الثلاثاء ١٩ شباط (فبراير) ٢٠٠٨

أبرز فلاسفة الإغريق

سقراط (469–399 ق م)

مازال سقراط، الذي يمكن اعتباره أبا الفلسفة الغربية، شخصية يكتنفها الغموض بشكل عام؛ وذلك عائد، ربما، إلى أنه لم يترك لنا أيَّ أثر مكتوب. فقد عرفناه إما من خلال المشنِّعين عليه (كأرستوفانِس في كتابه السحب الجشاء Les Nuées)، الذين صوَّروه كشخص مثير للسخرية و/أو كسفسطائي خطير، و/أو من خلال أتباعه المتحمِّسين (ككسينوفانِس وأفلاطون وأرسطو)، الذين صوَّروه، وفق المنقول المعروف، كـموقظ استثنائي للنفوس وللضمائر. لذلك نرى أفلاطون (الذي كان تلميذه) طارحًا عقيدته على لسانه؛ فسقراط كان بطل معظم حوارات هذا الأخير. من تلك الحوارات الأفلاطونية نذكِّر تحديدًا بـدفاع سقراط وفيذون، اللذين تَرِدُ فيهما كلُّ المعلومات المتعلقة بحياة أبِ الفلسفة وموته. ونتذكَّر هنا، للطرافة، ما جاء على لسان ألكبياذِس في نهاية محاورة المأدبة، حين قارن بين قبح سحنة سقراط العجوز وبين جمال أخلاقه، مشبهًا إياه بالتمثال المضحك لسيليني الذي كان يتوارى خلفه أحد الآلهة.

ولد سقراط في أثينا من أب نحَّات وأمٍّ قابلة؛ وقد مارس في البداية مهنة والده، مكتفيًا بالعيش عيشة بسيطة برفقة كسانتيبي، زوجته التي لا تطاق، حتى وقع ذلك الحدث الذي أيقظ موهبته الفلسفية، حين أخبرت البيثيا، كاهنة هيكل ذلفُس، أحدَ أصدقائه ذات يوم بأن سقراط هو أكثر البشر حكمةً؛ الأمر الذي دفع به، وقد بدا مشكِّكًا في ذلك بادئ الأمر، لأن يندفع في محاولة تلمُّس أبعاد تلك الكلمات التي حدَّدتْ مسار حياته. وهكذا بدأ مسيرته، متلمسًا طريقه من خلال مواطنيه، محاولاً استكشاف مكامن تفوُّقه المفترَض – ذلك المسار الذي أوصله إلى تلك النتيجة التي مفادها أن "كل ما أعرفه هو أني لا أعرف شيئًا، بينما يعتقد الآخرون أنهم يعرفون ما لا يعلمون". تلك الحقيقة التي جعلت من فكره الثاقب أمرًا مزعجًا، حينما يقارَن بالامتثالية الفكرية للكثير من معاصريه. فقد كانت نقاشاته التي لا تنتهي تلقى اهتمامًا كبيرًا من قبل الشبيبة، مما أثار قلق أولياء الأمور، الذين سرعان ما اتَّهموه بالإلحاد وبالتجديف وبإفساد أبنائهم؛ الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى محاكمته والحكم عليه بالموت – تلك المحاكمة الشهيرة التي حاول سقراط عبثًا الدفاع عن نفسه خلالها (راجع دفاع سقراط لأفلاطون).

كانت فلسفة سقراط، أولاً وقبل كلِّ شيء، إجابة على طروحات أناكساغوراس، الذي كان يعتقد بأن فطنة الإنسان إنما تعود فقط لامتلاكه يدين (أدوات عمل). أما سقراط فقد كان يعتقد بأن فطنة الكائن البشري إنما علَّتُها تلك الروح العاقلة القوَّامة على الجسد، والتي تشارك الإله في طبيعته. انطلاقًا من هذه القناعة ومن هذا الاعتقاد انبثق العديد من تعاليمه؛ لأنه إن كانت نفس الإنسان ذات أصل إلهي (ونشير هنا إلى أن سقراط، خلافًا للمعتقدات السائدة، لم يكن يعتقد بأن الآلهة تعاني من انفعالات بشرية)، فإنه يصير بوسعنا قبول ذلك المفهوم الداعي إلى ضرورة تفهُّم أفضل للنفس، أي "اعرف نفسك"، العبارة المنحوتة على واجهة هيكل ذلفُس، التي اتخذها سقراط شعارًا: "حياة لا يُفحَص عنها لا تستحق أن تعاش". لأن أكثر ما يشدِّد العزيمة، حينما يتعلق الأمر بفناء الجسد، هو الإيمان بخلود الروح (راجع فيذون لأفلاطون). ونشير هاهنا، بالإضافة إلى ما سبق، إلى شجاعة سقراط وهدوئه قبل أن يجرع كأس السمِّ الذي وضع حدًّا لحياته؛ ونستذكر أقواله حين قارن نفسه بالبجعة التي تغني قبل أن تموت، ليس لأنها تخاف الموت، وإنما بدافع ما تتطلَّع إليه من سعادة ومن أمل.

يعتقد سقراط أن الكرامة الحقيقية للنفس إنما تنبثق من العلم الذي هو ميراثها الحق. لكن العلم الذي يعتقد به لم يكن يرتكز، كما هي حالنا اليوم، على ظواهر العالم الخارجي: فقد اتخذ سقراط، منذ البداية، موقفًا معارضًا من منظِّري الطبيعة لافتقارهم إلى الحسَّ الإنساني؛ واتخذ أيضًا، في الوقت نفسه، موقفًا معارضًا من مذهب السفسطائيين، الذين لا يمتلكون موهبة الحسِّ العلمي. فقد جمع سقراط بين المبادئ المقبولة للفيزياء وبين إتقان الجدل – جمع ما بين الشكل العلمي للمذهب الأول وبين الهمِّ الإنساني للثاني – جاعلاً من علم الأخلاق في القلب من مسعاه الفلسفي. لأنه، وفق مفهومه، بات يجب على الروح، التي تخلَّت عن محاولة فهم الكون، الهبوطُ إلى أعماق نفسها، كي تستنبط الحقائق الأساسية الكامنة في تلك الأعماق على شكل حالات بالقوَّة (راجع النظرية الأفلاطونية المتعلقة بالتذكُّر )؛ الأمر الذي يجعل النفس قادرة على الإحاطة بالمعرفة، بدون أن تقع أسيرة للأشياء الخارجية (وهذا ما سيبرهن عليه لاحقًا كلٌّ من ديكارت وكانت). إذ إنه أضحى من واجب العلم الرافض للانفعالات البشرية أن يركِّز على ماهية المعاني المجردة (أو الـconcepts)، التي كان سقراط أول من اكتشف مفهومها. فعن طريق السكينة والاستقرار الداخليين، نتوصل إلى استنباط جوهر الأشياء، ونتمكَّن من التعبير عنه بواسطة التعريفات. وكان هذا ما فعله سقراط – ممهدًا بذلك الطريق للنظرية الأفلاطونية التي ستليه – حين حاول، على سبيل المثال، تعريف مفهومي "الشجاعة" lachès و"الصداقة" lysis.

وبما أن موهبة (فنَّ) العيش السليم، كطريق إلى السعادة (والخير هو السعادة وفق المأثور القديم)، مرتبطة بمعرفة النفس، فإنها، متجاوزةً حذاقة السفسطائيين، تكشف ضلال البشر الذين لا يهتمون، في معظم الأحوال، إلا بالأشياء التافهة الزائلة (كالثروة، والسمعة، إلخ)، ويتجاهلون ما هو أساسي، أي الحقيقة الكامنة في نفوسهم. وتبدأ المعرفة، بحسب سقراط، بفعل تطهُّر (سبق أن دعا إليه الأورفيون والفيثاغوريون)، يُظهِر، من خلال التخلُّص من الأفكار المسبقة بإظهار بطلانها، مختلف الخصال الحميدة (كالاعتدال، والعدالة، إلخ)؛ تلك التي، إنْ أحسن المرء استعمالها، تتحول إلى فضائل؛ إذ "لا أحد شرير باختياره"، وإنما بسبب الجهل. هذا وترفض طريقة سقراط لبلوغ المعرفة كلَّ وحي يتجاوز العقل – فـ"شيطان" سقراط هو في المقدرة على الإقناع، وليس في الإبداع – وتعتمد الجدلية dialectique؛ لأن هذه الأخيرة، عِبْر مرحلتيها اللتين هما التهكُّم والتوليد (الذي هو، على طريقة سقراط، استيلاد الحقيقة من النفس maïeutique) تسمح – وسط أجواء من الصداقة – باستخلاص نقاط التلاقي بين المتحاورين، أي الحقائق الكونية المتعارَف عليها وفق متطلَّبات المنطق.
لقد كان سقراط بحق مؤسِّس فلسفة الأخلاق وأول منظِّر للعقلانية (الأمر الذي سيُكسِبُه عداء نيتشه). كما كان داعية إلى حرية الرأي والتفكير الفردي؛ مما جعل منه، بالتالي، مثالاً يُحتذى في كلِّ موروث فلسفي لاحق.

أفلاطون

فيلسوف يوناني ولد حوالي 428 ق م وتوفٌي حوالي 347 ق م إلتقى في شبابه بسقراط واستمع إليه وتأثٌر بتعاليمه وكان لهذا الفيلسوف الأثر الكبير على فلسفته. كتب أفلاطون العديد من الكتب أغلبها في شكل محاورات يأخذ فيها سقراط دور الشٌخصيٌة الرٌئيسيٌة. أشهر هذه المحاورات: محاورة الفيدون وبروتاغوراس، وتعتبر من مؤلٌفاته الأولى ثمٌ كتب محاورات أخرى أهمّها محاورة الجمهوريٌة ومحاورة تياتيتوس محاورة السٌفسطائي ومحاورة بارمينيدس ومحاورة السٌياسي.

وفلسفة أفلاطون هيٌ فلسفة مثاليٌة تقوم على التٌمييز في الوجود بين العالم المحسوس والعالم المعقول والذي سمٌاه أيضا بعالم "المثل" أي عالم الأفكار المجرٌدة الثٌابتة والأزليٌة. إذ يعتبر أفلاطون أنٌ الأفكار لا توجد في ذهن الإنسان فقط وإنٌما وجودها الحقيقي هو وجود موضوعي مفارق، في عالمها الخاصٌ بها. وقد كان بهذه النٌظريٌة يسعى إلى تأسيس العلم أو المعرفة الحقيقيٌة وتجاوز آراء السٌفسطائيٌين التي كانت تحول دون القول بإمكان التوصٌل إلى معرفة موضوعيٌة ثابتة. وبالفعل فقد كان هيرقليطس يعتبر أنه لا يمكن الوصول إلى معرفة ثابتة بالعالم المحسوس باعتبار أنٌ هذا العالم هو في تغيٌر مستمرٌ أو بعبارته هوٌ "في سيلان أبدي"، في حين كان بروتاغوراس يعتبر، بناء على مقولته "الإنسان مقياس كلٌ شيء" وبناء على القول بأنٌ كلٌ معرفة تعتمد على الحواسٌ، أنٌ كلٌ معرفة هيٌ بالضٌرورة ذاتيٌة. كان على أفلاطون إذن، تجاوز هذه الأفكار وكان ذلك بتأسيس نظريٌة في الوجود وهي القسمة التي تعتبر أنٌ الوجود الحقيقي ليس الوجود المحسوس المتغيٌر وإنٌما الوجود المعقول الثٌابت. ونظريٌة في المعرفة وتدورفي مجملها حول اعتبار أنٌ المعرفة الحقيقيٌة ليست المعرفة الحسٌيٌة الذاتيٌة والنٌسبيٌة وإنٌما المعرفة المعتمدة على العقل والقادرة على إدراك المعقولات، الأفكار المجرٌدة الثٌابتة والأزليٌة أي المثل. ففيم تكمن هذه المثل؟

إذا نظرنا إلى الأشياء المحسوسة حولنا وجدنا أنٌها تختلف في خواصٌها وصفاتها الحسٌيٌة لكنٌها مع ذلك ليست مختلفة عن بعضها تمام الإختلاف فإذا كان زيد يختلف عن عمر فإنٌهما يشتركان في أنٌ كلاهما إنسان وبالتٌالي فإنٌ "الإنسانيٌة" أي مايكون به الإنسان إنسانا توجد في كليهما على حدٌ السٌواء وهذه الإنسانيٌة هيٌ شيء واحد وثابت وتمنح كلٌ إنسان إنسانيٌته وهي مع ذلك ليست شيئا محسوسا إنٌها ماهيٌة الإنسان أو الإنسان في ذاته الذي لايمكن إدراكه إلاٌ بالعقل وإذا كان كلٌ إنسان، من جهة وجوده المحسوس، فان ومآله الزٌوال فإنٌ الإنسان في ذاته أو "مثال الإنسان" ثابت أزليٌ لا يتغيٌر ولا يندثر. ويمكن على هذه الشٌاكلة أن نعرف أنٌ لكلٌ شيء في العالم المحسوس مثاله في العالم المعقول وبالتٌالي فإنٌ الأشياء الجميلة تشترك كلٌها في الجمال وهي تكتتسب "جماليٌتها" من الجمال في ذاته أي "مثال" الجمال، وكذا الأمر بالنٌسبة للفضيلة والخير والحقٌ...إلخ.

وبناء على نظريٌته في المثل يبني أفلاطون نظريٌته في المعرفة إذ، وباعتبار أنٌ الوجود الحقيقي هو وجود المثل وأنٌ الوجود المحسوس هو وجود مزيٌف أو هو لا وجود مقارنة بوجود المثل، تكون المعرفة الحقيقيٌة هي المعرفة التي تدرك المعقولات وبالتٌالي فإنٌ الأداة المعرفيٌة الوحيدة التي يمكن الإعتماد عليها للوصول إلى العلم(أي المعرفة اليقينيٌة والموضوعيٌة الثٌابتة) هيٌ العقل أمٌا الحواس فلا تصل بنا إلاٌ إلى الوهم والزٌيف إذ لا تتعلٌق إلاٌ بالمحسوسات المتغيٌرة والزٌائلة والتٌجربة بدورها لا تمكٌننا إلاٌ من مجرٌد الظٌنٌ ( الدٌوكسا) أي المعرفة التي لا ترقى إلى المعرفة الحقيقيٌة. وحده إذن العقل هو الذي يرقى إلى هذه المعرفة ووحده الفيلسوف يستطيع التٌوصٌل إلى هذه المعرفة.

إن الشّرط الذي يجب أن يتوفّر كي يكون العلم ممكنا هو حسب أفلاطون الإقرار بوجود المثل، إنّ هذه الأفكار الثّابتة الأزليّة، كما بيّن في محاورة الكراطيل، هيّ الموضوع الثّابت الذي يمكن للإنسان معرفته عوضا عن المحسوس المتغيّر وبما أنّ الأنطولوجيا عنده تفترض أنّ العالم المعقول مفارق للعالم المحسوس وبما أنّ الإنسان يعيش في العالم المحسوس فكيف السّبيل إذن إلى المعرفة والعلم الحقيقيّ؟ إذ لايمكن للإنسان بلوغهما إذا إقتصر وجوده على الوجود في هذا العالم. ولا يمكنه ذلك إلاّ إذا كان قد خالط المثل وعاشرها. لذلك يعتبر أفلاطون أنّ للإنسان حياة سابقة أو أنّ نفسه المجرّدة كانت تعيش في عالم المثل قبل أن "تنزل" إلى العالم المحسوس. في هذه الحياة السّابقة كانت النّفس قادرة على تأمّل المثل ومعرفتها. يجب إذن على الإنسان أن يسعى إلى تذكّر ما عرفه "إنّ المعرفة تذكّر والجهل نسيان".

إنّ هذه النّظريّة في المعرفة تفترض إذن أنتروبولوجيا أي نظريّة حول الإنسان والنّفس بوجه خاصّ. فقبل أن تلتتحق بالجسد كان للنّفس وجود مستقلّ، مفارق ومجرّد ومنزّه عن المحسوس أي عن الجسم. إنّ إلتحاقها بالجسد المادّي هو إنحطاط وسبب في الشّرور (الرّذيلة : إتّباع غرائز الجسد وأهواؤه) وسبب في الأخطاء (الوهم والظّنّ : إتّباع الحواسّ). إنٌ ماهيٌة الإنسان تكمن في النٌفس المجرٌدة وهذه النٌفس كانت تعيش في عالم المثل قبل أن تنزل إلى العالم المحسوس وتلتحق بالجسد. فليس الجسد عندئذ سوى "قبر للنٌفس" وعائق يعوقها على الوصول إلى المعرفة بما يتضمٌنه من حواس مصدر الأوهام ويعوقها على تحقيق الفضيلة بما فيه من غرائز ورغبات تكبٌل النٌفس وتغريها بفعل الشٌرٌ.

ويعتبر أفلاطون أنّ النّفس رغم بساطة جوهرها تحتوي على تراتبيّة فهي نفس غريزيّة ونفس غضبيّة ونفس عاقلة. ومن هذا المنطلق ستتحدّد الأخلاق والفضيلة. فالفاضل هو الإنسان الذي يستطيع أن ينشأ تناغما بين مختلف مستويات النّفس. بحيث يعطي لكلّ منها وظيفته : العقل للتّسيير والمعرفة العاطفة للدّفاع والغاذية للمعاش.

أمٌا فيما يتعلٌق بالأخلاق فيعتبر أفلاطون أنٌ الفضيلة مرتبطة بالمعرفة أو هي تتمثٌل في المعرفة فليس هنالك فرق بين معرفة الخير في ذاته والعمل وفق هذا الخير إذ في الحقيقة ذاك الذي يفعل الشٌرٌ إنٌما يفعله عن جهل. وبما أنّ الإنسان لا يفعل الخير إلاّ بالإعتماد على معرفته وبما أنّ المعرفة لا يمكن أن تتمّ إلاّ بالعقل وحده فإنّ التّأمّل المجرّد الذي يهمل الجسد ويستبعده هو الكفيل ببلوغ الحقيقة وتحقيق الخير معا.
لكنّ الخير والسّعادة ليسا شأنا شخصيّا بقدر ما هما قضيّتان تتعلّقان بالمدينة ككلّ وبالتّالي لا يمكن تحقيق الكمال إلاّ في مدينة محكمة التّنظيم. فتتمثٌل السٌعادة بالنٌسبة للأفلاطون عندئذ في سعادة المدينة ككلٌ والتي تتحقٌق بالإنسجام بين جميع أطرافها وشرائحها، فكما يجب أن يوجد انسجام في الفرد بين النٌفس العاقلة والنٌفس الغضبيٌة والنٌفس الغاذية. فإنٌ المدينة كذلك يجب أن تنقسم إلى حرٌاس يسيٌرون شؤونها العامٌة وجنود يسهرون على الأمن ورعيٌة تقوم بالأعمال الأخرى الضٌروريٌة مثل الفلاحة والصٌناعة....إلخ.
وبناء على نظريٌته في المثل أيضا يحدٌد أفلاطون موقفه من الفنٌ ويعتبر أنٌ الفنٌ، باعتباره محاكاة لما يوجد في الطٌبيعة إبتعاد عن الحقيقة، إذ هو محاكاة للعالم المحسوس الذي هو بدوره محاكاة للعالم المعقول وبالتٌالي ف"الفنٌ محاكاة للمحاكاة".

لقد كان لأفلاطون تأثير كبير على تاريخ الفلسفة إذ أنٌ التٌيار المثالي بقي دائما يستلهم منه أسسه. وتعني المثاليٌة ذاك التٌوجٌه في الفلسفة الذي يعتبر أنٌ الفكر أو الأفكار هيٌ الوجود الأصلي والوجود المبدئي الذي يسبق كلٌ وجود آخر بعكس المادٌيٌة التي تقول بأسبقيٌة المادٌة على الفكر وتنكر وجود الفكر وجودا قائما بذاته وإنٌما هو دائما إفراز من إفرازات المادٌة.

أرسطو

أحد تلاميذ أفلاطون من بين تلاميذ آخرين أمثال كزينوقراط وسيرسيب (الذي ترأّس الأكاديميّة بعد موت أفلاطون). ولد أرسطو سنة
لم تصلنا مؤلّفات أرسطو التي نشرها بنفسه لكنّ لبّ فلسفته قد وصلنا من خلال ما دوّنه من ملاحظات وفصول يبدو أنّه كتبها لغاية الإستعانة بها في تعليمه الشّفوي. لكنّ هذه الفصول تمثّل في حدّ ذاتها أثرا فلسفيّا هامّا تمّ نشره لأوّل مرّة من قبل أندرونيكوس ثلاثة قرون بعد موت أرسطو.

إنّ أرسطو هو أوّلا تلميذ أفلاطون ويبدو أنّ فلسفته قد انبنت أوّلا على دحض أفلاطون بالذّات (وقد كتب في كتاب الأخلاق : "إنّ أفلاطون صديق والحقّ صديق لكنّ الحقّ أصدق" مشيرا إلى ضرورة تجاوز أفلاطون إذا كانت أفكاره مجانبة للصّواب) وخاصّة دحض نظريّة المثل. وبالفعل فقد سعى أرسطو في كتاب الميتافيزيقا إلى أن يبيّن أنّ نظريّة المثل هي واحد من إثنين إمّا أنّها متناقضة وخاطئة أو أنّنا لا حاجة لنا بها فكيف ذلك؟

يركّز أرسطو على أهمّ مشكل تعترضه نظريّة المثل وهو المشكل الذي كان أفلاطون قد حاول التّصدّي إليه في محاورة بارمينيدس ويتمثّل في قضيّة المشاركة أي علاقة المثل باشياء المحسوسة. فكيف يمكن لمثال الجمال مثلا أن يكون مشابها للأشياء المحسوسة الجميلة ومختلف عنها معا؟
وإذا كانت المثل مفارقة للعالم المحسوس مختلفة عنه فإنّ معرفتنا إيّاها لا تعني معرفتنا لعالمنا الذي نعيش فيه. فحتّى وإن كانت نظريّة المثل صحيحة فهي لا تأدّي إلى الغاية التي يسعى إليها الفيلسوف أو الإنسان عامّة وهي أن يعرف عالمه ويحدّد منزلته فيه.

لقد كان على الفلسفة الأرسطيّة إذن أن تحلّ المعضلة التّالية : كيف يمكن أن نجعل من العالم معقولا دون أن نقع في المفارقة الأفلاطونيّة؟ وكانت مهمّتها بشكل عامّ هيّ تحييث المعقول (أي جعله ملتصقا بالعالم المحسوس كامنا فيه) حتّى تكون المعرفة والعلم معرفة وعلما بالعالم الذي يعيشه الإنسان.

وبشكل ما يمكن أن نعتبر أنّ أرسطو قد عاد إلى الفلاسفة قبل أفلاطون كي يستوحي منهم مبادئ فلسفته إذ إعتبر هو أنّ ثلاثا من الأربع مبادئ أو العلل التي يمكن أن تفسّر العالم أو الظّواهر قد قال بها بعد الأقدمون.

ولنأخذ مثالا : السّرير كشيء موجود في العالم، يمكن أن نجد له أربع علل تفسّر وجوده:

1. العلّة الفاعلة (وهي عامّة تفسّر الحركة) وتتمثّل في الصّانع أو النّجّار.

2. العلّة المادّيّة (وتفسّر تكوين الشّيء وشكله) وتتمثّل في الخشب.

3. العلّة الصّوريّة (وتفسّر ماهيّة الشّيء: جنسه ونوعه) وتتمثّل في مفهوم السّرير.

4. العلّة الغائيّة ويعتبر أرسطو أنّه هو الذي ابتدعها (وتفسّر ما من أجله وجد الشّيء) وتتمثّل في أن يكون أثاثا ينام الإنسان عليه.

إنّ القول بهذه العلل الأربع هو الكفيل في رأي أرسطو بتحقيق فهم وتعقّل للعالم. ولئن إشترك أرسطو مع أفلاطون في موقفه من السّفسطائيّين، إذ أنّ كلاهما يسعى إلى تجاوز مغالطاتهم وقولهم بنسبيّة المعرفة والتّشريع لتزييف الحقائق، فإنّه يختلف عنه في إعتباره أنّ الحقائق الثّابتة والقابلة للتّعقّل توجد في عالم مفارق للعالم المحسوس وعوض أن يقول مثلما قال أفلاطون أن لكلّ شيء محسوس مثاله في العالم المعقول ذهب أرسطو إلى اعتبار أنّ لكلّ شيء محسوس مادّة وصورة. أو أنّ كلّ شيء محسوس يقوم بذاته إنّما هو جوهر مؤلّف من مادّة وصورة: مادّة تعطيه وجوده الواقعي وصورة نعطيه ماهيّته.

ومن هنا الإختلاف في نظريّة المعرفة. فإذا كان الفلسفة الأفلاطونيّة تفترض أنّ النّفس كانت لها معرفة بالمثل قبل حلولها في الجسد فإنّ أرسطو ليس في حلجة لمثل هذه الفرضيّة. فالمعقةلات موجودة في العالم الذي يعيش فيه الإنسان وليس عليه إلاّ أن ينتزعها بالتّجريد من الأشياء التي حوله. إنّ تعقّل العال يتمّ حسب أرسطو إنطلاقا من إدراكه بالحواسّ أولا ثمّ تجريد المحسوس من عوالقه الجزئيّة للإرتقاء إلى المعرفة العقليّة، فالمعرفة تنتقل من الحواسّ إلى المخيّلة إلى العقل إي إدرك ماهيّة الشّيء المجرّد والمعقول. "فما من فكرة في العقل إلاّ وأصلها في الحسّ". ويعتبر أرسطو أنّ العقل الإنساني يوجد في الأوّل (كامن) بالقوّة ثمّ ينتقل من القوّة إلى الفعل كما أنّ المعقولات توجد في الأشياء بالقوّة ثمّ تنتقل إلى نعقولات في العقل موجودة فيه بالفعل. لكنّ انتقال العقل من القوّة إلى الفعل وانتقال المعقولات أيضا من القوّة إلى الفعل يفترض وجود شيء هو دائما بالفعل يسبّب روج كليهما وهذا الشّيء هو العقل الفعّال الذي هو دائما بالفعل. (ولهذه الفكرة الأخيرة أهمّيّة خاصّة إذ سنجد لها صدى في أفكار الفلاسفة فيما بعد.)
ولا يختلف أرسطو مع أفلاطون في وجود المعقولات وكيفيّة إدراكها فقط بل وفي طبيعتها ذاتها. فإذا كان نموذج العلم عند أفلاطون هوّ الرّياضيّات وإذا كان قد أعطى النثل في محاوراته الأخيرة (بارمينيدس) طبيعة رياضيّة فإنّ نموذج العلم عند أرسطو هو المنطق (وهو الذي يرجع إليه الفضل في تأسيسه بوضعه لكتاب الأرغانون) وإدراك ماهيّة الأشياء تكون في نهاية الأمر بردّها إلى جنسها ونوعها والجنس هو ما يشترك فيه والنّوع هو ما يتميّز به. كأن نقول "الإنسان حيوان ناطق".

وبطبيعة الحال كان لهذا التّصوّر لطبيعة المعرفة وطبيعة الوجود تأثير على تصوّر أرسطو لطبيعة الإنسان فالنّفس عنده هيّ أوّلا: "الدّافع الدّخلي الأوّل في الكائن العضوي" وهي لا تحلّ في الجسم وتأتيه من خارج وإنّما هيّ صورته أي أنّها تكوّن معه جوهرا. فالإنسان إذن هو مثل كلّ الموجودات في هذا العالم الأرضي مؤلّف من مادّة هيّ الجسد وصورة هيّ النّفس. على أنّ النّفس ليست هيّ ما يتميّز به الإنسان إذ حسب أرسطو لكلّ كائن حيّ أو عضويّ نفس. فلكي يكون الكائن الحيّ قادرا على النّموّ يجب أن تكون له نفس نامية وكي يكون قادرا على الغذاء يجب أن تكون له نفس غاذية وهذين النّفسين توجدان ادى كلّ كائن حيّ نبات: وحيوان وإنسان لكنّ للحيوان والإنسان إضافة إليهما نفس حاسّة، أي تلك التي تمكّن من الإدراك الحسّي المباشر والبسيط. والإنسان وحده هو الذي لديه النّفس العاقلة القادرة على التّجريد وإدراك المعقولات وماهيّة الأشياء وحقيقتها.
وقد إهتمّ أرسطو في المجال الأخلاقي بالبحث في أفضل طريقة في الحياة أو سبيل تحقيق السّعادة. وقد إعتبر أوّلا أنّ السّعادة هيّ غاية الغايات أو أنّها ما يطلب لذاته دائما وكلّ الأشياء الأخرى إنّما تطلب كوسيلة لتحقيقها. وقد إعتبر أنّ السّعادة ليست حال ووضع بقدر ما هيّ ممارسة وفعل ويركّز أرسطو على الإعتدال باعتباره أحد شروط تحقيق الحياة السّعيدة. وهو كيونانيّ ممجّد للحريّة وباعتبارأنّه رأى أنّ "الحرّ هو ن تكون غايته ذاته ولا يوجد من أجل غيره" إعتبر أيضا أنّ السّعادة هيّ أن يوجد الإنسان من أجل ذاته أي أن يحقّق ماهو عليه في ذاته وذات الإنسان تكمن في العقل فأحسن حياة عندئذ هي حياة الفكر، ولو إجتمع للإنسان قدر من الرّخاء وقدر من العلم وعاش حياة رغيدة مع حياة التّفكير والتّأمّل لحقّق كمالا شبيها بكمال الآلهة.

ويرى أرسطو أنّه إذا كانت الأخلاق هيّ علم السّعادة الفرديّة فإنّ السّياسة هيّ علم السّعادة الجماعيّة فوظيفة الدّولة هيّ تحقيق السّعادة لأفرادها. والدّولة هيّ نتاج طبيعي إذ "الإنسان حيوان مدنيّ بالطّبع" وأسبقيّة المدينة على الفرد هيّ أسبقيّة طبيعيّة إذ لا يمكن للفرد أن يوجد وأن يعيش إلاّ داخل المجموعة. وهي أسبقيّة منطقيّة أيضا إذ لا يمكن أن نتصوّر الفرد إلاّ كعضو من المجموعة مثلما نتصوّر اليد عضوا من البدن. وبشكل عامّ إعتبر أرسطو أنّ نظام الحكم الأمثل هو ذاك الذي يخدم مصلحة الكلّ ولا يخدم مصلحة ماسك السّلطة. وهو يعتبر أنّ الحكم الفرديّ يمكن أن يكون صالحا لكنّ حكم الأغلبيّة أضمن منه لأنّه أقلّ عرضة للحياد عن تحقيق الدّولة الأصليّة وهي تحقيق سعادة الكلّ.

أبيقور

ولد أبيقور حوالي سنة 341 ق م وتوفٌي حوالي 270 ق م (أي أنٌه يأتي بعد سقراط وأفلاطون وأرسطو في التٌرتيب الزٌمني) وهو فيلسوف يوناني أسٌس المدرسة الأبيقوريٌة. هاجر إلى أثينا حوالي سنة 311 ق م واستقرٌ فيها ودرٌس الفلسفة. لم يبقى من الكتب التي ألٌفها سوى شذرات من الحكم وثلاث رسائل.

أهمٌ ما وصلنا من فلسفته يدور حول المسألة الخلقيٌة. وأطروحته الأساسيٌة تتمثٌل في أنٌ اللذٌة هيٌ الخير الأسمى وهي "غاية الحياة السٌعيدة". ويتأسٌس تصوٌر أبيقور للسٌعادة على تصوٌره للإنسان فباعتبار أنٌ الإنسان جسد و نفس فإنٌ سعادته تكمن في تحقيق الخير الملائم لطبيعة كليهما. والخير الملائم لطبيعة الجسد هو اللٌذٌة أماٌ الخير الملائم لطبيعة النٌفس فهي الطٌمأنينة . وبالتٌالي سيكون على الفلسفة الأبيقوريٌة أن تجيب عن السٌؤالين التٌاليين : كيف السٌبيل إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من اللٌذٌة؟ وكيف السٌبيل إلى تحقيق الطٌمأنينة؟

أمٌا عن السٌؤال الأوٌل فيجيب أبيقور أنٌ ذلك يتحقٌق بالإعتدال. إذ خلافا لما يعتقده البعض، ليست الأبيقوريٌة دعوة إلى التٌمتٌع باللٌذٌة في كلٌ الحالات ودون أيٌ شروط، ذلك أنٌ اللٌذٌة التي تحصل بإشباع الرٌغبات هيٌ لذٌة يخالطها الكثير من الألم والإفراط في طلبها لا يمكن أن يؤدٌي إلاٌ إلى التٌعاسة والهلاك. وفي الحقيقة يقدٌم أبيقور معنى جديدا للٌذٌة إذ اللٌذٌة عنده لا تكمن في إشباع الرٌغبة وإنٌما في غياب الرٌغبة وهي عندئذ غياب للألم الذي يصحبها.

أمٌ عن السٌؤال الثٌاني فيجيب أبيقور إنٌ ذلك يتحقٌق بالتٌخلٌص ممٌا يسبٌب اضطراب النٌفس والنٌفس تضطرب من الخوف من أمرين أساسيين : الآلهة والموت. ولا يستطيع الإنسان أن يتخلٌص من هذا الخوف إلاٌ بالوعي بلا مشروعيٌته في كلتا الحالتين. فبالنٌسبة للموت ليس هنالك ما يدعو إلى الخوف منه إذ الموت في الحقيقة أمر لا يهمٌ الأحياء. إذ بناء على أنٌ الموت هو نهاية فعلية للإنسان فلا يمكن للإنسان أن يواجهه "فعندما أوجد لايوجد الموت وعندما يكون الموت لن أكون موجودا" فلم الخوف إذا؟ أمٌا الآلهة فأبيقور لاينفي وجودها لكنٌه يعتبر أنٌ الكائن الكامل لا يهتمٌ إلاٌ بنفسه وبالتٌالي فالإلاه لاتهمٌه شؤون البشر ومن ثمٌة فليس هنالك ما يدعونا إلى الخوف من عقابه.

ملاحظة: تم تعريب هذا النص عن قاموس ناثان الفلسفي، تأليف جيرار دوروزوي وأندريه روسيل.

تعريب: أكرم أنطاكي.

مراجعة: ديمتري أفييرينوس.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى