الأحد ٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٧

باطل الأباطيل

رجاء النقاش

في الحلقة الأخيرة من برنامج «الاتجاه المعاكس» الذي يقدمه المذيع اللامع الدكتور فيصل القاسم قال أحد المشاركين في البرنامج ولا أذكر اسمه الآن إن عرب الجزيرة أو البدو كما سماهم قد فتحوا الشام ومصر بالقوة وأنهم قضوا على حضارتين كبيرتين لهما تاريخ عريق هما حضارة مصر وحضارة الشام ومنذ ذلك الغزو العربي للبلدين لم تقم للحضارة فيهما قائمة من أي نوع وقد تحسر المتحدث حسرة شديدة على ما اصاب حضارة مصر والشام من انهيار شديد على يد العرب وخرج من ذلك كله بأن الفتح العربي للشام ومصر كان اشبه بصفحة سوداء من صحف التاريخ وكانت هذه الصفحة هي من صفحات التخريب لا من صفحات البناء والتعمير ولم يقل لنا المتحدث ربما لأنه لا يعرف - أنه لم تكن في مصر ولا في الشمال حضارة من أي نوع عند الفتح العربي وأنا أحمد الله أن أصبح في بلادنا من الجرأة وحرية التفكير والتعبير ما جعل مثل هذا المتحدث يظهر بيننا ويعبر عن أفكاره على شاشة قناة فضائية ناجحة يستمع اليها الملايين في العالم كله وذلك دون أن يتعرض هذا المتحدث للعقاب من أي نوع بل كل ما هنالك أن آخرين يحق لهم أن يردوا عليه ويتصدوا له ويظهروا ما في كلامه من خطأ لا يقره التاريخ لأن كلامه هو «باطل الأباطيل».

والحقيقة أن كلام المتحدث التليفزيوني فيه أخطاء لا يقرها التاريخ وأول هذه الاخطاء ان فتح العرب لمصر والشام لم ينتج على الاطلاق عن حرب بين العرب من جانب وبين أهل مصر وأهل الشام من جانب آخر فلا المصريون ولا أهل الشام اشتركوا مطلقا في الحرب ضد الفتح العربي للبلدين بل كانت الحرب تدور بين الجيوش العربية وبين الجيوش الرومانية فقد كانت مصر والشام خاضعتين للحكم الروماني منذ حوالي ستمائة سنة سابقة على الغزو العربي ولم يكن مسموحا مطلقا لأهل مصر ولا لأهل الشام ان يكونوا جنودا في جيوش الرومان والانتصار الذي حققه العرب كان انتصارا على الروم بفضل قادة من عباقرة العسكرية في العالم كله من امثال خالد بن الوليد وعمرو بن العاص ولم تحدث بعد الانتصارات العربية أي صراعات بين اهل البلاد المحليين ضد العرب.

وهناك دليل على أن العرب قد عاملوا مصر والمصريين معاملة كريمة وعادلة ولم يحدث بينهم تنافر من اي نوع وان كان هناك ايضا حركة نشيطة جدا الآن خاصة في مصر تقوم على اصدار العديد من الكتب التي تلبس ثوب البحث التاريخي المحايد تحاول ان تثبت أن الفتح العربي دمر مصر وأقام فيها مذابح مات فيها الملايين وخاصة في القاهرة والاسكندرية ومعظم مراجع هذه الدراسات مراجع مشوهة ليس لديها من الوثائق الا ما هو مزيف وكاذب ومصنوع بإتقان على يد اعداء العرب وهؤلاء الذين يخافون من اي تقارب عربي في اي صورة ولو كانت بسيطة وهم يحاربونه بكل الوسائل ومنها تزييف التاريخ.

وأعود الى الدليل الذي اشرت اليه والذي يكشف أن العرب قد عاملوا المصريين معاملة كريمة جدا وهم لم يهدموا بيتا ولم يذبحوا الآلاف كما يتم الافتراء عليهم الآن هذا الدليل «العقلي» هو أن المصريين لم يبدأوا في اعتناق الإسلام الا بعد حوالي مائة سنة من الفتح العربي وهذا الدليل له معنيان واضحان تمام الوضوح.

المعنى الأول هو أن العرب لم يفرضوا على المصريين ترك عقيدتهم غير الإسلامية وتركوهم أحرارا في دينهم.

والمعنى الثاني أن المصريين حين بدأوا يدخلون الإسلام بهدوء وبدون أي تسرع كانوا في نفس الوقت قد اقتنعوا بأن العرب هم قوم وعلى خلق كريم، وهم يتعاملون مع الناس باحترام ولا يفكرون في إلحاق الأذى بأحد في نفسه أو أهله أو ماله.

على أساس هذين المعنيين تحرك المصريون نحو اعتناق الإسلام، باختيارهم ودون ضغط أو إكراه، وبسبب اقتناعهم بأن الإسلام هو الذي أعطى للعرب ذلك الطابع الكريم في السلوك والتعامل الطيب مع المصريين، ولم يتم دخول المصريين الإسلام بصورة كبيرة شاملة إلا حوالي سنة ثلاثمائة هجرية، أي بعد ثلاثمائة عام من الفتح العربي.

ومن الثابت أن المصريين قد قاموا ببعض الانتفاضات بعد الفتح العربي، ولكن ضد من كانت هذه الانتفاضات؟ لقد كانت كلها ضد الحكام غير العرب الذين بدأوا يحكمون مصر، خاصة في عهد الدولة العباسية، وهم إما فرس أو أتراك أو غير ذلك من العناصر التي تسللت إلى الدولة العباسية وأفسحت لهم الدولة صدرها وأسلمتهم الحكم في معظم ولايات الدولة العربية الواسعة، ولم تحتمل مصر حكم هؤلاء الأجانب الذين كانوا مستبدين مهتمين بمصالحهم ومصالح الدولة غير عابئين مطلقا بالناس ومصالح الناس.

مصر لم تخسر دورها الحضاري بسبب العرب، بل بسبب الاستعمار الطويل الذي تحكم فيها منذ سنة خمسمائة قبل الميلاد حتى منتصف القرن العشرين، أما فترة الحكم العربي فلم تطل، وسرعان ما حل محل العرب أتراك وفرس وغير ذلك من ملوك الاستبداد التي عانت منه مصر، فهل يمكن لبلد خضع للاستعمار طيلة هذه المدة أن ينهض ويتحضر؟

أحب أن أختم حديثي بهذه العبارات الجميلة جدا والتي نقلها الأستاذ أحمد حسين في كتابه «نصف قرن مع العروبة ـ قضية في فلسطين» على لسان عميد أدباء فلسطين محمد إسعاف النشاشيبي حيث يقول: في هذه الحجرة قال لنا شاب مصري إن مصر قد ابتلعت الفرس والرومان والعرب، وصحيح ان مصر قد ابتعلت الفرس والرومان ولكنها لم تبتلع العرب، هناك في انجلترا جاء الأنجلو واختلطوا بالسكان، فكان هذا المزيج المتفوق وهم «الانجليز» الأنجلو ساكسون وكذلك أنتم أيها المصريون، إنكم لستم بمصريين، ولستم بعرب، إنكم عرب مصريون، فكونوا لنا في المشرق ما كانه «الأنجلو ساكسون» في انجلترا.

رجاء النقاش

عن الوطن القطرية


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى