الثلاثاء ١٩ شباط (فبراير) ٢٠٠٨

أيقونات إلياس لحود الواقعية والمتخيلة

عبدالعزيز المقالح - الحياة

 1 -

مثّلَ شعراء لبنان الجنوبيون في واقع الشعر العربي المعاصر ظاهرة إبداعية متميزة أثارت الكثير من الانتباه، وقامت بدور يصعب إنكاره أو التقليل من شأنه. ومن المؤكد أن ما أبدعه هؤلاء الشعراء الجنوبيون لم يكن شعراً ثورياً مقاوماً فحسب؛ بل كان قبل ذلك وبعده شعراً حقيقياً يربط بين الآني والخالد، بين القضية الوطنية - القومية والتأمل في اكتناه العالم. ومن هذا الموقف أسهم هذا الشعر في بلورة الرؤية الشعرية النابعة من أحاسيس إنسان العصر ووجدانه، وهي الرؤية التي شارك في تشكيل مفرداتها واستشراف أبعادها عدد من الشعراء العرب في النصف الثاني من القرن العشرين. ويستطيع الدارس المتأني أن يثبت أن شواغل هؤلاء الشعراء الذين عُرفوا بالجنوبيين، ومعاناتهم لم تفتح نوافذ في هذه التجربة السامقة للعابر والباهت في الشكل أو المعنى والصور، ما يؤكد أن في شعرهم إضافة حقيقة كان ديوان الشعر العربي المعاصر في انتظارها وأحوج ما يكون إليها. وأزعم أن هذه التجربة الفذة والفريدة لم تجد ما تستحقه من الدرس النقدي، على الرغم من ظهورها في بلد غنيٍ بالباحثين ونقاد الشعر. بلد يكتظ بكل الإشراقات التي صنعت مجد الكلمة العربية المعاصرة، بلد لم تستطع قوى معادية كثيرة أن تجعله ينطوي في دهاليز عزلته، أو يستسلم للواقع القاسي وما يرافقه من خيبات متلاحقة. وكنت في درس لي سابق مع بعض طلاب الدراسات العليا في الجامعة، قد ظننت أنني اهتديت إلى السر الذي جعل هذه التجربة الشعرية المهمة الطالعة من جنوب لبنان لا تجد صداها المناسب في ميزان النقد الأدبي، وهذا السر –كما تصورته - يتجلى أو ينطوي في «العشم» القومي، في أن تجد هذه التجربة من ينصفها من خارج القطر اللبناني؛ بعيداً عن محيطها الذاتي وما قد يفرزه من منافسات ومناوشات تبتعد بالتجربة عن مدارها التأثيري وما أحدثته من أصوات وأصداء.

والمتأمل في السياق العام لهذه التجربة الشعرية سيجد أن شعراءها على رغم التمايز الملحوظ في ما بينهم في التعامل مع اللغة، واجتراح المعاني والصور ينطلقون من معاناة واحدة، ويلتزمون بنظام شعري محدد؛ هو نظام قصيدة التفعيلة في إيقاعها الموسيقى الواضح، مع تفاوت في طريقة استخدام كل شاعر لهذا النظام المفتوح على اجتهادات وأشكال تخضع للحالات النفسية والشعورية. وبين يديّ في أثناء كتابة هذه الإشارات أحدث دواوين الشاعر اللبناني «إلياس لحود». ويعد هذا الشاعر في التقييم النقدي المتأني واحداً من أفضل الشعراء الجنوبيين وأقدمهم تجربة وأغزرهم إنتاجاً. الديوان هو «أيقونات توت العلّيق»، الذي صدر عن دار الفارابي 2007. ومن بين دواوينه التي أسعدني الحظ بالاطلاع عليها ديوان «ركاميات الصديق توما وأغاني زهران» 1978، وديوان «شمس لبقية السهرة» 1982، و «مراثي بازوليني» 1994. ومن النافل القول بأن إلياس لحود شاعر التسعينات وأول القرن الواحد والعشرين غير إلياس لحود بالتأكيد شاعر الستينات والسبعينات، إذ أنه استفاد من التحولات العميقة وما حققته القصيدة العربية من تطور متلاحق، ولم يُدر ظهره لمتغيرات الحداثة الشعرية كما فعل آخرون من الشعراء في الوطن العربي، الذين توقفت تجربتهم عند مرحلة معينة لا تتجاوزها، أما هو فقد واصل، شأن بعض زملائه من شعراء الجنوب اللبناني التعامل مع الحساسية المتجددة لغةً وبنيةً ومفهوماً:

وحدي أتعملق في لهبي

وحدي أتنـزه من أقصاي إلى أقصاي،

وحدي... لا شيء سوى وحدي...

كي أرضع أطفالي الخمسين

ركبّت لبطني أثداء

تتدلى من شتى الأوطان

وصلت الأثداء الكبرى بحليب سباعٍ نضبت

ووصلت الأثداء الصغرى بعصيرٍ للتمر الهندي

ولأمنع شرَ تلوثها سكّرت مداخلها إبراً

ولأمنع أيدي الشر بها

فرشت مخارجها ورداً وأساور من شوك الورد. (ص118)

 2 -

لن نتوقف عند عنوان ديوان الشاعر «إلياس لحود» الذي قد تكون علامته الرمزية غامضة لدى الكثيرين، وذلك لأن نصوص الديوان كفيلة بإزالة هذا الغموض، فهي – أي النصوص - تنهض على حشد هائل من الرموز، يتصدرها رمز المرأة بمالها وما عليها في قلب الشاعر من معاني الإجلال والاشتهاء. كما أننا لن نتوقف عند ذلك الحشد الهائل من الأسماء القديمة كأبي نواس، والمعري، والحلاج، أو الأسماء الحديثة كجبران، وعبدالرحمن منيف، ويوسف الصائغ، وصلاح عبدالصبور ، وباشلار، وبورخيس، وما يتبع هذا الحشد من إيحاءات وإسقاطات لن يصعب على القارئ المتمرس في قراءة هذا النوع من الشعر الأيقوني إدراك أبعادها، ولكننا مطالبون بوقفة عابرة تجاه التقسيم الذي خضع له هذا الديوان.

يتألف الديوان من سبعة أجزاء أو مقامات لكل جزء أو مقام عنوانه الخاص، وهي على النحو الآتي: «المرأة وصورها حول المرأة»، «مبتكرات حديقة اللبلاب»، «شمسيات السيدة وأخواتها»، «تعميراً لولائم جاك دريدا»، «كاميرا وحكاياتها»، «من ثرثرات حلاّق أشبيليه»، «مختارات الصيف والشتاء». ينطوي كل جزء أو مقام من هذه المقامات السبعة على مجموعة نصوص تدور في فلك، أو تسير وئيداً في رحابه مع تداخلات وتقاطعات يشتبك بعضها ببعض، ولا يخطئها إحساس القارئ، سيما في النصوص التي تعكس تجربة شخصية معيشة، يلتقط الشاعر صورها في براعة ودون تكلف:

كل سماء شتائي

فرشتها علّيقاً مشتعلاً في أخر جذوتهِ

أنا علّيق فتوحي

توت عناقيدي بيديها

تكسره محبرة محبرة

غطت فيه أصابعها

... بصمت فوق حطامي

رفعتني أيقونات... (ص88)

يكاد هذا النص القصير (وكل نصوص الديوان قصيرة) يوجز بالصور غير المباشرة، وبمفردات لغته وإيماءاتها جوهر الديوان وانفعالاته الواسعة العميقة، ومن بعض مفردات هذا النص يتكون عنوان الديوان «أيقونات توت العلّيق» بكل ما يطرحه من فضاء شعري له خصوصيته ونجاحه في التخلص من نمطية اللغة الشعرية السائدة والمتداولة، إلى درجة تبعث على الملل. ولا ننسى في هذا الصدد أن اللغة تغدو عند الشاعر إلياس لحود قضية وجود وحياة، وهو يمنحها من خلال رمزية الألوان، وعبر خبراته الطويلة في الكتابة الشعرية آفاقاً من الثراء الأسطوري والحسي:

لا أحدٌ في البيت

حتى الوردة ليست في البيت

حتى البقرة والزيتونةُ

...حتى التينةُ والبوابةُ

والمجلى وخزانته ليست في البيتW

حتى البيت القابع مثل قصيدة أعشى

ليس هو الآخر في البيت،

في البيتْ

حبة زيتونٍ

بشّرها جدي أن تعصر كل نهاية صيف

تنكةَ زيتْ. (ص41)

وقبل أن تتوقف هذه الإلمامة الخاطفة عن ديوان «أيقونات توت العليق»، أضيف إلى أن وراء الشاعر إلياس لحود، يختفي مثقف كبير اسمه إلياس لحود، لكن هذه الثقافة الواسعة تلملم الشاعر، وتأخذ طريقها إلى الشعر بعيداً عن المباشرة والتكلف، وتلك ميزة جديرة بالدرس والاحتفاء.

عبدالعزيز المقالح - الحياة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى