السبت ١٦ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
بقلم مجدي علي السماك

بدأت ليلة الزفاف

ألآن بدأت ليلة الزفاف. صار فواز عريسا، قد لا يعرفه من يراه بشعره المصفف النظيف اللامع والمدهون بالكريم، وبدلة الفرح السوداء التي اشتراها من البالة، رغم أنها مستعملة لكنها تبدو جديدة وقد غيرت شكله وقلبته رأسا على عقب، وإن كان في جيبها الجانبي ثقب صغير لا يظهر لأحد، ثقب ابتلع قطعة نقود صغيرة إلى جوف البدلة ويئس فواز من التقاطه بعد محاولات عديدة، فأحال أمره إلى وقت آخر ريثما ينتهي من مراسيم الفرح وطقوس ليلة الدخلة، هذه الليلة التي انتظرها من سنين طوال، وكاد قلبه أن يتوّرم من أجلها.. فهو متشوق إلى درجة أنه فكر بصرف المدعوين وتقديم عقارب الساعة، كي يختصر الساعات ويصل بسرعة إلى ليلة عمره.

ما أن أصبح فواز وعروسه سهير داخل بيت الزوجية الضيق كعلبة السجائر، حتى حملها بين ذراعية القويين والرفيعين كساقي خروف، وبقدمه اليمنى بدأ خطاه متجها بها إلى غرفة النوم النظيفة والمرتبة بعناية، مبتسما، وقد لاحت في عينيه نظرات لها بريق أخاذ.. بريق به دفقات من خفايا قلبه ووراءه رعشة حياة، وهي نظرات تقول كلاما فصيحا بلا أي كلمات، وقد فهمتها سهير وسبرت أغوارها.. من المؤكد أنها فهمتها.. فهي من الراسخات في معاني الصمت، بل ليس بمقدورها ألا تفهمها، رغم ما غشيها من توتر، وما حل بها من حياء.. فألذ أنواع الكلام إلى قلبها وأفصحه إلى عقلها هو ذلك الذي لا يقال.. بل هي على يقين أن للقلوب السنة لا تسمعها الآذان.

وضع كفا أسفل خاصرتها فوق عظمة الحوض، وكفا على كتفها، وأمال رأسه إلى الأمام لينال قبلة ساخنة من فمها المنتظر بشوق، والملسوع بالرغبة، لكنها رفعت رأسها قليلا بلا شعور منها، فسقط فمه على أحد ثقبي أنفها الصغير، فغرقت بالخجل الذي تلبد به وجهها الأسمر والمدّور كقرص البيتزا، وبالكاد ظهر على وجهها ابتسامة مكسوفة، فطأطأت رأسها وقد أمالته قليلا إلى اليسار، ليرتفع كتفها الأيسر قليلا عن كتفها الأيمن في محاولة منها لإخفاء الحياء وكتم الخجل، وراح هو بالضحك الواني، المتبوع بابتسامات عريضات ملأت كل أصقاع وجهه الطويل من أوله إلى آخره، فبرز كل ما به من هضاب وتلال.. طبيعي أن يضحك الآن، فهو الذي كان يتمنى أن يصاب بعاهة العمى أو الطرش، أو حتى أي عاهة، في سبيل أن يصبح عريسا لابنة حلال جميلة و طيبة مثل سهير.. ها هو الآن معها عريس لها بلا أي عاهة، وإن كان جسمه نحيلا كالمّسلة، ورغم ما قاساه من شقاء عندما كان يجمع النقود قليلها إلى أقلها حتى وصل إلى غايته، ونال هذه الليلة المبتغاة.. فهو مثل بقية شبان الحارة، بالعادة يتزوجون، وبالعادة ينجبون، وبقوة إرادة الحياة يعيشون.. هكذا هم.. يأخذون الدنيا غلابا.

دخل فواز إلى الحمّام، ثم تخلص بسرعة ولهفة من كل شيء يستر جسده النحيل، لم يبق سوى ساعة يده المقاومة للماء، التي اشتراها من يومين بخمسة دولارات، وأخذ بشدة يفرك أسنانه المتباعدة بالفرشاة المغطاة بمعجون له طعم النعناع، فأنعش فمه ورطب حلقه حتى أطراف بلعومه، فأزال من فمه رائحة دخان السجائر الساطعة كرائحة ألفنيك، فصارت أسنانه تلمع مثل الزجاج المغسول، ثم مدّ يده و فتح صنبور الماء لينعم بحمّام ساخن ولذيذ، كي يزيل ما علق بجلدة الخشن كورق الصنفرة من عرق، ويخفف ما يسري بجسده المنهنه من تعب.. بهمّة أخذ يدعك جسمه بقطعة ليف جديدة محاطة بالقماش، اشتراها خصيصا من أجل ليلة العمر هذه، فتغطى جسده برغوة الصابون وفقاعاته، حتى بدا كأنه وسط كومة من القطن الأبيض المندوف المستعمل في العيادات، ثم راح يفرك رأسه بشامبو له رائحة الفراولة ومخلوط بالفيتامين، فخرجت الرغوة من بين أصابع كفيه كالعجين.. في هذه الأثناء على غفلة منه بسبب تسرعه وقلة صبره، تزحلق ووقع أرضا فارتطم رأسه بالحائط، لكنه وقف ثانية ميتا من الخوف كالملدوغ من عقرب، ومقطوعة أنفاسه من الفزع والهلع..

 يا سهير.. يا سهير.. أين أنت.
 نعم.. أنا هنا.
 لقد عميت.. لا أرى شيئا.. حتى أصابع كفي لا أراها.
 لا تقلق. الكهرباء.. لقد قطع التيار الكهربي.
 " الله يلعن أبو الكهربة على أبو يومها ".. وبعدين مع هذا الحال ! من سنين وأنا انتظر هذه الساعة.. أشعلي شمعة!

لكن سهير حديثة العهد في هذا البيت، فلا تعرف أماكن الأشياء، فأخذت تمشي بهدوء متخبطة و تتلمس الأشياء كالعمياء، تحسس بيديها في هذه الظلمة الحالكة لليل ساكت، فشبك طرف فستان الفرح الأبيض الناصع مثل اللبن الزبادي بطرف مسمار بارز في كرسي خشبي فشقه، سمعت صوت تمزقه وكأنه شرخ في قلبها، فهو فستان مستعار بالأجرة لهذه الليلة المنتظرة من سنين، فجلست جانبا مستكينة، صامتة، كأنها تحصي أنفاسها اللاهثة المتقطعة، وتبني على خديها بمناديل من الورق الناعم سدودا تصد بها تيارات الدموع المتدفقة من عينيها الجميلتين.. على حين أخذ هو يحاول بعصبية فتح باب الحمام، الذي تعطّل ولم يفتح أبدا، فقد خرب الزرفيل.. وصار مثل الحمار الذي يحرن عن المشي.. ها هو الوقت قد جاوز منتصف الليل بكثير، والدنيا نائمة في عتمة داجية، والنهار بعيد، والصمت جاثم على الصدور، صمت لا يقطعه سوى صمت آخر هو صوت الليل الممطوط المعتم بإصرار عنيد.

وقع في يد سهير قطعة شمع بحجم عقلة الإصبع، فأشعلتها واستبدلت الفستان الأبيض بملابس أخرى.. بينما جلس فواز في الحمام على كرسي بلاستيكي واضعا وركا فوق ورك، بعد أن اضطر لارتداء نفس ملابسه المتسخة بالعرق، وأخذ يخفف عن سهير مصابها بالفستان المشقوق، ووعدها أن يشتري لها مثله عند خروجه بالسلامة من الحمّام، رغم يأسه من امتلاك ثمنه في يوم من الأيام، إلا أن كلامه كان لقلبها بلسما، فهدأت أعصابها بعد أن تأوهت تأويهة طويلة وساخنة كالصهد.

بينما هو كذلك حثها على الاقتراب من باب الحمّام، وأخذ ينقر بطرف سبابته محددا بقعة تضع عليها خدها كي يقبلها من خلال خشب الباب، وأخذ يرسل قبلات لها صوت أشبه بزامور دراجة هوائية، طربت لها سهير حتى سرت في جسدها رعشة وأغمضت عينيها بوله هائمة كالمخدرة بالبنج، وهو متيقن أن خدها وفمها يقعان في المجال الحراري للقبلة.. ثم تسلل كفه إلى جيبه فعثر على حبتين من الملّبس، فأرسل إليها واحدة من تحت عقب الباب، فهّرستها بلين بين فكيها، أما هو فوضع الحبة في فمه وأخذ ينقلها من جانب إلى آخر ويطرب لقرقرة اصطدامها بأسنانه.. وتحفز للكلام فراح يحدثها عن المستقبل ورغبته بإنجاب ولد يعلمه الصحافة، أو المحاماة، وأن يختار له اسما ناعما كالموسيقا الهادئة، بينما عبرت هي عن رغبتها بإنجاب بنت تختار لها اسمها وتعلمها المحاسبة، ثم أخذا يضحكان كثيرا، نوبات متتابعة من الضحك الصاخب حتى أمطرت العيون.. لكن الصمت ساد من جديد، فشعرت سهير بالوحشة، مما اضطره إلى مؤانستها بالمزيد من الحديث الجميل عن المستقبل، وأخذ يقول لها نكات جعلتها تضحك حتى سالت على خديها قطرات الدموع باردة كحبيبات الثلج.. لكن ذلك لم يمنعها أن تسأله..

 إلى متى سنبقى بلا كهرباء ؟
 إلى أن تمدنا إسرائيل بالوقود.
 ومتى ستمدنا إسرائيل بالوقود ؟
 عندما.. لمّا.. الله اعلم !

بدأت الشمس ترسل أولى خيوطها.. نادت سهير أحد الجيران ليكسر باب الحمام، فكسره وعاد مسرعا، فخرج فواز من الحمام كعصفور فلت من قفصه، فتمتمت سهير بأرق : حمدا لله على سلامتك، هيا ننام.. فحملق بها فواز وضمها إلى صدره بعد أن أخذها بين ذراعيه، وزعق زعقة قوية مدهشة : ننام.. أي نوم.. قال نوم.. الآن بدأت ليلة الزفاف.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى