الثلاثاء ٢٦ شباط (فبراير) ٢٠٠٨

الوضع الثقافي لعرب فلسطين المحتلة

نص قديم للأديب الراحل غسان كنفاني

يقول فوزي الأسمر، وهو كاتب عربي من فلسطين المحتلة:

"بينما كنت جالساً أتناول وجبة غدائي في أحد المطاعم بتل أبيب، استمعت بالصدفة الى مكالمة تلفونية، كان المتكلم شاباً عربياً من إحدى قرى المثل، علمت فيما بعد أنها أم الفحم".

  "آلو، فاعد هبوعيل (1)؟ أعطني من فضلك السيد قصاب من الدائرة العربية، آلو (كل المحادثة بالعبرية) سيد قصاب؟ مرحباً، أحمد يتكلم، هل تسلمت رسالتي؟ أنني متأسف جداً. لقد كتبتها بالعبرية وطلبت من الأخ قاسم ترجمتها للعربية.، متأسف، لقد أنهيت مدرسة عبرية ثانوية ولا أعرف الكتابة العربية لذا طلبت منه ترجمتها".

ويمضي الكاتب قائلاً:

"مكالمة خاطفة تحمل في طياتها الكثير، وأنا هنا لا أضع مسؤولية عدم تعلم العربي، لغة أم أحمد على عاتق أحمد وحده بل على عاتق أحمد نفسه، ألا يخجل من نفسه؟ إننا لا ننكر أن هنالك محاولة من السلطات لبلبلة الجيل العربي الناهض، ولكن أين المسؤولية التي تقع على عاتقه هو؟ إنني أتوجه الى أحمد وهذا وكل أحمد آخر في نفس الحالة أن يسارعوا في تعلم لغة أمهم . . . وإلا . . . " (2).

ذلك المقطع يعطي لمحة سريعة، ولكنها جارحة حتى العظام، عن نوع فذ من النضال الثقافي الذي يخوضه عرب الأرض المحتلة (3) منذ عام 1948، للدفاع عن لغتهم وثقافتهم وتراثهم، وفي الواقع فإن المعركة هذه تمثل واحدة من أبشع وسائل الاستعمار الاسكاني في سحق الحركة الوطنية ومحاولة اجتثاثها من جذورها. وكي ندرك فعلاً ما هي قيمة أدب المقاومة الفلسطيني في فلسطين المحتلة، من خلال النتاج الذي أعطانا في العشرين سنة الماضية، لا بد من إدراك حجم المصاعب التي تشكل التحديات اليومية في الحياة الثقافية العربية في الأرض المحتلة.

ثمة إعلان فاضح، يشكل اعترافاً مثيراً للدهشة، في هذا النطاق، على لسان إسرائيلي مثقف، خلال مناقشة مفتوحة مسجلة. يقول:

"أعتقد أن الكيان القومي هو فوق كل اعتبار، حتى فوق الاعتبارات الخلقية. إن وجود أقلية عربية في إسرائيل يشكل أكبر خطر عليها، إ ذا لم يكن الآن وفي هذا المستقبل ففي المستقبل البعيد، وحتى نمنع وقوع مثل هذه علينا أن نعمل كل شيء بشكل لا يثير الاحتجاجات العالمية، علينا أن نجذ لذلك غطاء ملائماً وعبارات جميلة، ولكن إذا لم يكن بد من ذلك، علينا أن نتجاهل الرأي العام.

علينا أن نقصر خطواتهم، وأن نأخذ أراضيهم، كل عربي ينهي المدرسة الثانوية أو الجامعة لا نعطيه عملاً وليبحث عن عمل خلال ثلاث أو أربع أو خمس سنوات حتى ييأس ويفهم أنه لا مكان له في هذه البلاد وليبحث عن بلاد أخرى، علينا أن نقنع العرب بعدم سماع الراديو العربي، علينا أن نقطعهم عن الثقافة العربية ونضعهم تحت تأثير الثقافة اليهودية.

  وماذا سيحدث إذا ما قرروا الاستمرار بسماع الراديو المصري؟ وإذا لم يفهموا الإشارة ويغادروا البلاد، ما العمل؟

  سيفهمون، وسيهاجرون.

  وإذا رفضوا التخلي عن شخصيتهم الثقافية القومية أو رفضوا الهجرة؟
  لا، سيفهمون!
  كن جريئاً وقلها بصراحة: علينا أن نقيم أو يشفتز!"(4)

وليس في هذا الجدل تصور نطري، فهو في الواقع تعبير عن حقيقة تمارس ممارسة يومية، لقد بات من المعروف "أن المستوى التعليمي في المدارس العربية أضعف منه بكثير في المدارس اليهودية، وكذلك فصل المعلمين الأكفاء وتعيين معلمين أنهوا المدارس الابتدائية فقط مكانهم" (5).

إن سياسة التجهيل المتعمد هي سمة بارزة من سمات الاضطهاد الثقافي الصهيوني لعرب الأرض المحتلة، وفي هذا النطاق تبرز مسألة التعليم وانخفاض مستواه في الوسط العربي كشيء أساسي.

يعترف ز. آران في مقال له بكتاب "إسرائيل اليوم" (6): إن "53 بالمئة من المعلمين العرب في إسرائيل غير مؤهلين" ويقول م. أساف في الكتاب نفسه (7): إن "عدم توفر أساتذة وكتب وتخطيط بالنسبة للمدارس الثانوية العربية في إسرائيل يؤدي الى إخفاق كبير في امتحانات الثانوية (المتركيوليشن)"، وإن المجتمع اليهودي لم يستطع "امتصاص المتخرجين العرب من المدارس الثانوية، ولا طلاب الجامعات العرب"، وأنه يوجد "مشكلة أكبر بالنسبة للعرب الذين يضطرون لترك دراستهم الثانوية".

ويعترف أساف بأن نسبة تخرج العرب من الجامعات في إسرائيل نسبة منخفضة، إلا أنه لا يورد أرقاماً، ومع ذلك فبوسعنا أن نتصور هذه النسبة حين يصل الى اعتراف أخطر في قوله أن مجموع الطلاب العرب في الجامعات في إسرائيل، عام 1967، كان 200 طالب فقط (مقابل 19 ألف إسرائيلي).

وعلى أي حال لدينا إحصاء مروّع آخر: "فمن الجيل العربي الذي بدأ التعليم في الصف الأول سنة 1957، ترك المدرسة 45 بالمائة منهم في سنة 1964، أي قبل أن ينهوا الصف الثامن" (8).

فإذا كان هذا هو الحال بالنسبة للمدارس الابتدائية فإن الوضع لا بد أن يكون أقسى بكثير في المدارس الثانوية والجامعية، فأساف يقول أن 10 بالمائة فقط من العرب الذين تقدموا لامتحانات الشهادة الثانوية عام 1964 نجحوا، أما في عام 1963 فقد كان الناجحون 12 بالمائة (9).

ومن الواضح أن هذا الرقم خادع، ففي حين تقول مصادر أخرى، إن هذه النسبة لم تكن أبداً أكثر من 4 أو 5 بالمئة، سنرى إن ز. آران يقول أن نسبة نجاح المرشحين لامتحانات الشهادة الثانوية بين العرب في إسرائيل كانت عام 1963 ما نسبته 40.2 بالمائة (10).

إن الذي يثبت خطورة هذه المسألة هو أن أساف، وآران، يوردان رقمين متباينين جداً عن نسبة نجاح العرب في الثانوية في إسرائيل، في سنة واحدة، في كتاب واحد!
سنجد، بالإضافة لذلك كله، وصفاً موجزاً، ولكن قاطعاً، للأوضاع التعليمية لعرب فلسطين المحتلة، يعطي فكرة شبه كاملة عن حقيقة هذه الأوضاع.

تقول منظمة "الأرض" في إسرائيل، في مذكرة بعثت بها الى يوثانت في مطلع 1964 (11).

"إن نسبة التعليم المرتفعة في ظل الانتداب انخفضت الى الحضيض خلال الست عشرة سنة الماضية، إن نسبة النجاح في شهادة المتركيوليشن (باغروت) في المدارس العربية الخاضعة لإشراف وزارة التربية هي فقط 4 و 5 بالمائة.

إن هذا الانخفاض يعود الى الأسباب التالية:

1- التدخل المؤذي والوقح في شؤون التعليم من قبل رجال الحكم العسكري والمباحث (شن بت)، ولهاتين الفئتين، الحكام العسكريين ورجال المباحث، الكلمة الأولى في اختيار "المدرسين" دون أدنى نظر لكفاءاتهم العلمية، إنهم يختارون بناء على مقدار ما يقدمون من خدمات للحكم العسكري وللمباحث، ويفترض فيهم أن يكونوا مملئين، متواطئين، وأبواق دعاية للحزب الحاكم.

2- عدم وجود مدارس كافية، فبالرغم من الازدياد المطرد في عدد التلاميذ فإن عدد المدارس لا زال محدوداً جداً، إن وزارة التربية تتجاهل عن عمد تنفيذ قانون التعليم الإجباري بالنسبة للأقلية العربية.

3- النقص الشديد في الكتب المطلوبة والمختبرات والتجهيزات والخرائط والمكتبات.
4- هنالك بعض الموظفين المسؤولين الذين يستغلون وظائفهم فيقومون بنشر بعض الكتب المتدنية، هادفين الربح من ناحية، وتسميم عقلية الجيل الجديد من ناحية أخرى.

هناك خمس مدارس عربية ثانوية في إسرائيل، واحدة منها فقط (في الناصرة) تدرس العلوم . . . إن سياسة الحكومة السلبية بالنسبة للثقافة العربية ترمي الى محو أي ارتباطات بين الجيل الجديد وبين ماضيهم المجيد، لتخمد كل مشاعرهم القومية وآمالهم في مستقبل مشرق.

وفي الحقيقة، فإنها تقدم لهم بديلين أحلاهما مر: إما الهجرة، وإما الانصهار!".

إن هذا المقطع في مذكرة "جماعة الأرض"، المتعلق بأوضاع الثقافة العربية، لا يلخص فقط الوسائل الفاشية التي تتبعها إسرائيل لسحق الوعي الثقافي العربي، ولكنها تلقي ضوءاً، من ناحية مقابلة، على الصمود العربي، وعلى النضال في سبيل تفويت هذه المؤامرة.

لقد كانت هذه المسألة محل اهتمام عربي متواصل ومستمر في فلسطين المحتلة، وهذا الإصرار على رفض خطة التجهيل الاسرائيلية هو الذي يدفع م. أساف ليكتب (12):

"فيما يتعرض الجيل العربي الجديد الى تأثيرات مناوئة لإسرائيل، فإن الجيل الأكبر متمسك بالماضي، والطرفان ما زالا على صلة يومية بالدول العربية واللاجئين من خلال الراديو والتلفزيون".

ومع ذلك تمضي إسرائيل عن عمد في حرمان العرب من حق العلم. ومن المعروف أيضاً أن عدة كليات علمية في الجامعات الإسرائيلية محرمة نهائياً على الطلاب العرب، وهذا ما يدفع محمد دسوقي للتأكيد بأن "التعليم العربي في إسرائيل لا يمكن أن ننتظر منه أية فائدة"، ويلاحظ أن الكتب ووسائل التعليم والمعلمين الأكفياء غير متوفرين، وأنه يوجد تمييز بين الطلاب العرب واليهود في التعليم العالي (13).

وبعد الاحتلال الاسرائيلي للأراضي العربية في حزيران 1967، لاحظ أحد المربين الفلسطينيين في الضفة الغربية قائلاً (14):

"إنني أسمح لنفسي بعد خدمة ربع قرن في التعليم أن أقول أن مستوى المدارسة العربية في إسرائيل منخفض جداً، وإن المادة التي يلقنها الأساتذة للطلاب العرب مادة تافهة. لقد طلبت من أحد أقاربي أن يحضر لنا بعض الكتب التي تدرس في المدارس العربية بإسرائيل، واطلعت على بعض الدوسيهات، وعليه بنيت رأيي، إن ما يدرس للطلاب العرب ما هو إلا نوع من التجهيل (خصوصاً الأدب العربي والتاريخ العربي) وسوف لن نقبل هذه البرامج عندنا".

وفي نفس المصدر يؤكد أحد المعلمين في القدس العربية الشيء ذاته في حديث آخر: "إذا كانت إسرائيل ترى من واجبها تعليم الطلاب التاريخ الصهيوني فنحن غير مضطرين لذلك. . . لقد اطلعت على قسم من البرامج وأعتقد أنني سأكون خائناً لقوميتي وشعبي إذا قمت بتدريس هذه البرامج".

وهذه الحقيقة، أي خطة التجهيل المتعمد الذي يهدف الى إرساء استعمار من نوع اقتلاعي، تستدرج بدورها اجراءات قمعية إسرائيلية من نوع آخر، تتبدى في محاربة المعلمين العرب وتشريدهم ومنعهم من العمل ووضع سوط التهديد على رقابهم.

ففي آذار 1967، ألقى إسرائيلي يدعى غديش، يشغل منصب المسؤول عن التعليم العربي في إسرائيل، محاضرة في نادي المعلمين في حيفا، ووجه الى "المعلمين القدامى" الذين دعوا للاستماع اليه تهديداً مباشراً: "على المعلمين القدامى ألا يعتقدوا بأنهم ثابتون كالمسمار الذي لا طبعة له. أنا سأعمل للمسمار طبعة، وإذا لم أقدر فسأحفر حوله وأقلعه" (15).

"فالمعلمون القدامى" يشكلون في الواقع جسراً شديد الأهمية في الحياة الثقافية العربية في فلسطين المحتلة، فهم ضمانة استمرار ذلك التيار من الوعي العربي والاطلاع على مناهج التعليم قبل الاحتلال الإسرائيلي، ومن هذه الناحية فهم يشكلون بالنسبة لإسرائيل مشكلة يشبهها غديش بأنها مشكلة المسمار الذي لا طبعة له. بحيث يستحيل استلاله وقلعه من مكانه!

ولا تكتفي السلطات الإسرائيلية بالطبع بهذا الأسلوب "السلبي" في محاولتها لنسف الجذور الثقافية العربية، ولكنها تلجأ الى أسلوب "إيجابي" مواكب لخطتها، يتبدى في محاولات حقن المجتمع العربي في فلسطين المحتلة بسموم الثقافة الهجينة، والتفاهة التي تهدف الى إفقاد ثقة العربي بقيمة ثقافته وبآفاقها وجذورها.

ففي كانون الثاني 1961 وزع منشور عربي في إسرائيل، أصدره الشيوعيون العرب، يتهم "شركة الكتاب العربي" التي يشرف عليها حزب العمال الإسرائيلي الموحد (المابام) بأنها "تنزل الى الأسواق، دون حساب للتكاليف، مجلات وكتباً باللغة العربية لا هدف لها سوى إغراق شبابنا في مستنقعات العدمية القومية والعدمية الجنسية" (16).

وفي الشهر ذاته ألقى موشيه بيمنته الإسرائيلي، محاضرة في الجامعة العبرية في القدس بعنوان "اللغة والأسلوب في الأدب العربي الحديث" دعا فيها بإصرار الى استعمال اللهجة العامية في الكتابة الأدبية ونبذ العربية الفصحى ونسيانها (18). ولم تكن هذه الدعوة إلا تكملة لمخطط مقصود ومدروس. فجمال قعوار، وهو شاعر وكاتب من فلسطين المحتلة، يكشف هذا في قوله: "كلما حاولت السلطات أن تستخلص أدباً من مأجوريها كانت تصطدم بالابتعاد من قبل الأوساط العربية، لأن مضمونه بعيد عن أية آمال لأبناء الشعب العربي هنا حيث يبث الروح العدمية بين الجماهير العربية ويكبت الروح التقدمية العربية" (18).

ومثل هذا الصدام الصامت، ولكن المروّع، لا يمكن له أن يقف هنا، وهذا هو التفسير الوحيد لعمليات القمع والاعتقال والإقامة الجبرية، وأحياناً القتل، التي يتعرض لها الجيل الشاب المثقف في فلسطين المحتلة.

ففي 27 كانون الثاني 1967 قتل جنود إسرائيليون الشاب العربي محمد خليل الزعبي (28 سنة) من قرية سولم قضاء الناصرة في فلسطين المحتلة، "كان المذكور قد أنهى دراسته الثانوية منذ حوال عشرة سنوات قضاها في البحث عن عمل، ولكنه لم يتوفق الى ذلك . . . كما هي الحالة عند معظم الخريجين العرب" (19).

وقد قتل الشاب الزعبي من قبل دورية إسرائيلية أثناء محاولته قطع الحدود الى غزة، و"لم ينشر أي بيان رسمي عن حادث القتل المذكور" (20).

تقول عريضة "القوة الثالثة" التي قدمها الى المحكمة م. شتين، رئيس الحركة، (وكما هو متوقع قوبلت بالإهمال، وحفظت القضية):

"وكما يعرف جنابكم (الكلام موجه لهيئة المحكمة) فإنه يتبع ضد عرب هذه البلاد أساليب التمييز المختلفة، وأكثرهم شعوراً بذلك هم المثقفون لأن كل المكاتب الحكومية والعامة مغلقة في وجوههم . . . لذلك لا يستغرب أن يحاول الشاب العربي الذي افتقد كل أمل في الحصول على حياة ملائمة دخول أي بلد عربي ولو اضطر في ذلك الى مخالفة قوانين الدولة وقوانين الدول العربية على السواء" (21).

ومن الواضح أن عمليات قتل من هذا النوع تتكرر بشكل أو بآخر، ويعلن عنها تحت هذا العنوان أو ذاك، ولكن نظرة خاطفة على الأنباء العادية لن يكون من شأنها إلا أن تثير المزيد من الشك، وما زال القراء العرب يذكرون النبأ الذي روى قصة مقتل طالب عربي شاب "بعد أن قفز من القطار أثناء إجازته الجامعية قرب الحدود الأردنية فسقط تحت العجلات وقتل!" (22).

ولكن عمليات البطش والإرهاب لا تقتصر على ذلك، وهي ليست من ناحية أخرى في حاجة الى إثبات، ويستطيع القارئ للحصف الإسرائيلية أن يجد كل ما يريده من البراهين مختبئاً هنا وهناك.

فـ "عندما استيقظ الطالب الجامعي يوسف عزيزي (21 سنة) صباحاً ليدرس لامتحاناته، وجد رسالة تهديد تنتظره وهي مرسلة من منظمة سرية لقبها أعضاؤها بمنظمة ش.ش. ويوسف، ابن قرية كفركنا، يسكن في بيروت الطلاب في قرية الجامعة العبرية في القدس، وقد طلبت الرسالة منه أن يكتب اسمه باللغة العبرية الى جانب اللغة العربية على الوريقة المعلقة على باب غرفته وإلا . .

"ووصف أعضاء المنظمة المذكورة أنفسهم بأنهم ذوو أياد طويلة ووحشية وقد أعطي يوسف مهلة ليوم واحد لتلبية أوامر المنظمة وإلا . ." (23).

وقد يكون هذا النبأ عادياً لو لم نتابع من خلاله كيف لقيت شكوى يوسف المذكور، الى إدارة الجامعة والى مركز الشرطة، إهمالاً لا نظير له، اقترن بالمماطلة والكذب، ووعده قائد المباحث بأن يتابع المشكلة ولكنه أعطاه رقم هاتف وهمياً، وكان مدير السكن الإسرائيلي قد هدده بالطرد إذا شكا للشرطة. .

والنهاية التي تتوج هذه القصة وتعطيها معناها هي أن يوسف اضطر بالفعل لترك غرفته بالجامعة، رغم كل الشكاوى التي قدمها.

إنه من السهل الاستنتاج بأن طالباً جامعياً ليس مضطراً لترك دراسته لو لم يكن يعرف بأن "تجارب سابقة" أثبتت خطورة مثل هذه الحالة وجديتها.

إن الحرب النفسية والاقتصادية والسياسية والبدنية التي تشنها السلطات الإسرائيلية على الثقافة العربية والمثقف العربي كان لها الأثر الأكبر في بلورة الانتاج الأدب العربي في فلسطين المحتلة على الصورة التي سنراها، ومع ذلك اللجوء غالباً الى الرمز، ولم يحدث هذا اللجوء إلا لأن تفسيره "موجود في أكثر من سجن واحد، وفي فصل أكثر من معلم عربي واحد" (24).

وقد وصل هذا القمع في أبشع صوره وأكثرها اتساعاً وقسوة، في حزيران من 1967، فقد تلقى مئات من المثقفين العرب أوامر تحديد الإقامة (25) بناء على المادة (109) من قانون الطوارئ الإسرائيلي والمعمول به بالنسبة للعرب منذ 1948 الى الآن.

ولأن المادة (109) المذكورة تشكل قضية يومية في حياة العرب في الأرض المحتلة، فإنه من الجدير تسجيل نصل زيادة في إيضاح الصورة:

"المادة (109):

1- يحق للآمر العسكري أن يصدر بالنسبة لأي شخص أمراً بخصوص جميع أو بعض الغايات التالية:

أ‌- لكي يؤمن، ما عدا في الحالات المبينة بالأمر أو من قبل سلطة أو شخص حسب ما هو مبين بالأمر، إن ذلك الشخص لن يسمح له أن يكون بأية منطقة في إسرائيل، كما هو مبين.

ب‌- أن يفرض عليه الإبلاغ عن تحركاته بالطريقة وفي الأوقات وللسلطة أو للشخص كما هو مبين في الأمر.

ج‌- أن يمنع أو يحدد ترخيص أو استعمال أية أداة من قبل أي شخص كما هو مبين.
د‌- أن يفرض عليه أية تحديدات كما هو مبين في الأمر بالنسبة لشغله أو عمله أو بالنسبة لارتباطاته أو اتصاله مع أشخاص آخرين وبالنسبة لأفعاله بما يخص نشر الأخبار أو الدعوة لآرائه".

مما لا شك فيه أن قانوناً مثل هذا لا يمكن أن يمارس في أعتى دول العالم عنصرية وفاشستية، ومع ذلك فإن قراءة أخرى له تظل ضرورية، فهدفه ليس الحفاظ على أمن مزعوم بقدر ما هو محاولة لإلغاء الإنسان.

إن هذه المادة جزء أساسي في حياة عرب الأراضي المحتلة، وخصوصاً بالنسبة للمثقفين، ويندر أن تسمع عن أديب أو شاعر أو كاتب أو كاتب عربي في إسرائيل لم يتلق مثل هذا الأمر بين الفينة والأخرى.

وفي الوقت الذي كان عشرات من المثقفين العرب في إسرائيل يتلقون هذه الأوامر في حزيران الماضي (بالإضافة الى مئات من العرب الوطنيين البارزين) كانت دوريات من الشرطة الإسرائيلية تجمع عشرات من الأدباء والشعراء العرب في فلسطين المحتلة، وتودعهم السجون.

ومن بين أولئك الذين سيقوا الى السجن في مطلع حزيران 1967 السادة: منصور كردوش، وصالح برانسي (26). وفخري جدي، والشاعر حبيب قهوجي (27)، والشعر سميح القاسم، والشاعر محمود درويش، والشاع سالم جبران، والشاعر توفيق زياد، والمحامي والكاتب صبري جريس (مؤلف: "العرب في إسرائيل")، وعبد الحفيظ دراوشة، والأديب فرح نور سلمان، وعلي رافع، ومحمد خاص، وعلي عاشور، والطالب خليل طعمة (28)، ومحمد ريان، وزاهي كركبي، ومنعم جرجورة، ونصري المر، وجورج غريب، وفؤاد خوري . . . وغيرهم (29).

وحين أطلق سراح بعض هؤلاء فيما بعد "ثبتهم" الحاكم العسكري بأوامر تحديد الإقامة، والإقامة الجبرية!

لقد جدد أمر الإقامة الجبرية على صالح برانسي "وبمقتضاه يمنع من مغادرة بيته في الطيبة بعد غروب الشمس بساعة وحتى شروقها بساعة، كما أن عليه، بمقتضى هذا الأمر، أن يثبت وجوده مرة في اليوم في مركز الشرطة في بلدته. . . هذا وقد تلقى البرانسي هذا الأمر قبل سنتين، وهو ما يزال يجدد كل ثلاثة أشهر" (30).

وكذلك جددت الإقامة الجبرية على عدد كبير من المثقفين والأدباء العرب في فلسطين المحتلة، ومن بينهم الشاعر محمود دسوقي، وصليبا خميس، والشاعر سالم جبران، وعثمان أبو راس، وزاهي كركبي، وعبد العزيز أبو أصبع، وهشام حافظ اجاره . . . " ومئات غيرهم" (31).

ولم تكن الاعتقالات هذه جديدة، كما يظهر بالنسبة للبرانسي، فنحن نعرف مثلاً أن منصور كردوش وحبيب قهوجي منفيان منذ ثلاث سنوات على الأقل ومفروض عليهما الإقامة الجبرية في القرى المبعدين اليها.

ورافقت هذه الاعتقالات والاحتجازات عمليات عنف وضرب وتعذيب كانت جزءاً مكملاً من المخطط "فبعد نشوب الحرب بيومين (7 حزيران) أخذت سيارة الشرطة في قرية الطيبة تجوب الشوارع وتنقل بعض الشباب الى المركز لتدخلهم الى غرفة علقت على بابها لافتة كتب عليها "غرفة التأديب"، وفي هذه الغرفة كانوا يهانون ويضربون ضرباً مبرحاً دون الإدلاء بالأسباب . . . لقد ثبت بصورة قاطعة أن الذين كانوا يقومون بالتعذيب كانوا خليطاً من رجال الشرطة وبعض المدنيين الذين ينتمون الى سلك آخر" (32) – (يقصد المباحث العسكرية).

يصف الشاب خليل طعمة ما حدث له في المعتقل في مطلع حزيران 1967، وهو صورة لما حصل للأدباء والمثقفين العرب الذين اعتقلوا في الفترة ذاتها، في تقرير مفصل:

"أمرت أن أغادر القدس في حين كنت أستعد للامتحانات آخر السنة، الى منطقة قريتي الرامة، وفي 5-6، أثناء استماعي لأخبار الساعة العاشرة، دخل الشاويش رقم 13225 والمعروف عندنا بـ "أبو سرور" وفي يده مدفع رشاش عوزي، وأمرني أن أذهب معه الى مركز الشرطة في كرمئيل، وحجزوني حسب المادة (111). أخذوا مني دفتر العناوين، وفجأة سمعت صوتاً يقول: هذه عناوين ناصر. هه، سوف نرسلك إليه الآن، لقد حلّت نهايتكم وسوف نحصدكم كما تحصد طائراتنا من القنطرة حتى السويس.

واستمر أبو سرور طيلة يومين في إهانتي، وكان يكرر دائماً: أريد أن أشرب كأساً من دمك. ويقول: البروفيسوريم البهائم الذين يعلمونكم كيف تكرهون الدولة . . . مارتن بوبر القذر هذا!

ثم أخذوني الى مركز عكا، وعندما دخلنا وجه أبو سرور حديثه الى بعض أفراد الشرطة الجالسين وقال: انظروا هذا المثقف الذي يدرس الطب كي يسمم الماء في إسرائيل! وأنهى كلامه بلكمة قوية على وجهي مما دفع الآخرين، وعددهم حوالي عشرة، أن يهجموا علي وينهالوا ضرباً ولكماً حتى سال دمي ووقعت مغشياً علي، ومع ذلك فقد صحوت على أبو سرور وهو ينهال ضرباً بحذائه على جميع أعضاء جسمي، وما تزال علامات الضرب الى الآن (آب 1967) واضحة على جسدي" (33).

ورافق هذا "التعذيب الرمسي" سلسلة من "الاعتداءات الشعبية"، فقد كاد يهود نثانيا يقضون على قاسم عبد القادر، وهو مدير مدرسة أبو ربيعة في صحراء النقب حين ظفروا به في الشارع (34). وقد ظلت هذه المدينة مغلقة في وجوه العرب (وخصوصاً سكان قريتي الطيبة وقلنسوة الذين يعملون فيها) عدة شهور بعد ذلك الحادث.

وربما كانت قصة الشاعر حبيب قهوجي نموذجاً لما يحدث للمثقف العربي في فلسطين المحتلة، فقد اعتقل في الخامس من حزيران، ووجهت له تهمة "التجسس"، وبعد شهور قليلة اعتقلت زوجته ووجهت لها نفس التهمة، ومع ذلك "فقد اقترحت السلطات الاسرائيلية على الزوجين الاعتراف مقابل السماح لهما بمغادرة البلاد، إلا أنهما رفضا الاقتراح بشدة" (35).

وفي موعد محاكمتهما فوجئ محاميهما بأنهما لم يحضرا، "وعندما اتصل بالشرطة أبلغ أن الزوجين قهوجي قد اعتقلا لمدة ثلاثة أشهر أخرى بموجب أوامر إدارية" (36). وقد اشتكى الزوجان أمام اللجنة الاستشارية الخاصة بالاعتقالات الإدارية "من المعاملة البربرية التي يلاقونها" (37)، ومع ذلك فإنه لم يسمح لهما بمقابلة محاميهما قبل انعقاد اللجنة (38) التي لم يغير انعقادها شيئاً.

بالنسبة للأديب العربي في الأرض المحتلة فإنه يواجه المسألة بصورة مزدوجة، يقول سميح القاسم معلقاً على مؤتمر الأدباء العبريين الذي انعقد في القدس المحتلة في 17 نيسان 1968:

"قال شيخ الأدباء العبريين يهودا بورلا في كلمة افتتاح المؤتمر:
"إن أدباء إسرائيل يعملون على تعميق الوعي القومي والقيم الإنسانية لدى الشبيبة ولدى الشعب"، ولم تطل فرحتنا بهذا الإعلان، فقد اتبعه فوراً بالدعوة الى "الاعتراف بعظمة هذه الأيام التي أعقبت حرب الأيام الستة"!".

هذا الجانب من التحدث يقابله جانب آخر يجعل المشكلة مزدوجة، يتابع سميح القاسم تعليقه:

". . . وينعقد مؤتمر للأدباء العبريين فلا نسمع كلمة احتجاج واحدة على الاضطهاد الفظ الذي تعرض له. وما زال، الأدباء العرب في إسرائيل نفسها. كثير من الكلام قيل حول محاكمة "الأدباء" في "روسيا" ولكن اعتقالنا نحن، وسوقنا في الشارع مكبلين بالقيود، والاعتداء على حرياتنا اليومية والفكرية، كتحديد إقاماتنا واعتقالنا في منازلنا وفرض الرقابة على انتاجنا وطردنا من أعمالنا ومحاولة عزلنا عن الجماهير بموجب القوانين الموروثة عن الاستعمار البريطاني . . . كل هذه الأمور لم تحظ بكلمة واحدة من مؤتمر الأدباء العبريين ذي القدسين!" (39).

* * *

هذا الوضع الذي يواجهه الأديب والمثقف العربي في فلسطين المحتلة، والذي تابع بإصرار لا مثيل له تحديد طوال عشرين سنة من الاغتصاب، هل استطاع أن يزعزع ثقة العربي بجذور ثقافته وآفاقها، أو أن يحول دون شروق الأدب المقاوم الذي يتوهج الآن كشمس متفائلة في الحياة الثقافية العربية عموماً؟

لقد كان عرب فلسطين المحتلة يدركون منذ البدء خطورة المعركة التي يخوضونها تحت سياط الحكم العسكري الإسرائيلي، ومنذ البدء عبروا عن وعيهم بالمخطط الموضوع ضدهم باختصار ولكن بعمق، في جملة موجزة تلخص كل شيء: "كل الناس في العالم يقفون على أقدامهم، إلا الحاكم العسكري فإنه يقف على أذنابه!" (40).

ولم يكن هذا التعبير ليغطي التحدي السياسي الذي كان يواجهه عرب فلسطين المحتلة، بل كان يغطي أيضاً التحدي الثقافي المبيت ضدهم، وأدى وعيهم هذا لحقيقة "التسلل من الداخل" لتسهيل عملية "الضرب من الخارج" الى بلورة أدب المقاومة الذي كان بدوره أيضاً "صموداً من الداخل" لتسهيل عملية "الضرب الى الخارج".

لقد أدرك أدباء المقاومة العرب في إسرائيل هذه الحقيقة بارتباطاتها السياسية والثقافية المختلفة "فإذا لم نصوت للحزب الحاكم فنحن غير مخلصين للدولة، وإذا كتبنا قصيدة أو قصة أو مقالاً تعبر عن واقعنا المر فنحن غير مخلصين للدولة" (41).

وقد أدى ذلك الى تطور في أسلوب التعبير تكيف في الأساس مع متطلبات "جبهة القتال" الثقافية . فقد لجأ الشاعر، مثلاً، "لإنشاد مقاصده، شعراً بواسطة الطريقة الرمزية . . . فالقصيدة الشعرية هي ميدان فسيح للكتابة الرمزية، يعبر فيها الشاعر عما يخالجه من شعور قومي دون أن يفصح عن ذلك، وكم من مرة خاطب الشعراء أحباءهم قاصدين الوطن، فإذا ما كتب الشاعر في قصيدته "الويل يا ظالم. . " لا يمكن للسلطات أن تعرف قصده لتتخذ ضده الاجراءات القانونية، أما القارئ اللبق فيفهم مرمى الشاعر ويحس بنفس إحساساته" (42).
ولكن هذا الاندفاع في فتح الطريق أمام الأدب المقاوم لم يحدث بالمصادفة. وليست أهميته في الواقع أكثر من كونه حقق لشعر المقاومة درجة من التقدم الفني أكثر بكثير مما أتيح لفن القصة أو الرواية، ولكن الحقيقة هي أنه كان في ذاته نتاجاً لوعي عميق بمهمة الأديب والمثقف أمام التحديات الماثلة.

لقد أدت تلك التحديات الإسرائيلية اليومية الى اختصار فترة من طفولة العمل الفني في الأرض المحتلة صرفتها حركة الأدب العربي المعاصرة في مناقشة طويلة حول مدى التزام الفن، وعما إذا كان الفن الملتزم فناً خلافاً، فقد كان ثقل المؤامرة الإسرائيلية على الثقافة العربية في فلسطين المحتلة يشكل من تلقائه حلاً سريعاً لذلك الجدل، وبكلمة أخرى: لم تكن قضية الأدب الملتزم بين الغالبية الساحقة من أدباء فلسطين المحتلة موضع جدل، كان الجدل فيها – أمام التحديات اليومية الخطيرة – يشكل رفاهاً لم يقبله أحد.

يقول منصور كردوش، أحد أبرز العناصر الوطنية في الأرض المحتلة:

"الفن والثقافة سلاحان إذا ما سارا على النهج الهادف رفعا من مفاهيم أمة بكاملها، أما الفن والثقافة المجردان فبإعتقادي أنهما من مفاهيم عصور الإقطاع والبذخ والرفاهية السطحية، ولذلك أرى أن الواجب القومي والاجتماعي والتاريخي لكل من حمل القلم أو الفرشاة، أن يعمل في الاتجاه الهادف كي يكون صاحب رسالة سامية" (43).

والمثقفون العرب في فلسطين المحتلة، لأنهم يدركون أن "هناك عوامل تحد من توصيل الثقافة المحلية والخارجية الى عامة الشعب، منها عدم إمكانية النشر ومحاربة النتاج الثقافي الهادف" (44) فهم يدركون بالتالي أن "المجتمع العربي في إسرائيل يقلد المجتمع العربي الكبير في تصرفاته ويستوعب نداءاته أكثر بكثير من تقليد المجتمع اليهودي المجاور" (45). وقد أدى ذلك – بالطبيعة – الى الاعتماد بعض الشيء على الإذاعات العربية، فهي "تبدد هذه الوحشة على العربي [في إسرائيل] وتخفف من وطأة العزلة المفروضة عليه" (46). وهي "حلقة الاتصال بيننا وبين ما حجب عنا من إنتاج أدبي وثقافي في العالم العربي" (47). ولذلك فقد أدى "الراديو والتلفزيون العربي، لنا، خدمات جليلة" (48)، الى حد يبدو أنه عكس نفسه على كثير من الإنتاج الفني في الأرض المحتلة (49).

ويبدو أنه، في الوقت نفسه، أثار حفيظة الإسرائيليين الى حد بعيد، فالاسرائيلي سامي ياكوف يقول: "لا أغالي إن قلت أن مصائر قسم لا بأس به من العرب قررت على ضوء تأثير تلك الأجهزة في مشاعرهم وإدراكاتهم، وهذا يقضي بوضع مخطط شامل لتوجيه أبناء الجيل الطالع التوجيه الصحيح ليصبح محصناً ضد تأثير تيارات ليست في مصلحته أبداً" (50).

إن استخدام هذه المظاهر، التي وإن بدت لأول وهلة أنها صغيرة وعابرة، في نطاق الوعي المسبق لواجبات المثقف العربي في الأرض المحتلة، قد أفرز حركة أدبية ملتزمة، انتهت الى أن تكون علامة من أنصع علامات أدب المقاومة الشجاع في التاريخ المعاصر.

وسوف نرى، بعد قليل، كيف أن ذلك كله قد استولد وجهين مترافقين لأدب المقاومة الفلسطيني ظلا معاً السمة البارزة والدائمة لهذا الأدب، وهما وجهه المحلي الصامد، ووجهه العربي الذي غنى على الدوام للمسيرة العربية معتبراً نفسه، رغم كل أشكال القمع والحصار والعزلة، جزءاً منها لا يتجزأ.

* * *

لدينا، على أي حال، مثال شديد الأهمية وجدير بالتسجيل لأنه، كما سنرى، يعكس الشيء الكثير مما نقصده.

لقد أقامت مجلة "هذا العالم" ندوة في مطلع 1967 تحت عنوان "مصائب المجتمع العربي" في إسرائيل، وقد طرحت حلقات هذه الندوة موضوع "تأخر المجتمع العربي في إسرائيل" وطلبت من المثقفين العرب هناك الإدلاء بآرائهم عن أسباب تلك الظاهرة.

يعترف رئيس تحرير المجلة بعد تلقيه سلسلة من الردود: "لم نسمع المديح قط، بل النقد والهجوم، والخط الأساسي في كل هذه الهجومات كان: "شو دخلكم بهل الموضوع"، ومنهم من اتهمنا بأن هدف هذه الندوات . . . هو إهانة للمجتمع العربي في إسرائيل . . . وأشغال العرب بمعارك جانبية" (51).

لقد انتهز معظم المثقفين العرب فرصة هذه الندوة ليعبروا عن وعيهم العميق بحقيقة الإشكال الذي يعانونه والذي يتمردون عليه، لقد رفضت الغالبية الساحقة من المثقفين العرب المشاركين في الندوة طرح موضوع "التخلف العربي" من الزاوية التي يصر الإسرائيليون على طرحه منها، فالتقدم "لا يقاس بمقاييس الغرام والجنس، كجلوس شاب وشابة معاً في قاعة السينما" (52). وقد وضع معظم المثقفين العرب في فلسطين المحتلة مسألة التقدم والتخلف في سياقها النضالي العميق، مفوتين الفرصة على الرأي الإسرائيلي الذي يعتقد أن التقدم يبرر استعباد المتخلفين.

ولم تكن هذه الآراء، في الحقيقة، إلا التربة التي أخصبت بذور الأدب المقاوم في فلسطين المحتلة واحتضنتها بحرارة وأكسبتها المناعة التي أنتجت في المستقبل ثقة بالنفس وبالمستقبل لا حدود لها، فهي تبرهن أن الالتزام الواعي كسر القشرة البراقة للخديعة الإسرائيلية الفظة، وفوّت على مزاعم التقدم الاسرائيلي فرصة استقطاب الحركة الثقافية العربية وامتصاصها.

وهذه في الواقع مسألة شديدة الأهمية والخطورة، فنحن نعرف مثلاً انه في الكثير من الدول النامية فتح المثقفون عيونهم ليجدوا أنفسهم محاطين ببريق ثقافة أجنبية أرادت بوسائل مختلفة التوصل عبر العمل الفكري والفني الى فرض نمط حياة مستوردة، ووما لا شك فيه أن الكثير من المثقفين هؤلاء، بين تنازع الجذور المحلية وبريق الثقافة الغربية، انخلعوا عن جذورهم وولاءاتهم وانتسبوا الى نمط حياة أخرى.

لقد واجه المثقف العربي في فلسطين المحتلة هذا التحدث بصورة أكثر اتساعاً وقسوة، إذ أنه كان وما يزال يمثل حضوراً يومياً مسلحاً بوسائل القمع والإغراء في وقت واحد، لقد واجه الأديب العربي في إسرائيل، وهو غالباً رجل شاب قادم من الريف، سطوة التقدم الغربي وجهاً لوجه، وبريق النمط الأوروبي من الفكر والحياة، ليس على صفحات مجلة أو شاشة سينما أو سطور كتاب فحسب، ولكن في تفاصيل الحياة اليومية التي كان يخوض غمارها ساعة فساعة.

ومن هنا كان هذا التحدي يشكل درجة أكثر خطورة وسطوة بالنسبة للمثقف العربي في إسرائيل من أي مثقف آخر في العالم النامي تقريباً، لقد كان "التقدم الإسرائيلي يشكل بالنسبة له فخاً له حضوره اليومي، المعنوي والمادي، والذي كان يفتح أشداقه حول خطواته باستمرار.

ولذلك فإن طرح موضوع "التقدم الإسرائيلي" أمام "التخلف العربي" كان دائماً مسألة لها خطورتها ومحاذيرها، فقد كان هذا الموضوع يشكل بالبداهة السلاح الإسرائيلي الأقوى – فوق وسائل القمع والإرهاب – لمحاولة استيعاب المثقف العربي واستدراجه الى نمط الحياة الإسرائيلية بملء إرادته.

ولكن المثير للدهشة حقاً أن الغالبية الساحقة من المثقفين العرب في فلسطين المحتلة، الذين سئلوا رأيهم بهذا الشأن، أبدوا وعياً على درجة عالية من المسؤولية التي يفرضها التزامهم العميق بقضيتهم الأولى، وقد جاءت الأحداث فيما بعد لتؤكد لعرب الأرض المحتلة صواب موقفهم حتى من الناحية الشكلية، فبعد عدوان حزيران 1967 "تحطمت الفكرة الفاشية التي تحاول دائماً وصم العرب واتهامهم بالتأخر، تحطمت الفكرة الصهيونية التي تقول بأن العرب في إسرائيل يعيشون على مستوى لم يحصل عليه أي شعب في أية دولة عربية، وجعلت منهم فترينة للاستهلاك الخارجي . . . كل ذلك تحطم بسرعة البرق بعد أن أطلعنا على مستوى المعيشة في الضفة الغربية وفي قطاع غزة" (53).

ومما لا شك فيه أن بناة الستراتيجية الصهيونية فوجئوا بلا ريب بنوع الأدوبة التي أدلى بها المثقفون العرب في إسرائيل على استفتاء "هذا العالم" حول ظاهرة "تخلف المجتمع العربي في إسرائيل بالنسبة للمجتمع اليهودي، وتقدمه بالنسبة للمجتمعات في الدول العربية".

لننتبه جيداً الى الفخ المروع الكامن في هذه المعادلة غير المنطقية، ليس من حيث أنها مطروحة على شكل سؤال للمثقفين العرب أنفسهم، ولكن لأنها – قبل ذلك – أحد أهم الأركان التي يقوم بها الغزو الإسرائيلي للثقافة العربية في فلسطين المحتلة، ومجرد وجود هذه المعادلة، مهما كانت نسبة التزوير فيها، وممارستها عملياً على مدار عشرين سنة من الاحتلال، يظهران بالبداهة ضراوة المعركة التي يخوضها المثقف العربي في فلسطين المحتلة، ويظهران، بالتالي، القيمة الحقيقية والحجم الحقيقي لأدب المقاومة الذي يكتسب، بالقياس لكل هذه الحقائق، قامة مضاعفة.

من المفيد في هذا المجال اختيار نموذج للأجوبة يعبر فعلاً عن موقف المثقف العربي إزاء هذه القضية الشائكة، وسنسجل ها هنا الجزء الأوفر من جواب المؤرخ العربي بولص فرح من حيفا، الذي سنلاحظ أنه انتهز بذكاء فرصة هذا الاستفتاء ليشن حملة على جوانب مختلفة من سياسة القمع الإسرائيلية، وليقول رأيه، بشجاعة، بكثير من القضايا التي لا يمكن أن يقال رأي عربي فيها في المناسبات الأخرى. وبالتالي يكتسب هذا الرأي قيمة الوثيقة التاريخية التي تشكل علامة أساسية من علامات النضال الثقافي العربي في فلسطين المحتلة.

يقول بولص فرح (54):

"من أين لنا أن نقدم على معالجة هذا الموضوع ونحن في عزلة تامة، نعيش بلا صحيفة أو كتاب أو تقرير أو مكتبة مورداً للدرس والتمحيص والتدقيق والبحث والمقارنة حتى تكتسب أقوالنا وكتاباتنا طابع العلم ودراساتنا صفة الدقة، والإجابة العلمية، هذا إذا سلمنا أن الموضوع علمي أكثر منه شقشقة لسان، أو ترفيهات فكرية مريحة؟

فضلاً عن ذلك فإنه من حق القارئ أن يفهم في إطار التعريف المحدد معنى التقدم والتأخر الاجتماعيين، ما هي مقاييس التقدم الاجتماعي أو التأخر الاجتماعي؟ أهي مفاهيم أخلاقية أو آداب سلوك أو كيفية ثقافية أو فلسفة حياتية؟ أهي السعي لسعادة الإنسان، كل إنسان؟ وكيف تتم هذه السعادة؟ أفي الملكية العامة لوسائل الإنتاج أو في الملكية الخاصة؟ أم هي نظرة داعية لمصير الإنسان؟ للسلم أو الحرب؟ للعنصرية والتمييز أو للتآخي والمساواة؟ بسلب شعب آخر حقوقه أو تمكينه من هذه الحقوق؟

. . . ويلاحظ من خلال نقاش أفراد الندوة أن التقدم الاجتماعي، أو الايجابية الاجتماعية، هو بخروج ابن القرية الى المدينة وتبني ظواهرها، وتبديل القمباز والجلباب بالبدلة ولعب ابن القرية الورق في المقهى البلدي، وخروج ابن الناصرة مع صديقته لزيارة السينما، وإذا منع عن ذلك "فهنا تكمن الرجعية"، على حد قول السيد شالوم كوهين!

. . . أما الأخ الشاب محمد مصاورة فيقرر بشطحة قلم: "إن المجتمع العربي [ في إسرائيل] متأخر في تفكيره ومفاهيمه الاجتماعية والنفسية، والمشكلة في أساسها مشكلة ثقافة". ومن هذا نفهم أن الثقافة قد تؤخر أو تقدّم المجتمع المعين، فإذا كان المجتمع على مستوى عال من الثقافة كان مستوى تقدمه الاجتماعي عالياً، أما إذا كانت ثقافة شعب متدنية، تدنت أوضاعه الاجتماعية.

ونتساءل الآن: إذا كانت الثقافة هي المعيار الذي نتعرف بواسطته على تأخر أو تقدم المجتمع اللعين، فهل كان ينقص الشعب الألماني الثقافة عندما نام ضميره على تدمير حياة الملايين في أفران الحرق النازية؟ ولمَ لم تقم البدلة الافرنجية، وهي مظهر من مظاهر التقدم الاجتماعي حسب رأي السيد كوهين، على ردع الفرنسيين عندما أشعلوها حرباً إفنائية ضد الشعب الجزائري؟ ولمَ لا يقدم الأميركيين المتقدمون تقدماً اجتماعياً كبيراً على وقف إفناء الشعب الفيتنامي؟

أم هذه سياسة، وتلك اجتماع؟

من قال أنه يمكن للمرء أن يفرق بين الفهم السياسي والنظام الاجتماعي؟ أوليست الأولى مظهراً من مظاهر الحياة الاجتماعية؟

. . . السياسة [في إسرائيل] تعمل على تأخير تطوير العرب الاجتماعي على مختلف أنواعه. لذلك يناهضها العرب، فهم لا يضحون "بالتطور الاجتماعي على مذبح الهدف السياسي القومي"، على حد قول السيد كوهين، بل هم ضحية مخططات اجتماعية . . . . وهنا تغدو السياسة اجتماعاً واقتصاداً، والعكس بالعكس.

ماذا نفهم من كلمة مجتمع متقدم؟ (ألا يعني ذلك) علاقات اجتماعية متقدمة تنفرد بخصائص هادفة الى الخير والعدل والحق؟ فأين التقدم الاجتماعي اليهودي الذي يتكلم عنه السيد جلعادي، الذي يحتلى بهذه الخصائص؟

هل الانجرار وراء عجلة الاستعمار يعتبر تقدماً اجتماعياً؟ هل تزييف إرادة الأقلية القومية في الانتخابات العامة مظهراً من مظاهر التقدم الاجتماعي؟ أن نزع ملكية أراضي الفلاحين العرب ووهبها الى المهاجرين اليهود، وتجميد نشاط زبدة المثقفين العرب واصطناع العملاء يدخل ضمن خصائص التقدم الاجتماعي؟

فنقطة الانطلاق لأي مجتمع ليست بارتداء البدلة الافرنجية، فقد ارتدى الأتراك البدلة الافرنجية، وتبرنطوا، ولم يغيرهم المظهر وبقوا في عداد الأمم المتخلفة، وليس (التقدم الاجتماعي) بالسماح بمرافقة الصبيان للبنات الى دور السينما والتواصل الجنسي المبكر . . .

. . . وبعد، فإني أتهم واضع جدول البحث للندوة بأنه أراد أن يتهرب من الواقع العربي في إسرائيل وإشغالنا بمعارك جانبية وبحوث بيزنطية مجردة: عن مكانة المرأة والمهور وإيجابية اللباس الافرنجي ومرافقة الصبيان للبنات، ونسي أن يذكر، أن في البلاد لا يوجد ناد ثقافي عربي واحد يعمل، وأن في البلاد لا يوجد منظمة عربية واحدة تدافع عن مصالح العرب، وأن في البلاد خوفاً شديداً من رجال المباحث الذين لا ضمائر لهم، وأن في البلاد خوفاً وقلقاً على المستقبل، وأن في البلاد بطالة متفشية بين العمال العرب لم يسبق لها نظير . . ." (55).

وسط هذه التحديات التي حاولنا أن نوجزها هنا (56)، كيف قطع الأدب الفلسطيني المقاوم رحلته الصعبة في العشرين السنة الماضية ليصل الى الدرجة العالية التي وصلها الآن؟ ماذا قال؟ وكيف قال هذا الذي آمن به؟ وما هو المستوى الذي حققه في الشكل والمضمون؟

إن الصفحات التالية هي محاولة لرصد هذا الأدب المقاوم في تطوره الدؤوب والوسائل التي توصل اليها في التعبير، من خلال الإطار الذي سجلته الصفحات السابقة عن المناح القمعي الفريد الذي يعيشه المثقف العربي في الأرض المحتلة، دون فترة انفراج واحدة، منذ عشرين سنة.

نص قديم للأديب الراحل غسان كنفاني

عن كتاب غسان كنفاني : الأدب الفلسطيني المقاوم 1948 - 1967


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى