لحظته التي بدأت تقتلني رويدا رويداً، والتي بدأت تحتل مساحات العالم كله لي، قلت: ليشتم، ليتحدث عن الحب، أو عن الطفولة أو عن البؤس أو عن الرحيل، أو عن الدول التي عاش فيها، مع ما سيثيره هذا لدي من نقمة وشعور بالغثيان، ليتحدث عن المخيم الجديد الذي سكن فيه، ليختر اسما له، ليرسم صورة له ليصف البيوت التي سنسكنها، غير أنه لم يحرك ساكناً، وَعَنّ لي أن أتحدث عن أمر كثر فيه الحديث في أيامنا هذه، وجعل السنة كثيرة تنطق بعد أن كانت عاجزة عيية. ألسنة اتخذت من الأمر مدخلاً أخراً جديداً لمهاجمة إخواننا في الخارج، إخواننا كلهم دون تمييز بين من ضحى بدمه وبين من أخطأ، أو من ساهم في تمييع الأمور عن قصد لتخريب أوضاعنا بحجة مساعدتنا، هذه الألسن التي لم تفعل شيئاً ذات يوم، ولم تكن إلا كالطحالب التي لا تنمو إلا في الماء الفاسد، وتكلمت بالفعل فذكرت له اسم شخص يعرفه، شخص دعي كان ينادي دوما بشعارات نشعر حين يتفوه بها إننا أقزام، وها هو الآن يبشر بحل قريب، ليس يهم إن كان على حساب من ضحى. ولكنه لم يكترث، ولست أدري كيف أخذت بالحديث عما نشرته بعض المجلات، ولكني كنت أود أن ادخل الأمل إلى قلبه ظناً مني في تلك الأثناء بأنه بائس، فلقد قلت له: أن إخواننا المجاهدين في أفغانستان ينتصرون وينتصرون، وها هم سيزحفون عما قريب ليساعدونا فلا تيأس من رحمة الله، فالطير الأبابيل، التي كنا نعتقد أنها ظاهرة لا تتكرر تتكرر، ولكنه لم يعلق على الأمر هذا، بل أشعل سيجارة أخرى قبل أن ينهي السيجارة التي في يده وأخذ يدخن بيديه الاثنتين معاً.
ولقد هممت بالمغادرة، لولا حدث مفاجيء غير متوقع توقعت أن يخرجه عن صمته، وأنه سيشتم وينزل من يجلسون على العروش عن عروشهم، ولقد ارتبكت في البداية وحاولت الهروب إلا أنه ظل مستمراً في مكانه يراقب الأوراق المبعثرة والأشخاص الذين فروا ساعة سمعوا أصوات طلقات نارية، ولما تبينا أن الحدث المفاجيء لم يدم طويلاً، وأن مضايقات لأهل المخيم لم تنجم عنه، خرجنا مسرعين تحسباً أن في الأمر خدعة، وافترقنا.
في الطريق وأنا أسير إلى بيتي، لم يكن الخوف رفيقي، بل كان رفيقي صمته، صمت غلبان الذي سكن المخيم ثلاثين عاما خلا فترات قليلة كان غادره خلالها بحثا عن عمل في دول القبائل، يعود بعدها ساخطاً ناقماً لاعناً شاتماً مازجاً كل ذلك بالضحك. صمت غلبان الذي عاش شاهداً على رحلة العذاب والنفي دون أن تنال منه الأيام الصعبة، وكنت أمشي وكان المساء يأتي ليجثم على صدر المخيم، فلا أرى أبعد من خطوة، ولا أرى سوى غلبان الغامض غموض الآتي، ولقد أخذ شكله يكبر ويكبر لدرجة أخذت أشعر فيها بفراغ هذا العالم ووحشيته، وتمنيت لو أن السم يقتلني، أو لو أن رصاصة طائشة تقضي على أسئلتي كلها، ولم أكن لأفرق بين السم والرصاص وبين ما حدث لمخيم من مخيماتنا المنتشرة في هذا البلد العربي، أو ذاك، أو في هذا الوطن الذي لم يعد وطناً إلا للخوف والقلق والصمت، فلقد خسرت عالماً هو غلبان الذي كان في صمته أكثر تعبيراً عن النفس منه في أثناء حديثه، وكأنما أدرك بلا أدنى شك أن هذا العالم أصم كصخرة وأن لا فائدة من الحديث.

ولقد أخذ الظلام يخيم على المخيم فيما كانت رؤياي تتراجع ولم يخطر ببالي أي شيء، لقد كان الظلام يتضخم في داخلي بالقدر ذاته الذي كان فيه يتكاثف حول المخيم، وكان سؤال واحد يدور بخلدي:

  ما هو سر صمت غلبان؟ وما سيفعل؟؟

ولم أكن لأتوصل إلى إجابة، لأنني أخذت أكرر السؤال غير مرة، بحيث بدا السؤال وكأنه طفل هذا الظلام الذي يلفني وغلبان والمخيم بلا استثناء.

البحث عن بحر وشمس

في تمام الساعة السابعة مساء خرج والده يسأل عنه، ذهب إلى أصحابه واحداً واحداً وكان يسألهم السؤال ذاته:

  لقد مر يومان ولم يعد. ألم يأت عندكم. يضرب كفاً بكف، يدخن السيجارة تلو السيجارة ولا يستطيع الجلوس. كانوا يأتون له بكوب الشاي فلا يشرب سوى نصفه، يعتذر عن فعلته ويغادر إلى بيت صديق آخر لابنه، ذهب إلى المخيم المجاور بحثاً عن زملاء ابنه الآخرين. أخذ عناوين كثيرة لأصدقاء آخرين. وبدأ رحلة أخرى.

في البيت كانت أمه تنتظره ويدها على قلبها تجلس على عتبة الدار، وكلما تسمع صوت سيارة قادمة تنتفض واقفة عل زوجها يحمل خبراً. أما الصغار فقد ذهبوا إلى غرفتهم يذرفون الدمع. كانت الصغيرة تود أن تشاهد الحلقة الأخيرة من المسلسل، لكنها خافت أن يحضر والدها العصبي فيكسر شاشة التلفاز ويضربها.

بدأ المساء يلف جدران البيت بخيوطه السود، ولأول مرة تشعر الأم بثقل الليل.

- ترى لماذا فعل هذا؟ أين ذهب؟ هل اعتقل على عادة أبناء جيله. لكن الإثباتات تدل أنه ليس موجوداً خلف الجدران. ترى هل حدث معه اصطدام؟ كل المستشفيات تنفي وجود شخص بهذا الاسم.
في منتصف الليل جاء والده حزيناً مهموماً، وجد زوجته نائمة على عتبة البيت، والأطفال بلا غطاء. أيقظ زوجته لتصنع له فنجاناً من القهوة، وعادت لتسأله:
- هل ذهبت إلى أصدقائه جميعهم؟ ماذا قالوا لك؟ ألم يروه هذا النهار؟ ألم يروه أمس؟ ألم يقل لهم ؟ نظرت إلى يدها كانت اسوارتان من الذهب تلفان معصمها. تخيلته عريساً جميلاً. وبحركة لا إرادية نزعت الاسوارتين من يدها لتضعهما في يد زوجها.
- ماذا جرى لك؟ ما الذي تفعلينه.
- كنت وعدته أن أنقطه بالاسوارتين. أليس ابننا؟ نود أن نفرح به.
بكى الزوج دون أن تلحظ زوجته دمعتيه المنسابتين على خده، تطلع إلى صورته على الحائط وقال:
- لماذا فعلت هذا؟ لو قلت لنا أين ذهبت.
في الصباح جاءهم الجيران يسألونهم أن كانوا سمعوا خبراً أو عرفوا شيئاً: وجدوا الأب مهموماً حزيناً، لم يتكلم أية كلمة. الأم كانت تبكي. وحين أوشك الجيران أن يغادروا صرخت بأطفالها الذين لم يصنعوا القهوة للجيران، قال الجيران كلمات ليخففوا من ثورة الأم، ولكنهم لم يفلحوا في إيقاف الدموع الغزيرة التي ذرفتها عيناها. وأمام الجيران صرخ الزوج بزوجته:
- والله إن لم تكفي عن البكاء فسأهرب مثله، لاحظ الجيران استخدامه لفظة أهرب فأيقنوا أنه غادر بإرادته، طمأنوا الأم قائلين:
- لا بد سيعود.
وغادر الجيران. الرجال ذهبوا إلى أعمالهم والنسوة لممارسة أعمالهن المنزلية.
وخاطب الأب أبناءه:
- ألا تودون الذهاب إلى المدرسة؟

نظر الأطفال في وجوه بعضهم لا يدرون ما يفعلون. لم تجهز لهم أمهم طعامهم كالمعتاد. لم تصنع الشاي. لم توقظهم مبكرين. كان وقت المدرسة قد ولى.
ذهب الأب إلى المدينة ليبحث من جديد عله يسمع خبراً فيطمئن أمه، ويعودوا لممارسة حياتهم من جديد.
وظلت الأم جالسة على عتبة البيت تنتظر عودة ابنها.

أمه تروي حكاياته لجاراتها
الله يرضى عليه، كان يحمل الدنيا على كتفه، نقول له مثلنا مثل الناس فلا يعجبه كلامي، كان والده يلح عليه كثيراً بأن لا يخالط الآخرين فينفر من والده وقد يتصايحان، كثيراً ما هددنا بالرحيل، كثيراً ما كان يشكو من العائلة ويقول لو أنه خلق وحيداً. لو أنه لم يخلق، لم تعجبه تصرفات والده ولا تصرفات أخوته ولا تصرفاتي، قلنا له نود أن نزوجك، كان يرفض، لو أنه تزوج واستقر. الله يرضى عليه تركنا هكذا ولم يقل لنا أين ذهب، ربما هرب لأنه أصر أن يتزوج من فتاة رفضنا أن نذهب لخطبتها له.
كان مصراً على ذلك. قلت له: ليست جميلة فلم يعجبه كلامي. قلت له نود أن نزوجك فتاة جميلة، فقال عندما تصبحين رجلاً تزوجي الفتاة التي تودين، لست أدري إن كان ينسج من أحلامه، قال أنه حلم أنه يسير مرتديا حلة خضراء ويمشي في حقول خضراء يمشي إلى ما لا نهاية.
وقال لي مؤخراً: سوف أهاجر. الحياة هنا مملة. فرحنا لذلك، قلنا عله يذهب إلى الخليج يعمل هناك، فيعود بعد عام أو عامين، يبني بيتاً ونزوجه، ربما نسي الفتاة، لكنه ذهب ولم يودعنا. لم يقل. خرج كالمعتاد، تناول إفطاره، شرب الشاي، مازح أخوته، ولم يظهر أي سلوك غريب.
نسيت أن أقول أنه كان يتصايح ووالده دائما. كان والده يود أن يمنعه من الذهاب إلى النادي، كان والده يشتم كل الناس فيهب واقفاً: لا تشتم الآخرين، ذهب والده إلى أصدقائه وطلب منهم أن يتركوا ابنه في حاله، وحين علم تصايح مع والده. كانا كالديكة يتنافران في الصباح وعند الظهر وفي المساء، فكر أكثر من مرة أن يستأجر بيتاً، ولكنه كان يعدل عن فكرته حين يلحظ حالتي، آخر مرة قال لي عندما أصررت على تزويجه من فتاة جميلة: حتى أنت؟ لم أكن أتوقع منك هذا، ذكرني بالخلافات التي كانت تتم مع أبيه، لعن عيشته منذ الطفولة. ظل يبصق على العمر الضائع. لست أدري إن كان أصحابه مثله. طول عمره تفكيره غير، الله يرضى عليه لو قال لنا أين ذهب؟

الأصدقاء يتساءلون

حين كان الأصدقاء يجتمعون كانوا يقضون أوقاتهم في الثرثرة عن سلوكه الغريب،

  هكذا فعلها فجأة.

هذا ما يؤرقهم، كان صديقاً ثرثاراً، لكنه في أخر أيامه التزم الصمت المطبق، حين كانوا يرونه كان يلاحظون انطواءه على نفسه، حتى أن احدهم قال له ذلك مباشرة، لكنه لم يجد إجابة سوى الصمت.
كان برجوازياً صغيراً بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. كان نزقاً قلقاً لا يلتزم بموعد. يستمع كثيراً. يؤمن بما نؤمن، لكنه لا يفعل شيئاً جماعياً. نقول له يجب أن تشاركنا فعلنا، فيجيب بالإيجاب. نطلب منه أن يلتزم، فيرفض ذلك بشدة، نحاوره فيعترف بأنه على خطأ. يأتينا. يسير معنا، يناقشنا، يتحدث عن الأوضاع بأسلوب علمي ولكنه، لكنه برجوازي صغير،
إنه حالم رغم أنه عملي. أنه متشائم رغم أن سلوكه اليومي عكس ذلك.
مؤخراً وصلته رسالة من صديق له لا أدري محتواها بالضبط، ولكنه حين قرأها علق:

  مساكين يحلمون.

أظنه تحدث لي عن هذا الصديق وحواره معه. كان يقول لي، أنهم يُنظّرون هناك لأنهم يفترشون مساحة الوطن العربي، لأنهم بعيدون عن الواقع الذي نحيا.
أظنه كان يعني حالة المفارقة التي يحياها الآخرون، تلك الحالة التي تجعلهم يحلمون ويحلمون فقط. كان برجوازياً صغيراً يريد أن يدمر العالم كله فجأة، ليبني عالماً آخر. كان يريد أن يختصر الطريق.
معه الحق في ذلك. كان نشيطاً جداً. صحيح أنه متشائم، ولكنه أكثرنا عملاً. يأتي من عمله إلى المؤسسة ليعمل. كل أصدقائه كانوا يلومونه. كانوا فاقدي الأمل في المؤسسة، لكنه كان يأتي ويعمل. استمع إلى إهانات كثيرة شتمه اقرب الناس إليه، لم يسيء إلى أحد.
يمازح الصغار والكبار فيعلق الآخرون:

  يريد صوتاً انتخابياً.

كان يذهب إلى السوق يجمع التبرعات، يشتري الكتب. يكتب الجريدة ويسطرها ويعلقها، كان نشيطا جداً. كان يتحدث عن بشر آخرين. في الأشهر الأخيرة أصيب بردة فعل رهيبة. لعله قرر أن يقاطع الناس كلهم، مرة قال: سوف أجلس في غرفتي وحيداً، لا أريد أن أحدث أحدا يأتيني عزرائيل فيقتلني أو أقتله، ولكنه كان يأتينا يومياً لنذهب معاً. أخذ يردد مقولات لم يكن ليرددها. بل أنه كان يسخر ممن يرددونها. في أيامه الأخيرة قال:
مجتمعنا متخلف اجتماعيا ولا أمل، ولا بد من معجزة، قلنا له تزوج، فقد تستقر بعض الشيء. ضحك وقال: لماذا؟ أمي تود أن تزوجني كذلك.
أنا عارف، هذا ليس كأهله. لو تركوه يفعل ما يشاء. هل تذكر يا جهاد حين جلس مكانك أخر مرة. تحدث عن الحياة كما يتحدث عنها كهل، لم أر شاباً في سنه متشائماً إلى هذه الدرجة، كان يشرب الشاي عندنا وينظر في الأرض طويلاً، كان ساهماً حزيناً. قلت له ما رأيك أن تعيش بيننا فرفض، قال إنه سيهاجر. قلت له: لماذا تهاجر ؟ لم يجب.
في أيامه الأخيرة كان مختلفا تماما. حين كنا نختلي معاً كان يحدثني عن الهجرة إلى غير رجعة. ولكنه كان يتراجع عن هذه الفكرة حين يلحظ الأرض المزروعة بالمعادن، ويضيف: لو أننا أسياد أنفسنا لهاجرت فوراً. صحيح أنني لا أفعل شيئاً، لكن وجودي يجعلني أشعر أني أفعل شيئاً. كان يردد لفظة الهجرة بعد أن كان يحاربها. قال سأهاجر إلى أوروبا وأعيش متسكعا في شوارعها وباراتها. هذه البلاد قاتلة. كان يقول لي كلاماً كثيراً عن الأصدقاء والأهل والمؤسسة. حين كنا نعود من العمل كان يتأمل جبال بلاده بشكل لافت للنظر ويهمس:

  بلادنا جميلة لكننا لا نعرف كيف نستمتع بها. شتم العمر الضائع مرات كثيرة. لكنه أخذ يلتزم الصمت رويداً رويداً. فقد الأمل بكل شيء لكنه كان أكثرنا نشاطاً. لم يحل اليأس بينه وبين العمل. في البداية كان يناقش الزملاء في العمل. يحتدون معاً. في النهاية أخذ يردد: كلنا ضحية. كان يسأل دوماً عن مسافر ليحمله رسائل كثيرة. لست أدري إلى أين يرسلها. كنت أتوقع أن يفعل هذا. لم يكن يخشى شيئاً لدرجة أننا كنا دوماً نقول: أنه متسرع.

المهرة الجامحة

كان يكتب هذه العبارة على أوراقه بكثرة. لم يدر أحد سر هذه المفردة، غير أنه كان يحلم كثيراً ويحدث أحلامه للجميع: أرض خضراء، وشمس ربيعية وبيوت أنيقة، شوارع واسعة وأطفال ونساء ورجال يذهبون نحو البحر، يسبحون ويقضون أيام عطلهم، يعودون متأخرين في المساء دون خوف أو فزع، دون أن يراقب احد الآخر. دون أن يوقف جندي الآخرين ليسألهم عن ورقة يثبتون بها أنهم هم. كان يحلم كثيراً بمهرة جامحة. يرسمها ويتخيلها تضرب الأرض بقدميها مسرعة مسرعة.

وقصص قديمة أخرى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى