الأحد ٢٤ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
رئيس تحرير السفير اللبنانية طلال سلمان يكتب عن سهيل إدريس

اعتذار من بيروت ومن سهيل إدريس ..

يتوجب علينا الاعتذار من أستاذ الجيلين سهيل إدريس، بداية، ثم من بيروت، أميرة الحزن العربي، لأننا لم نستطع أن نوفر له فيها ومعها الوداع اللائق بدوره الريادي في تجديد الثقافة العربية، انطلاقاً منها وبها نحو الوطن العربي الكبير بمشرقه ومغربه جميعاً.
العذر العلني الذي لا يحتاج إيضاحاً أننا كنا بصدد تشييع المبادرة العربية لحل الأزمة السياسية المتفجرة في لبنان، وذلك عبر مهرجانات الاشتباك بالرصاص والقنابل الحارقة في بعض أحياء بيروت بين جماعة النصف زائداً واحداً وجماعة المثالثة والثلث الضامن..

هكذا فقد شغلنا تهاوي الجمهورية بمؤسساتها جميعاً عن سائر الشؤون والشجون، وخصوصاً أن الضربة القاضية لهذه الدولة الصغيرة بحجم الكون وعواصمه جميعاً، قد جاءت من أهلها العرب، وإن تلطى خلفهم الأعداء الطبيعيون من الهيمنة الأميركية إلى الاحتلال الإسرائيلي.
هل كان ضرورياً أن ينطوي سهيل إدريس داخل قوقعة صمته الأبدي حتى نكتشف كم أن بيروت التي شيّعته بحزن أخرس هي غير بيروت النوّارة التي أعطت هذا الفتى الذي غادرها أزهرياً وعاد إليها من باريس جان بول سارتر ودعواه الوجودية داعية قومياً ومحرّضاً بثقافة الإنسان ضد أنماط الاحتلال الأجنبي والاستعباد أو الاستتباع الداخلي جميعاً؟!

لقد وفّر رحيل سهيل إدريس فرصة جديدة لأن نكتشف ـ بعيداً عن السياسة بل بسببها وتحديداً بسبب انحدارها بل وغرقها في مستنقع الطائفيات والمذهبيات ـ كم انطفأ من أنوار بيروت ومن إشعاعاتها التي أضاءت العديد من الجنبات المعتمة في هذا الوطن العربي الكبير الذي يكاد لا يتبيّن طريقه إلى هويته ودوره فكيف بغده؟!
بل إن رحيل سهيل إدريس قد كشف لنا كم زادت المساحات المعتمة ـ عربياً ـ عنها يوم إقدامه على مغامرة إصدار «الآداب» قبل خمسة وخمسين عاماً.

فهذه المدينة النوّارة «التي احترقت ولم ترفع الأعلام البيضاء» للاجتياح الإسرائيلي في العام ,1982 والتي أُطلقت منها وفيها الرصاصات الأولى للمقاومة، يُراد لها اليوم أن ترى في المقاومة المنتصرة على إسرائيل تكراراً في العام 2000 ثم في الحرب الإسرائيلية صيف العام 2006 اجتياحاً لها من داخلها... وكأن مجاهديها أغراب دخلاء على هذا الوطن الذي يمكنه الاعتزاز بانتصاره العظيم.

لقد تزايدت أعداد المجلات والنشرات والمطبوعات الدورية المكتوبة بماء الذهب، تدليلاً على تعاظم الاهتمام السامي «بنشر الوعي» و«إحياء الثقافة أو تجديدها»، لكن هذه الدوريات الأسبوعية منها والشهرية والفصلية تبدو أحياناً وكأنها آتية من قبل العصر، وفي أحيان أخرى من بعد العصر... وغالباً ما تكون بلا قضية، اللهم إلا إذا كان الهدف منها التدليل على اهتمام السلطان بالثقافة والمثقفين بوصفه «المثقف الأول».
أما «الآداب» فكانت مجلة القضية.

لقد كان هدف منشئها من إطلاقها، وبامتياز سياسي وليس ثقافياً أو أدبياً بالمعنى القانوني، أن تكون منبراً للدعوة إلى حركة تغيير عربي شامل، بتحطيم الأوهام والأصنام ودواعي العجز والاستسلام لترسبات عصور القهر الاستعماري وانعدام الثقة بالذات في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي ومن يسلحه ويدعمه ويناصره فينصره على هذه الأمة.

ولقد خاضت «الآداب» معارك ثقافية ذات أبعاد سياسية معلنة، ضد اتجاهات وتوجهات كانت تعتبر في حينها معادلة للخيانة والارتباط بالأجنبي.
خاضت معركة الهوية القومية التي كانت مطمحاً بل مطلباً عزيز المنال على الممنوع من ممارسة عروبته... أما اليوم فقد صارت العروبة تهمة، ولعلها سوف تصير، في مستقبل قريب، جناية يقدم مرتكبها إلى المحكمة بتهمة تحقير المكونات العرقية أو العنصرية أو الطائفية والمذهبية للهاربين من عروبتهم أو المتنكرين لها.

وخاضت معركة المقاومة... وها هي المقاومة اليوم تعتبر محاولة لإسقاط النظام الطائفي.. بالمذهبية!
بل إن أولئك الذين غادروا هوياتهم وملامح وجوههم ووجدانهم إلى غربة ثقافة «العالم الجديد»، حيث لا قومية ولا وطنية ولا موروثات دينية تشد إلى التخلف وتغري به، قد يستطيعون اليوم أن يحاسبوا سهيل إدريس و«الآداب» وأن يوجهوا إليه وإليها اتهامات أقسى وأشد بينها: التخلف، الأصولية، الغربة عن العصر.. وصولاً إلى التوجه الإرهابي! وبين الأدلة احتضانها المقاومة والدفاع عنها.

لقد جمعت «الآداب» أطراف الوطن العربي الكبير من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق... وكان المبدعون، كتاباً وروائيين وقصاصين وشعراء وبحّاثة، يتلاقون فيتعارفون وقد يتنافسون ويتزاحمون على صفحاتها من أجل توطيد التعارف فالتواصل والتلاقي تمهيداً للتوحد في الموقف من خلف طموحاتهم ـ أهدافهم المشتركة العزيزة المنال.

و«الآداب» التي صدرت في بيروت ومنها قبل خمسة وخمسين عاماً كانت متقدمة جداً عن واقعنا الحالي، إذ لم تكن بيروت عاصمة للاقتتال بين الطوائف والمذاهب، بل هي كانت عاصمة للتنوير، عربياً، فيها الطوائف جميعاً ولا طائفية مستنفرة تستدعي الطائفية، يتلاقى فيها العرب من داخل هوياتهم الوطنية بأفق الطموح إلى التلاقي في أفياء العروبة الموحدة... أما اليوم فالساحات مفتوحة لاقتتال بين الهوية الوطنية والطائفية وبين القومية والمذاهب، وكل ذلك يصب في مصلحة «العدو الإسرائيلي» ومشروع الهيمنة الأميركية.

لكن «العدو» لم يعد عدواً تماماً... وها هو يكاد يتحول إلى «جار»، ولأنه الأقوى فلا بد من مداراته ومجاراته والانتقال من مهادنته إلى مسالمته، وطي صفحة الصراع، بذريعة «نريد أن نعيش»... «فلتذهب المقاومة إلى من يحـتاجها، أما نحن فقد اكتفينا.. خلص»!

مع غياب سهيل إدريس، أستأذن أن أروي واقعة تستعصي على النسيان:
في صيف ,1960 نظمت مجلة «الأحد»، وكنت مديراً للتحرير فيها، مسابقة في القصة القصيرة. وكان سهيل إدريس رئيساً للجنة التحكيم فيها. وبناء على اقتراح منه دعونا الكاتب الجزائري مالك حداد كضيف شرف. وبعدما أعلن أسمــاء الفــائزين (غــادة السمان، زكريا تامــر، وياسين رفاعية)، وجـــه الدكتور سهيل إدريس تحية إلى ضيفنا الكبير، وكانت ثورة المليون شــهيد في جزائره الحبــيبة تكــاد تنجز انتصارها التاريخي، ثم أعطاه الكلمة.

وقف مالك حداد ليلقي كلمة رد التحية، وإذا به يصمت طويلاً ثم يشهق باكياً... قبل أن يغمغم معتذراً عن عدم معرفته باللغة العربية وصعوبة أن «يهــدر» باللهجة الجزائرية التــي لن نفهـمها.
وكان ذلك المشهد شاهداً حياً على ما يتهددنا جميعاً إن لم نقاتل لحماية وجودنا وهويتنا بوحدة الموقف ووحدة الهدف.

هــا نحــن «نهدر» جميعاً بلغة واحدة، يا دكــتور سهيل، ولكنــنا ـ من أســـف ـ لا نريـــد أن نفهم معانيـــها ودلالاتــها ومصـدرها، ربما لأننا «نستخدمها» وقـــد جرّدناها من الوجــدان.

... ولن ننسى أن نحتفل معك بعيد الوحدة، غداً، مع أنها صارت مجرد ذكرى عزيزة على القلب، وخارج القدرة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى