الأحد ١٧ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
بقلم صبحي فحماوي

السروال

ارتياد المقاهي إدمان، وأنا مدمن مقاهي..لا بل مقهى واحداً ما زلت أرتاده ليلياً منذ ثلاثين سنة..لا يمنعني من الذهاب إليه، إلا الشديد القوي..! ففي كل ليلة، أتقاتل مع زوجتي أريج، فيتطاير الشرر من عينيّ، وأخرج من البيت، مخنوقاً، مولولاً صائحاً..هذه ليست عيشة..! والله، ثم والله، لأبيتن الليلة هناك..! فترد عليّ بمرارتها المطفأة... الليلة قالت لي: (قال عبد الغني قال..! كان لازم يسموك: العبد الفقير..) ولكنني ما أن أدخل مملكتي، وأقعد هناك، على الكرسيّ المحجوز لي، على الواجهة الزجاجية للرصيف، الكرسي الخيزراني المعهود نفسه، ويتقدم نحوي أبوأسعد، بتكاسله اللئيم، وعيناه على حركات وطلبات الزبائن الآخرين، حاملاً معه نرجيلتي النحاسية الزجاجية المائية النارية الطويلة، المفعمة بدخان يشفطه على الطريق.. إبن الكلب يشرب طوال الليل دخاناً ملغوماً، دون أن يدفع..! فيضع لي يا محترم، كأس الشاي الدبس على المنضدة النحاسية العملاقة، ويُوقف النرجيلة على الأرض، ويفك لي خرطومها الأطول من خرطوم غسيل السيارات، الذي أعمل به طوال اليوم في المحطة. تقف العمارتان أمامي، مثل "ريا وسكينة".. وما أن أسحب نفساً، وأشفط شفطة من الشاي الحبر يا حبيبي، حتى أتجلى، وأسلطن، وأقعد ألاحق بنظراتي مشاة الشارع التجاري، المكتظ بالمارين في قاع البلد، وأفضفض بصوتي الجهور..هذا لا يهم، فلقد تعود رواد المقهى على سماع حكاياتي، وهم يضحكون عليّ، ويعرفون أن عقلي طاقق.!

تمر الشابّة السمراء الطويلة، السمينة بعض الشيء، وشعرها ينسدل على ظهرها غزيراً، مثل ذيل حصان،وصدرها العامر بالإيمان! وكعادتها من وراء القضبان..أقصد من وراء زجاج المقهى، تبتسم لي، فيظهر ناباها..( وإذا ضحكت، وبيّن نابها، الحقها، ولا تهابها..) ولكن إلى أين ألحقها ؟ فالنرجيلة تطير مني! وأنا عندي نَفَس تمباك، أومعسِّل، أهم من كل نساء الأرض.. تختفي الملعونة، ولكن بَسمتها تترك قلبي يرتعش لها، مثل ارتعاش عصفور لحمي صغير داخل عشه، وهويشاهد أمه تهبط عليه، دفئاً وحناناً، بجرادة اصطادتها، أودودة التقطتها، أوثمرة عُلِّيق، قطفتها من أمها، فتسقطها في فمه المفتوح، والذي يظهر أحمر شغوفاً من الداخل.... لوانتبه الفقراء والعاطلون عن العمل للعصفورة المؤدبة، لقلّدوها، وأكلوا الجراد والدود وثمر العُلّيق!

مفهى شعبية

عادت الملعونة من الاتجاه المعاكس، "تتمرقع" كما هي في كل مرّة، شقراء مسحوبة الجسد، كعود الخيزران الرخص.. تتبسم لي بشفتيها المكتنزتين، كبديتي اللون، وأنا أحب (حوسة الكبدة )..تشعر الملعونة بعوزي، وشهيتي للكبدة، فتضمُّهما وتقذفهما إليّ، مقبلةً الهواء، فيتهاوى قلبي ملتقطاً قطعة الكبدة، مثل التقاط ولد جائع لقطعة الجبن التي أسقطها الغراب في الهواء الطلق....لم يعد الهواء العربي الذي يهب علينا من الغرب طلقاً هذه الأيام..صار الطلق مجرد طلق في الهواء، أوطلقات على الأرجل، وأحياناً تكون الطلقة في الصدر، أوفي الظهر، أوحتى في الرأس، والذي يصير يصير..! كان عمي أبونورس يقول (حيِّد عن الراس واذرب) وأما الآن فهم "يذربون" من دون أن يُحيِّدوا الراس..!
لخمتني هذه الجميلة التي تخايلني كلما أسهو، وأشفط نار الدخان، المتصاعد إلى مرجل رئتيّ الذي يغلي، فتمرُّ بشعرها الأسود المقصوص إلى مستوى أذنيها، وهي تنظر إليّ باسمة العينين العسليتين...جاء أبوأسعد ليضع نارة، وهويغني أغنية عبد الوهاب ( ما احلاها عيشة الفلاّح.. متهنِّي وقلبه مرتاح..! ) تجاهلته، ولم أرد عليه، ولم أعبِّره، فاليوم صارت عيشة الفلاح مقلوبة.. خاصة بعد أن صدر المرسوم رقم 13: تُحَوّل كل مياه الري والزراعة إلى حمامات السياح والمصطافين على شواطىء برك سباحة، من لؤلؤ وإستبرق.. وكما استأصلوا زائدتي الدودية، بحجة أن ليس لها فائدة، استأصلوا الفلاحين من الوطن، وحرقوهم بحطب غاباتهم، دون نفط، ذلك لأن سعر نفط العرب ملتهب بيننا، وبرداً وسلاماً على إبراهيم..! وهكذا انقرضت الغابات، فاستمتعنا بشمس التصحر، وصار السياح يأتوننا (حفايا، عرايا ) من كل فج عميق، فقط ليتشمسوا برمال صحارينا، التي تهب " أجف من القماش بمرتين "، فتنعش القلب..! قال لي أبوأسعد وهوقادم ليسترد كأس الشاي الفارغة..الملعون يبقى معظم الوقت ملتصقاً بنرجيلتي، بحجة النارة، ولكنه والعلم عند الله، يقصد سماع ثرثرتي..لست أعرف ما إذا كان..!

هذا الشارع يكتظ بالمارة، وليست الجميلة وحدها التي تلاحقها عيناي بين الجموع، ذلك لأن المرور على الأقدام ما يزال مجاناً، فازداد ضغط الأقدام على الشارع ( واطلبوا الرزق عند تزاحم الأقدام ) يعتبرونها فرصة! الناس يركضون هنا وهناك، يشترون كل شيء بالتقسيط المريح..! خذ ’’قرداً’’ واربح..! أقصد خذ قرضاً واربح..! نصف مليون ربح..! من سيربح المليون..؟ عشرة ملايين ربح..! كل يوم مليون ربح..! قرقش واربح..! (فرفش واربح)..! (قزقز واربح )..! (مزمز واربح)..! اربح واربح..! نحن لا نلعب قماراً، ولا نمتص جيوب المغفلين الغلابى، بل نربح ربحاً حلالاً زلالاً، بمشيئة الله.أذكروا الله! إن شاء الله تربح..! روح ليتك تربح..! اربح مني، من شان الله! ( إلهي لا يحطّك في ضيق..! ).. يا رجل، العالم كلها طالعة نازلة تربح، وأنت جالس لي هنا، مُتكوّم على هذه النرجيلة.! قم واربح لك ربحاً، لأن الأشياء سوف تغلا..سوف تغلي. سوف تغلوأثمانُها، سوف تغلُّ أثمانَها..غُلوّاً كبيراً.. هناك غُلوفي الموضوع..!

وعندما أنهره: خلّصت النفس يا حيوان..! يقول لي أبوأسعد: والله لولا سحبي المجاني لهذا النفس وذاك، طوال وقت دوامي، لما بقيت ليلة في هذا المقهى..فأنا يا عبد الغني، (أتمزمز) على نرجيلة كل زبون، شفطة من هنا، وشفطة من هناك، حتى صرتُ مصاباً بداء الرئة..! رئتي مغلقة..! فأقول له: حلّ عن سمائي، فأنا عقلي كله مغلق، وليست رئتي وحدها..! كل شيء مغلق هذه الأيام.. الشوارع مغلقة للتحسين.. ( نعمل من أجلكم، ونأسف لإزعاجكم..) كلهم يعملون من أجلنا، فمحطات النفط مغلقة في عزّ البرد، بهدف التحسين، ومواسير مياهنا مغلقة للتحسين، والوظائف الحكومية مغلقة للتحسين، والمستشفيات الحكومية وصيدلياتها مغلقة للتحسين، والمدارس الحكومية مغلقة للتحسين..

وكل الذي يعملوه هوحفريات في حفريات في حفريات.. يرقعونها اليوم من هنا، ثم يحفرونها غداً من هناك، يزفتونها بأزفت زفت، ليحفروا التي بعدها.. حفريات الأمس كانت للهاتف، وحفريات اليوم للكهرباء، وحفريات الغد للمياه، وحفريات ما بعد غد للمجاري، وتستمر لعبة الروليت الروسي تدور، فحفريات ما بعد بعد غد، للبحث عن جرار الذهب..هناك أفراد سخطة على حفريات الذهب، يأخذون معهم ( رَصَد)، لا أعرف ما هوالرّصَد، ولكنني متأكد من الرصد، فالبعض يجد الرصد في حفرة الكنز، مثل أفعى أم قرون وجرس، والبعض يجلب رصده من مغارة بعيدة، وهوعصيٌّ على التجاوب معهم، تسمع صراخه للسماء العالية، ولكنك لا تراه وهم يجُرّونه بجنازير حديد..! وبعضهم يستأجر رصداً من عند شيخ مفتي غير شكل! والرصد أحياناً يقتل صاحبه، وأحياناً يودي به إلى السجن، وأحياناً يفوز أحدهم بلقب مليونير أوملياردير. صَدِّقني! فإذا أردت أن تشتغل في مثل هذه الأرصاد..يقولون لك: (من رَصَدَ الناس، مات همّاً! ) وهكذا تستمر حفرياتنا، حتى نصل إلى الحفرة الأخيرة..!

ألمحُ المرأة الحنطية النحيلة الطويلة. تمر كعادتها من الشارع نفسه، تُزاحم، وتنفذ من سم الخِياط.. جسدها مجفف من جميع الجهات، ولكنها ماشي حالها..! ويبدوأنها لا تلهط من هذه الشحوم التي تتصدق بها الجهات المانحة ( ليست للبيع أوالمبادلة). وبصراحة، أريد أن أفضح المستور، ذلك لأنها فائرة معي هذه الليلة، وأقول: إن الشجار الذي تم اليوم بيني وبين زوجتي أريج، كان بسبب تفصيلها سروالي الداخلي الململم من أكياس طحين الدول المانحة.. هم يبيعونها، رغم أنه مختوم عليها ( ليس للبيع، أوالمبادلة). المشكلة أن العمياء زوجتي، لم يعجبها وضع رسم اليدين المتصافحتين بحرارة، إلا على منتصف مؤخرتي.. وهذه فضيحة تجنن..! هذا شيء يغيظ ويخزي..! ولكنني الآن وبعد أن برد رأسي، وخفّ ضغطي، انتبهت إلى أنني كنت مخطئاً معها، وعلى العكس، يجب أن أشكرها عندما أعود.. فكون "الموضوع" (ليس للبيع أوالمبادلة) في الوقت الذي لم يبق شيء لم يبعوه، فهذا شيء مُشرِّف، ويرفع الرأس...!

تعرف يا أبوأسعد، خطرت ببالي فكرة، أن ألبس هذا السروال الداخلي المتنازع عليه، مثل "الأراضي المتنازع عليها" وأدور به علناً في هذه الشوارع المكتظة، مؤكداًً لهم أن الموضوع ليس للبيع أوالمبادلة!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى