الثلاثاء ١٢ شباط (فبراير) ٢٠٠٨

الأدب الفلسطيني المقاوم أبعاد ومواقف 2 من 2

بقلم الراحل غسان كنفاني

لقراءة الحلقة الأولى من النص نرجى النقر على الرابط التالي: الحقة الأولى

وفي قصيدته هذه، "الى ثوار فيتكونغ" يقول:

إسمعْها تهدرُ ملءَ دمي
إسمعْها في الوديان على الغاباتِ على القممِ
إسمعْ صرخاتِ الاحرارِ وقهقهةَ الرشاشْ
إسمعْ غاراتِ الفاشستِ الأوباشْ
وأصيحُ أصيحُ بلا صوتِ:
الموتُ لآلهةِ الموتِ.
 
ولنلاحظ الآن، هذا الانتقال المذهل:
 
وأُحسُ بكفي تتقلّصْ
وأغيبُ لبرهةْ
وأُحسُ كأني أتربّصْ
بذئابِ الغزوِ على أرضِ الجبهةْ
وأصبُّ على الأشباحِ النارَ . . وأبكي
 
ويعود في قفزة مماثلة:
 
من يجرعُ في باراتِ نيويورك الويسكي
من يلقى في المقهى حلوةْ
من ينشدُ في الشارع غنوةْ
من يحرثُ في أمريكا، من يزرعْ
من يحرُ في فيتنام ويزرعْ
من يبقى في المصنع
من يبقى؟
يا آلهةَ الموتِ الحمقى في أمريكا
يا آلهةَ الموتِ الحمقى!

وفي هذا النطاق نجد قصيدة لراشد حسين عن آسيا "بلد الرجال الثائرين على مماطلة الزمان" وقصيدة أخرى لإبراهيم مؤيد اسمها "أنشودة زنجي" وهي قصيدة تدل على ولادة شاعر جيد، إلا أننا مع الأسف لم نعد نسمع عن إنتاج جديد له، وسنرى عدداً كبيراً من القصائد، في هذا النطاق، لمحمود دسوقي، وقصائد ذات أهمية قصوى لحنا أبو حنا عن كوبا وعن أفريقيا المشرقة.

إن الالتزام بالبعد العالمي للمعركة كان دائماً من ميزات شعر المقاومة، ومع ذلك فإن هذا الالتزام لم يؤد الى تمييع الالتزام بالصيغة المباشرة للنزال، ولكنه أغناه وأعطاه معنى وعمقاً وحافزاً، عكْس تجارب كثيرة حدثت في الفترة الماضية في عدد من البلدان العربية.

بهذا المجال يجدر بنا أن نسجل موقفاً لمحمود درويش الذي كان ديوانه الأول "عصافير بلا أجنحة" في معظمه، غناء لثورات أفريقيا، والذي غنّى لثورات العالم بإخلاص وعمق وتلقائية تبعثُ على الإعجاب، والذي – أيضاً – قدم فيما أرى أجود رثاء عربي للشاعر الإسباني الثائر لوركا، نقول، مع ذلك كله ينظر محمود درويش نظرة واعية للمسألة كلها في قصيدته: "عن الأمنيات"، حين يقول:

لا تقلْ لي:
ليتني بائعُ خبزٍ في الجزائرْ
لأغنّي مع ثائرْ
لا تقلْ لي:
ليتني راعي مواشٍ في اليمنْ
لأغني لانتفاضات الزمنْ
لا تقلْ لي:
ليتني عاملُ مقهى في هفانا
لأغني لانتصارات الحزانى
لا تقلْ لي:
ليتني أعملُ في أسوان حمّالا صغيرْ
لأغني للصخورْ
يا صديقي!
أرضُنا ليستْ بعاقِرْ
كلُ أرضٍ، ولها ميلادُها
كلُ فجرٍ، وله موعدُ ثائرْ!

إن وعي الالتزام بحركة الثورة في العالم يكتسب قيمته مما يؤديه الى وعي الالتزام بالثورة المحلية، وليس من كونه صيغة رومانطيكية ذات طابع تنصلي عن طريق المزايدة، وهذا الإدراك الذي عبر عنه أدب المقاومة العربي بوضوح ومباشرة وحسم يضع البعد الإنساني في المقاومة في مكانه الصحيح، الذي يشكل حافزاً ومسؤولية، في آن واحد.

يضع سميح القاسم هذا المبدأ كما يلي:

فهناك، في أعماقِ أفريقيا الجواري والعبيدْ
فجرٌ يمرّ بكفّه فوقَ الجباهِ الناحياتْ
ويصبُّ فيها النورَ والدمَ والحياةْ
وهناك في أعماقِ أمريكا الجريمةُ والتموقُ والضياعْ
طبلٌ يدقُ بلا انقطاعْ
لمدينةٍ تُشرى وزنجي يُباعْ
وهناك، في الأفق القريبِ هناكَ في الأفقِ البعيدْ
ليستْ تُتمّ الأرضُ دورتَها بلا نصرٍ جديدْ
فاحملْ لوءاك وامضِ في هذا الطريقْ
. . أبداً على هذا الطريقْ
شرفُ السواقي أنها تفنى، فدى النهرِ العميقْ

ولكن الأمر يختلف، من حيث الكم والنوع، حين يتعامل أدب المقاومة مع واحد من أبعاده الأساسية، وهو البعد العربي.

إن طبيعة القضية الفلسطينية تضعها في مركز الوسط من التفاعلات العربية، وبالتالي فإن شعر المقاومة في فلسطين المحتلة يمكن أن يوصف بأنه الناطق بلسان تلك التفاعلات والمؤرخ لها.

في ديوان شعر المقاومة ليس بالإمكان مرور أي حدث عربي دون أن يؤرخ في ذلك الشعر، بل إن عدوان 1956 على مصر كان نقطة تحول أساسية في تاريخ ذلك الشعر، وكذلك كانت ثورة الجزائر، وثورة اليمن، وبناء السد العالي، وفي هذا النطاق بالذات تبدو ولاءات المقاومة العربية والاجتماعية ممتزجة بصورة عضوية لا تحتمل الفكاك.

سنجد في قصيدة "بطاقة الى الأسطى سيّد" لسميح القاسم نموذجاً مختصراً وكافياً لما نقصده:

يا أسطى سيّدْ!
إبنِ وشيّدْ
شيدْ لي السد العالي
شيدْ لكْ
أطفىءْ ظمأ الغيظِ الغالي
وامنحْنا
وامنحْ أهلك
كوباً من ماءْ
وخضاراً وزهوراً وضياءْ
يا أسطى سيدْ
أزُفَ الموعدْ
والقريةُ في الصحراء العطشى تحلمْ
والبذرةُ في الثلم الصابرِ تحلمْ
فادفنْ أشلاءَ القمقمْ
في أشلاءِ الصخرِ المتحطمْ
وابنِ وشيدْ
يا أسطى سيدْ
باسمِ ضحايا الأهرامِ وباسمِ الأطفالْ
إبنِ السد العالي!
يا صانعَ حلمِ الأجيال!

إن الاختلاط شديد الوعي، في مهمة الأسطى سيد، حيث لا يعرف القارئ لمن يبني السد العالي، لضحايا الأهرام أم للأرض العطشى، أم للجيل العربي الأسير في فلسطين المحتلة، يذكرنا بشيء مماثل في قصيدة أخرى لسميح القاسم نفسه، عن صنعاء، غداة الثورة، حين يغني لصحرائه ولمستقبله.

الشيء ذاته نلحظه في شعر محمود درويش، فهوي يبدأ قصيدة طويلة له عن "الأوراس" كما يلي:

بيتي على الأوراس كان مباحاً
يستصرخُ الدنيا مساءَ وصباحاً
وترابُ أرضي من دمي معشوشبٌ
كي يشربَ الغرباءُ منه الراحا
 
ثم يقول في القصيدة ذاتها:
 
فالوحشُ يقتلُ ثائراً
والأرضُ تُنبتُ ألفَ ثائرْ
يا كبرياءَ الجرحِ! لو متنا
لحاربتِ المقابرْ!
فملاحمُ الدمِ في ترابِكِ
ما لها فينا أوخرْ
حتى يعودَ القمحُ للفلاحِ
يرقصُ في البيادرْ
 
ويقول:
 
أوراس! يا "أولمبنا" العربي
يا ربَّ المآثرْ
إنّا صنعنا الأنبياءَ على سفوحِكَ
والمصائرْ
أوراسُ! يا خبزي وديني
يا عبادةَ كلِّ ثائرْ

ويمضي محمود درويش في قصيدة أخرى اسمها "نشيد للرجال" الى تحديد أكثر لهذا البعد في موقفه:

سنخرجُ من معسكرنا
ومنفانا
سنخرجُ من مخابينا
ويشتمُنا أعادينا:
"هلا! همجٌ هُمُ، عربُ!"
نعمْ!
عربُ
ولا نخجلْ
ونعرفُ كيف نُمسك قبضةَ المنجلْ
وكيف يقاومُ الأعزلْ
ونكتب أجمل الأشعار!

إنه من الجدير بالتسجيل أن سميح القاسم كان أول شاعر عربي يغني لثورة "الذئاب الحمر" في ردفان غداة تفجيرها، مدركاً بعدها العميق ومعناها:

حمت سراياك! فاشربْ من سرايانــــــا
كأساً جرعت بها للذلَّ ألوانا
واشحذْ مداك على الجرح الذي عصفتْ
دماؤه بقلاعِ البغي نيرانـــــا
أركانُ عرشِك آلينــــــــــا نقوضهــــــــــا
فاحشدْ فلولك حياتٍ وعقبانا
يا طامعاً بالذئاب الحمر، ما غنمـــــــــت
أطماعُك السودُ، إلا بعض قتلانـــا
بلادُنا القدَرُ المحتــــــــــــومُ قاطنهــــــا
مذ كانت الشمسُ،مالانت ومالانا
يا عابد النار! ما زالت مؤرثـــــــــــــــــة
على القنال . . فماذا تعبد الآنا؟

وفي ذلك الوقت كتب سميح القاسم قصيدة أخرى اسمها "عروس النيل" عن السد العالي كمظهر نضالي:

اسمعه . . اسمعه!
عبر فيافي القحط في مجاهل الأدغال
يهدرُ، يدوي، يستشيط
فاستيقظوا يا أيها النيامْ
ولنبتنِ السدودَ قبل دهمة الزلزالْ
تنبهوا . . بهذه الجدران
تنزل فينا من جديدٍ نكبةُ الطوفان

وفي وقت أبكر بكثير من التاريخ الذي كتب فيه سميح القاسم ومحمود درويش هذه القصائد، كان البعد العربي موجوداً بعمق في موقف المقاومة. نذكر هنا قصيدة قديمة [1958] لشاعر من الأرض المحتلة اسمه عصام عباسي:

هذي بساتيلُ العراقِ

تهدّها كتلُ الحشودِ

بغدادُ يا بلدَ الرشيدِ

أتيتُ بالفعلِ الرشيدِ

وينتقل الشاعر، في قصيدته نفسها، في جولة في البلاد العربية جميعها يقدم من خلالها موقفاً تقدمياً مسؤولاً، لا يخضع للافتعالات الرومانطيكية التي تؤدي غالباً الى الاحتيال على الذات.

ولجمال قعوار (7) قصيدة عن الجزائر اسمها "هذه الطريق" تتضمن ذلك الموقف المسؤول بوضوح، والواقع أن ثورة الجزائر فجرت نوعاً فريداً من الشعر في فلسطين المحتلة، وأوقدت حوافز جديرة بالتأمل.

فالشاعر حبيب قهوجي الذي غنّى قبل ذلك لثورة مصر ومعركة 1956 فاتحاً المجال أمام انعطاف جذري في شعر المقاومة قفز به نحو التصدي المباشر لموضوعاته الأساسية، يقول في قصيدة عن الجزائر:

دمُ الأحرارِ لم يذهبْ هبــــــــاءً

بمعتكر الدجى أمسى شهابا

تقدسُه شعوب الشرق طُـــــرّا

وتبذلُ دون حرمته الشبابا

ثم يقول:

فيا شعب العراقِ، إلامَ نــــومٌ

يحدُّ تمرد الطغيان نابا

فدونك في الجزائر كيف تمحى

جيوش البغي تعطينا ضرابا

إن هذا النداء المباشر للعراق، لتفجير الثورة التي انفجرت بالفعل فيما بعد، في 1958، قد حدا بالشاعر نفسه في وقت لاحق للمشاركة في إنشاء حركة "الأرض" التي لعبت دوراً أساسياً في المقاومة داخل فلسطين المحتلة.

في تلك المرحلة بالذات التي امتدت من ثورة مصر في 1952 الى عام 1960، كان الشعر الغالب في الأرض المحتلة هو الشعر الملتزم بالصيغة الكلاسيكية من حيث الشكل، وبما يشبه الخطابية من حيث النبرة، منسجماً في ذلك مع الزلزال الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي كان يجتاح المنطقة العربية، في الوقت نفسه الذي كان ينسجم فيه مع مرحلة أولية من مراحل تطوره ونشوئه.

في تلك الفترة بالذات غنى شعراء عرب عديدون ثورة الجزائر، فبالإضافة للشعراء الذين ذكرناهم توجد قصائد طويلة لراشد حسين وأبي أياس، ومحمود دسوقي وجمال قعوار وحنا أبو حنا، وابن الرامة، وعصام عباس، وفوزي الأسمر، وغيرهم (8)، ولكن مما لا ريب فيه أن محمود دسوقي قد دخل الى تفاصيل التفاصيل، بكل شيء يتعلق بالعرب، أكثر من سواه.

طابع تلك المرحلة يلخصه راشد حسين في قصيدته:

سنُفهمُ الصخر إنْ لم يفهمِ البشرُ
أن الشعوب إذا هبّتْ ستنتصرُ
دمُ الجزائر صدرُ الفجرِ كعبتُـــــــــه
ونارُه فوق صدر البغي تستعرُ
 
ويقول حنا أبو حنا في قصيدة طويلة اسمها "رسالة من مناضل جزائري الى ولده":
 
ولدي! لأجلك قد حملتُ سلاحي
ولأجلِ رغدك ثورتي وكفاحي
ورأيتُ شعبي سيلَ نارٍ دافــــــقٍ
متوثبٍ في موكب الأرياح
وإذا اللهيب، بريقُ عينك ساطعــاً
وعيونُ شعبي الثائر الطمّاح
فلأجل تحرير الجزائر ثورتـــــــــــي
ولأجل رغدك وثبتي وكفاحي

ولكن، كما رأينا، فإن الصياغة الفنية، التي جاءت في هذه المرحلة على هذه الصورة الخطابية لم تكن على حساب المضمون، ولقد استطاعت تجارب شعراء المقاومة، من خلال الممارسة، أن تطور الشكل الى الصيغة المعاصرة الحديثة، وفي هذا النطاق جرى التطوران: الشكل والمضمون، في اتساق وانسجام ولم ينحر أحدهما الآخر، فيما ظلت جذور الالتزام والمعاداة في أصلها هي الرابط الجوهري في هذا التطور.

وعلى هذا الأساس، تلقى الشاعر مثل توفيق زياد كارثة الخامس من حزيران 1967 مرة أخرى على هذا الصعيد، بثبات:

ثم . . ماذا بعدُ؟ لا أدري، ولكنْ
كلُّ ما أدريه أن الأرضَ حبلى والسنون . .
 
ثم يقول:
 
فارفعوا أيديكمُ عن شعبنا
لا تُطعموا النار حطبْ
كيف تحيون على ظهر سفينةْ
وتعادون محيطاً من لهب؟
 
وينتهي الى القول:
 
كبوةٌ هذي
وكم يحدثُ أن يكبو الهمامْ
إنها للخلف كانتْ
خطوةٌ
من أجل عشرٍ للامام!

وفي الحقيقة، فإن البعد العربي في الأدب الفلسطيني كان دائماً ظاهرة أساسية، وليس ارتباط أدب المقاومة الفلسطيني الراهن بهذا البعد، وتعميقه ووعيه، إلا استمراراً لتلك الظاهرة تاريخياً، ولكن هذه الملاحظة هي عنوان لموضوع آخر.

لقد رأينا، باختصار، أولاً كيف يرتبط أدب المقاومة في فلسطين المحتلة الى بعد اجتماعي ويطرح ولاءه للطبقة الكادحة التي على أكتافها تعلق لمقاومة بنادقها ومصيرها (9).

ورأينا، ثانياً، كيف يحافظ أدب المقاومة على هذا الارتباط الاجتماعي التقدمي في ممارسته لبعد آخر من أبعاده وهو بعد الالتزام بالثورات التحررية في العالم.

ورأينا، ثالثاً، كيف يرتبط أدب المقاومة ببعده العربي ارتباطاً عضوياً راسخاً، دون أن يفقد وضوح نظرته الاجتماعية في هذا الارتباط، ومع إدراك عميق لمعناه وضرورته وأصالته.

ورأينا أن هذه الارتباطات تحدث ضمن إطار من الالتزام بقدسية الكلمة والايمان الذي لا يتزعزع بدورها وقيمتها والتمسك بمسؤولياتها كسلاح أساسي في حركة المقاومة التي تشمل معنى أوسع بكثير من مجرد المقاومة المسلحة.

ولكننا قلنا أيضاً أن هذه الارتباطات الثلاثة، في إطارها من الالتزام الفني المسؤول، تظل تدور حول محور أساسي هو التصدي الشجاع للمعركة المباشرة، اليومية والقاسية والباهظة الثمن، مع العدو المحتل الذي يجثم بثقل مباشر على صدر الوجود العربي، في فلسطين المحتلة.

فكيف يعبر أدب المقاومة عن هذه المسؤولية المباشرة، وكيف يخوض معركتها، دون أن يفقد ارتباطاته الاجتماعية والعربية والدولية؟

إن أدب المقاومة في هذا النطاق، غزير الانتاج، وإذا كانت الظروف التي يعرفها الجميع تحول دون تعقب دقيق لحركة الانتاج هذه على جميع المستويات، فإن ما يتوفر بين أيدينا الآن يكفي كنموذج.

لقد رأينا كيف تصدى توفيق فياض في مسرحيته "بيت الجنون" من خلال صيغة فنية متقدمة الى المهمة المباشرة للمقاومة، حين تخلص من تشوشه في لحظة مواجهة ناصعة الوضوح، قرر فيها، مباشرة وبحسم، أنه لن ينسى، وأنه يرفض الاقتحام المعادي، وأنه سيقاتل وحده.

سنرى محمود درويش في لحظة مواجهة مماثلة، تشكل نوعاً فذاً من الصحو الدائم، حين يقول، رافضاً التنصل مهما كانت براعة الصياغة:

ذليلٌ أنت كالأسفلت
ذليلٌ أنت
يا من يحتمي بستارة الضجر!
 
وثمة لحظة مماثلة، عند سميح القاسم:
 
. . وأخافُ، أخافُ من الغدر
من سكينٍ يُغمدُ في ظهري
لكني . . يا أغلى صاحبْ
رغم الشك، ورغم الأحزانْ
أسمع اسمع وقع خطى الفجرِ

عبر هذا الصحو، الذي يعي تماماً جوهر المواجهة، وقف شعر المقاومة العربي في فلسطين المحتلة مؤرخاً ليوميات المقاومة الجماهيرية، جاعلاً من انتكاساتها وعذابها وقوداً لتجديد توق ملتهب.

في قصة قصيرة لفوزي الأسمر، اسمها "رمال ودموع" يروي هذا الكاتب الشاب ال1ي ولد وعاش في بلدة "اللد" قصة عربي حاول قتل سائق تراكتور إسرائيلي، والمعضلة النسبة للمحكمة هي أن السائق الإسرائيلي لا يعرف ذلك العربي، ولم يسبق له أن قابله ولا يعرف سبباً للمحاولة.

بالنسبة للعربي فإن المسألة لها تفسير ومبرر، فقد شهد عن بعد ذلك السائق يربط جذع شجرة زيتون كان يملكها، وترمز بالنسبة له الى تاريخ عائلته، محاولاً انتزاعها من أرضها، وحين اندفع نحوه ليقتله كان في الواقع يرمي الى الدفاع عن عرضه وشرفه.

وتنتهي القصة نهاية مفاجئة حين ترفع المحكمة جلستها لتدارس الحكم الذي ستصدره على العربي.

وهذه "النهاية – الإشكال"، هي موقف واضح ومن نوع حاسم، فحكم المحكمة لا يهم على الإطلاق، وأساس القضية موجود ومحلول – في القصة نفسها، والنهاية هي أبعد ما تكون عن علامة الاستفهام التي يخيل للقارئ أنها موجودة في السطر الأخير منها.

لا توجد علامة استفهام في هذا الصدد، وإن كانت القصائد والقصص والمسرحيات التي أنتجها أدباء المقاومة تحفل بها من حيث الشكل، إلا أنها لا تعني إلا نوعاً من "الاستفهام الذاتي"، إذا جاز التعبير، غايته الأساسية التأكيد بأنه يوجد جواب واحد فقط.

لقد رأينا نموذجاً لهذا "الاستفهام الإثباتي" في النماذج التي قرأناها من مسرحية توفيق فياض "بيت الجنون" وهو استفهام – كما قلنا – لا يقصد الى التساؤل بقدر ما يقصد الى إثبات أنه لا يوجد أي طريق آخر.

وهو استفهام من نوع:

ثم ماذا بعد؟ لا أدري ! ولكن

كل ما أدريه أن الأرض حبلى . . والسنون

كما يقول توفيق زياد في قصيدته "كلمات عن العدوان" التي كتبها في أعقاب حرب حزيران 1967.

وهو تساؤل من ذلك النوع الذي ضمنه حبيب قهوجي في رثاء كتبه عام 1957، لشهداء كفرقاسم:

جنكيزخان تثاءبت أيامُه؟

أم جندُ هتلر للدمار ضواري؟

وتتكرر الصيغة نفسها، في قصيدة أخرى، لراشد حسين في ذلك الوقت، يرثي فيها شهداء قرية صندلة:

مرج ابن عامر، هل لديك سنابلُ
أم فيك من زرع الحروب قنابلُ؟
أم حينما عزَّ النباتُ صنعتَ من
لحم الطفولة غلةً تتمايلُ؟
 
ويطوّر محمود درويش هذه الصيغة الى درجة حاسمة:
 
يا وجه جدي!
يا نبياً ما ابتسمْ
من أيِّ قبرٍ جئتني
ولبستَ قمبازاً بلون دمٍ عتيق
فوق صخرةْ
وعباءةً في لون حفرةْ؟
يا وجه جدي!
يا نبياً ما ابتسمْ
من أي قبرٍ جئتني
لتحيلني تمثال سمّ؟
الدين أكبر!
لم أبعْ شبراً، ولم أخضعْ لضيْم
لكنهم رقصوا وغنّوا فوق قبرك
فلتنمْ!
صاح أنا، صاح أنا، صاح أنا
حتى العدم . .

ولكن بعيداً عن هذه المسألة الجزئية التي توقفنا عندها بسبب تكرارها وترددها في شعر المقاومة، فإننا نلاحظ ظاهرة هامة عامة، وهي توفر درجة متقدمة من التحدي الواعي، القادر على تحويل العذاب الى حافز ثوري.

لقد لاحظنا ذلك بوضوح في القصائد التي كتبها شعراء المقاومة في فلسطين المحتلة في أعقاب العدوان الأخير، ولكن هذه الظاهرة في الحقيقة تأخذ طابع القاعدة، سواء في مواجهة العذاب الشخصي، أم الجماعي، نهاية بالمستوى القومي.
فمن السجن كتب محمود درويش أروع قصائده وأكثرها توهجاً بالأمل والإصرار والتحدي، وهي قصيدة تذكرنا برسالة حنا أبو حنا التي بعث بها حين كان سجيناً في الرملة عام 1958، يقول محمود درويش:

من آخر السجن طارت كفُّ أشعاري
تشدُّ ايديكمُ ريحاً على نار. .
أقولُ للمحكم الأصفاد حول يـــــدي:
"هذي أساورُ أشعاري وإصراري!"
في حجم مجدكمُ نعلي، وقيدُ يدي
في طول عمركمُ المجدول بالعار.
في اليوم أكبر عاماً في هوى وطني
فعانقوني عناق الريح للنار!
 
يقول ذلك لأنه يؤمن أن:
 
المغني على صليب الألم
جرحُه ساطعٌ كنجم
قال للناس حوله:
كلُّ شيءٍ، سوى الندم . .
هكذا متّ واقفاً
واقفاً متّ كالشجر!
 
ولسميح القاسم قصيدة اسمها "رسالة من المعتقل":
 
أماهُ ! كم يؤلمُني !
أنك تجهشين بالبكاء
إذا أتى يسألكم عني أصدقاء . .
لكنني أومن يا أماهْ
أومن
أن روعة الحياة
تولدُ في معتقلي
أومن أن زائري الأخيرَ لن يكون
خفاشَ ليل
مُدلجاً، بلا عيون
لا بد أن يزورني النهار . .

وللقاسم قصيدة طويلة من أربعة أناشيد عنوانها الرئيسي "من وراء القضبان". وقد حالت الظروف دون معرفة النشيدين الأوسطين في هذه القصيدة اللذين صودرا ومنعا بالقوة، ولكن المناخ العام للنشيد الأول والأخير يثبتان ما ذهبنا اليه.

هذا على صعيد شخصي . . أما على صعيد جماعي فقد غنى شعراء الأرض المحتلة الأحداث اليومية التي مر بها شعبهم الأسير، وقد رأينا قبل قليل كيف سجل حبيب قهوجي وراشد حسين مجزرتي كفرقاسم وصندلة، ورأينا أمثلة أخرى في قصص زكي سليم درويش، وعطاالله منصور، وفوزي الأسمر وسجل الشعر الشعبي بدوره أحداثاً يومية (10) وتصدى للعملاء في نوع من التشهير الذي كبلهم وشل نشاطهم فعلاً، وكذلك في حالات رثاء وتشجيع (11). وقد تابع محمود درويش قضية النازحين بصوروة فريدة، ونظم سميح القاسم عدة قصائد عن مجزرة كفرقاسم، واحدة منها لا نعرف إلا مطلعها، وحال الحكم العسكري الإسرائيلي المفروض على العرب دون وصول آخرها، أما قصيدته الثانية، عن كفرقاسم، التي ألقاها في تجمع شعبي ذهب الى القرية المنكوبة للعزاء في الذكرى العاشرة وحال الجنود الإسرائيليون دون وصولهم الى القرية، فقد أدت الى تظاهرة شعبية عنيفة.

وبالنسبة لمجزرة كفرقاسم فقد شكلت نقطة انعطاف اساسية في الموقف المقاوم لشعراء الأرض المحتلة العرب، إذ من النادر ألا يأتي ذكر كفرقاسم كشهادة دائمة على المقاومة.

لمحمود درويش، كما رأينا، أناشيد كاملة في ديوانه الأخير "آخر الليل" عن كفرقاسم باسم "أزهار الدم" يخاطب فيها الشهداء الخمسين الذين جزروا في تلك القرية عشية العدوان الثلاثي على مصر، وفيها يتحول الشهداء الخمسون الى أوتار تعزف صمود الشاعر:

لمغنيك على الزيتون، خمسون وترْ
ومغنيك أسيراً كان للريح
وعبداً للمطرْ. .
ومغنيك الذي تاب عن النوم
تسلّى بالسهرْ
سيسمي طلعةالورد، كما شئت: شرر!
سيسمي غابة الزيتون في عينيك:
ميلاد سحر!
وسيبكي، هكذا اعتاد،
إذا مرَّ نسيمٌ فوق خمسين وترْ
آه ! يا خمسين لحناً دموياً
كيف صارت بركةُ الدم نجوماً وشجرْ؟
الذي مات هو القاتلُ، يا قيثارتي
ومغنيك انتصرْ

ثم يقول:

كفرقاسم!
إنني عدتُ من الموت لأحيا، لأغني
فدعيني استعر صوتي من جرحٍ توهّجْ
وأعينيني على الحقد الذي يزرعُ في قلبي عوْسجْ
إنني مندوبُ جرح لا يساومْ
علمتني ضربةُ الجلاد
أن أمشي على جرحي
وأمشي، ثم أمشي، وأقاوم!

ومثلما عاد محمود درويش في قصيدته هذه الى "كفرقاسم" بعد عشر سنوات من المجزرة، يعود سميح القاسم – بعد عشر سنوات أيضاً – الى المكان ذاته في ديوانه "دمي على كفي":

. . . وزهيرات من البرقوق في صدر امرأةْ
وعيون مطفأةْ
وعويل غارق في رهبة المأساة عائمْ
وأنا ريشةُ نسْرٍ
في مهبِّ الحزن والغيظ:
إله لا يساوم!
 
* * *
 
يوم قالوا: سقطوا قتلى وجرحى
ما بكيتْ!
قلتُ: فوجٌ آخر يمضي
ومن بيتٍ لبيتْ
رحتُ أروي نبأ الغلة في العام الجديدْ
ومن المذياع أنباءٌ عن العام المجيدْ:
"مصرُ بركانٌ، وكلُّ الشعب يحمي بور سعيدْ
أيها الأخوة، والنصرُ أكيدْ . . "
يوم قالوا: سقطوا قتلى وجرحى
سحتُ، والأدمعُ في عيني: مرحى
ألفُ مرحى!
يوم قالوا، ما بكيتْ
ومضتْ بضعةُ أيامٍ على عيد الضحايا
وأتيتْ . .
وتلقّاني بنوك البسطاءْ
وتلونا الفاتحةْ
وعلى أعين أطفالِكِ
يا أم العيون الجارحةْ
يبسَ النهر وماتتْ في أغاني الحمائم
وأنا، يا كفرقاسمْ
أنا لا أنشدُ للموت، ولكنْ:
ليدٍ ظلتْ تقاومْ!
 
ولحنا أبو حنا قصيدة طويلة عن كفرقاسم أيضاً،
قالها بعد عامين من المجزرة، أبرز مقاطعها:
 
كيف العزاءُ؟ وكيف يسلو الويل شعبٌ ثاكل؟
عصفت بروحته الخطوبُ وصارعته نوازل
ما زال يحملُ جرحه في صدره . . ويطاول
وتسيرُ في درب الدماء، على خطاه، غوائل
. . إن السبيل الى العزاء تكاتفٌ وتكافل
ونداء أرواح الضحايا: فليهبَّ الغافل!

* * *

ولهؤلاء الشعراء، الدرويش والقاسم وأبو حنا، قصائد عن الحكم العسكري كقضية يومية يعاني عرب الأرض المحتلة منها، وعن الجواسيس الذين يندسون في التجمعات العربية، وعن سلب الأراضي من الفلاحين العرب، والى آخر ما هنالك من قضايا يومية.

ولسميح القاسم بالذات قصيدة لافتة للنظر: "كرمئيل"، وهو اسم المدينة التي ابتناها الاسرائيليون في الجليل، فوق أراض سلبوها من عرب قرى "دير الأسد" و "البعنة" و "نحف"، ضمن خطتهم لتهويد الجليل . . وقد أطلق القاسم على هذه المدينة اسم "مدينة الحقد والجوع والجماجم":

صباحَ مساءْ
يطالعُنا وجهُها والسماءْ
ونبسمُ، لا بسمة الأغبياءْ
ولكنها بسمةُ الأنبياءْ
تحداهمُ صالبٌ تافهٌ
يغطي الشموس ببعض رداء . .
 
* * *
 
غداً يا قصوراً رستْ في القبور
غداً يا ملاهي
غداً يا شقاءْ
سيذكرُ هذا الترابُ سيذكر
أنّا منحناهُ لون الدماءْ
وتذكرُ هذي الصخورُ رعاةً
بنوها بأدعيةٍ من حداء
ونذكرُ أنّا . .
 
* * *
 
هنا سفرُ تكوينهم ينتهي
هنا، سفرُ تكويننا، في ابتداءْ!

إن الأمثلة في هذا النطاق أكثر من أن تحصى، وتتوفر منها لدينا كمية هائلة باتت تدعو بإلحاح الى إصدارها في ديوان يضم شعر المقاومة، الظاهرة الأكثر توهجاً ومعنى في حياتنا الثقافية الراهنة.
لقد كان شعر المقاومة، وأدبها على العموم، متفائلاً منذ البدء، ولم يكن هذا التفاؤل ضرباً في الفراغ، أو وهماً مقامراً، وإلا لتصدع خلال عشرين سنة من الأسر والعذاب. ولكنه كان نتاجاً معافى وشديد المراس لإدراك عميق لأبعاد المعركة وانتساباً أصيلاً لجماهيرها الحقيقية وقضاياها، هدف المقاومة وأداتها في آن واحد.

لقد انطلق شعر المقاومة من أرض الالتزام ومن التزام الأرض، وكشف عن طريق الممارسة والمواجهة أعماقه وأبعاده، وحقق في هذا النطاق – برغم كل المصاعب التي لا تصدق – توهجاً فخوراً من حيث المضمون والشكل على السواء، يضعه بلا تردد في مقدمة الحركة الثقافية العربية الراهنة.

ولذلك فإن أدب المقاومة، وقد ربط نفسه الى أصوله وعرف آفاقه والتزم بارتباطاته الأصيلة، لم يعرض ظاهرة التخلي، ولا التنصل، ولا العتاب والعويل، كان يمارس إدراكه لدوره ومسؤولياته، ولا يحجب نفسه عنها وراء "ستارة الضجر" أو المزايدة الرخيصة أو المزاح الذي تزلزله أصغر ريح، فهو لم يكن رفاهاً، ولكنه كان دائماً "التزاماً" بالسلاح والجمال والمثل، معاً.

وهذا وحده الذي يجعل شاعراً مثل محمود درويش، وحده تقريباً في قارتنا العربية الشاسعة، يتلقى كارثة الخامس من حزيران (يونيو) 1967 بثبات وصمود ويجعلها حافزاً:

وطني!
يعلمني حديدُ سلاسلي
عنف النسور
ورقة المتفائل . .
ما كنتُ أعرفُ أن تحت جلودنا
ميلاد عاصفةٍ
وعرش جداولِ!
سدّوا عليّ النور في زنزانةٍ
فتوهجتْ في القلبِ
شمسُ مشاعل
كتبوا على الجدران رقم بطاقتي
فنما على الجدران
مرجُ سنابل
وحفرتُ بالاسنان رسمك داميا
وكتبتُ أغنية الظلام الراحل
أغمدتُ في لحم الظلام هزيمتي
وغرزتُ في شعر الضياء أناملي
والفاتحون على سطوح منازلي
لم يفتحوا إلا وعود زلازلي
لن يبصروا إلا توهج جبهتي
لن يسمعوا إلا صرير سلاسلي
فإذا احترقتُ على صليب عبادتي
أصبحتُ قديساً
بزي مقاتل!
بقلم الراحل غسان كنفاني

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى