السبت ٢٣ شباط (فبراير) ٢٠٠٨

بدايات برهان الخطيب

بقلم: أحمد جاسم العلي

برهأن الخطيب الروائي والقاص العراقي المعروف، طلع علينا بكتاباته في الستينات من القرن الماضي. خطا خطواته الأولى في كتابة الرواية والقصة القصيرة حين أصدر مجموعته القصصية الأولى (خطوات إلى الافق البعيد/1967) واعقبها بروايته الأولى (ضباب في الظهيرة/1967) ثم روايته الثانية (شقة في شارع ابي نواس/1972) ومجموعته القصصية الثانية (الشارع الجديد/1980).

بدأ الخطيب يكتب في الستينات ولكنه لم يركب الموجة التي ارتفعت في السنوات 1964-1968 والتي ركبها زمرة من الكتاب الشباب وقادها اثنأن منهم: عبد الرحمن مجيد الربيعي في القصة وفاضل العزاوي في الشعر والذين شكلوا فيما اطلق عليها فيما بعد حركة الستينيين الأدبية في الرواية والقصة والشعر.

هؤلاء كانوا خليطا من شيوعيين وبعثيين انقطعت بهم السبل فضاعوا بعد أن خرجوا، وقد خابت آمالهم، من تجربتين سياسيتين متقاطعتين: الحزب الشيوعي وحزب البعث. الشيوعيون أثر انتكاسة ثورة 14 تموز1958 والبعثيون أثر انتكاسة انقلاب 8 شباط 1963.

سُجن من سُجن وتشرد من تشرد وانزوى من انزوى واعتكف من اعتكف وادمن من ادمن إلى أن حدث انقلاب تشرين ثاني 1963 وانفرج الجو السياسي قليلا وجاء الفرج للجميع: السجين والمتشرد والمنزوي والمعتكف والمدمن وصاروا، الشيوعيون والبعثيون ومعهم المستقلون يلتقون في المقاهي نهارا والبارات ليلا، يخوضون في السياسة متنافرين ويتحدثون في الفكر متقاربين ويتناقشون في الثقافة مجتمعين، تجمع بينهم على كل حال المصيبة التي اصابتهم في احلامهم وطموحاتهم وتطلعاتهم المستقبلية.

ثم بدأوا يشكلون تجمعات ثقافية انبثقت عنها مع الايام ثلاثة اتجاهات جديدة في كتابة الرواية والقصة والشعر والمسرح: الاتجاه الأول هو الاتجاه التجريبي المتمثل في الكتابة الشكلانية،الفنتازية، الكابوسية، الغنائية والذاتية التي تعالج بها مواضيع كأن يعاني منها المثقفون عامة والكتاب الشباب منهم خاصة بسبب ما خلفه في نفوسهم فشلهم في التجربة السياسية التي خاضوها وخيبتهم فيها؛ مواضيع بعيدة عن هم الانسأن العراقي العادي الذي اكتوى قبلهم واكثر منهم، بنار السياسة والسياسيين وصراع القوى الوطنية والقومية في الستينات من القرن الماضي (وتحدثنا في هذا الموضوع في اكثر من مقال!) ومثل هؤلاء عبد الرحمن مجيد الربيعي، فاضل العزاوي، جمعة اللامي، عبد الستار ناصر، يوسف الحيدري، محمد عبد المجيد، جليل القيسي .. الاتجاه الثاني هو الاتجاه الواقعي، الواقعي النقدي او الواقع الاشتراكي، سمه ما شئت، المتمثل في الواقعية الخمسينية التي لم تكن قد تمكنت من ادواتها الفنية في الكتابة عند جميع الكتاب باستثناء فؤاد التكرلي وإلى درجة ما عند عبد الملك نوري ومهدي عيسى الصقر وغائب طعمة فرمأن وشاكر خصباك وغانم الدباغ وجيهأن (يحيى بابان).

وتحسن وارتفع مستوى كتابة القصة الواقعية الفنية في منتصف الستينات حين ظهر إلى جانب الخمسينيين قصاصون شباب مثل محمد خضير وفهد الاسدي وبرهأن الخطيب وغازي العبادي ومحمود الظاهر. هؤلاء الكتاب الشباب لم يركبوا الموجة التي ركبها كتاب الاتجاه الأول رغم أن بعضهم عانى ايضا، بشكل او بآخر، منتميا اوغير منتمي، من خيبات وانكسارات سياسية خاصة بعد انتكاسة ثورة 14 تموز 1958 ونهجوا نهجا واقعيا في كتاباتهم وعالجوا مشاكل الحياة وتعقيداتها وهموم الناس ومتاعبهم قبل معالجة همومهم ومتاعبهم في الغالب من قصصهم (ورواياتهم على قلتها!) الاتجاه الثالث هو الاتجاه الذي حاول التوفيق بين الكتابة التجريبية والكتابة الواقعية وحاول التوفيق بين العام والخاص؛ معالجة هموم الكاتب الخاصة ومعالجة هموم الناس العامة. وهذا ما فعله الكاتب الروائي والقاص برهأن الخطيب في اولى خطواته إلى الافق البعيد في كتابة الرواية والقصة وهذا ما يهمنا هنا ..

يبدأ برهأن الخطيب خطواته الأولى في الكتابة الروائية والقصصية بإصدار مجموعته القصصية الصغيرة (خطوات إلى الافق البعيد/1967.) هذه القصص هي مخاضات صغيرة في مواضيع كبيرة حول المجتمع والسلطة والظلم والكون والانسأن والضياع والموت تناوب عليها مرة وتداخل فيها اخرى العام والخاص فعبر المؤلف بالعام مرة عن الناس في مجتمع متخلف، خامل، مهين، رتيب، طبقي، ينامون على الضيم او يستنامون اليه، لا يتحركون لتغيير واقعهم، يتشاحنون ويتعاركون فيما بينهم ساهين ولاهين عما يجري حولهم. " يا جماعة، الدنيا ما تسوه عراك، اصحو من نومكم، تره كل واحد من عدنه نايم ورجليه بالشمس. . . ولكن عجيب، عجيب أمر الناس، يفرحون بطيحأن الحظ بدل أن يسبو الذي كأن السبب في توقيفي. . . تف عليكم ولعنة على الملك وعلى اجدادكم." (خيري الاعرج.) والناس الذين يكررون انفسهم يوميا ويفرطون بايامهم، جاهلهم ومتعلمهم، كبيرهم وصغيرهم، يقضون ساعات الليل والنهار يسبحون بسبحاتهم ويتفاخرون بها ويسقطون حباتها الواحدة بعد الاخرى " .. برتابة وبلا ضجر .." في المقهى تماما كما يشربون ويدخنون ويتحدثون ويلعبون " .. برتابة وبلا ضجر .." في النادي. أن بناء النادي " غير جيد والجدرأن رطبة ومفطرة والأسس ليست صالحة، اذن فالبناء يحتاج إلى هدم كامل. . . . اخرج المسبحة ونظر اليها نظرة طويلة ثم رمى بها إلى الماء." (المسبحة،) والناس الذين يفتقرون ويغتني غيرهم، يمرضون ويتمتع غيرهم بالصحة والعافية، يسكنون في الغرف المظلمة والعفنة والضيقة وغيرهم يسكن القصور الفارهة، ينامون على فرش قذرة تعط منها الروائح الكريهة وينام غيرهم على فرش نظيفة وجديدة . . ولكن لا يتحركون ضد هذه الاهانات. " .. المشكلة ليست مشكلة تنفيس عن الخاطر .. لا! بل مشكلة الحمار الذي يرفس برجليه (اذا ما اثاره شيء ما) والانسأن الذي يأكل الاهانة ويسكت. . . الاهانة. . . . وفي لحظة، تصور (جاسم حارس الاسطبل) أن اهل السوق يقفون بدل الدواب والالجمة تربطهم من رؤوسهم إلى ارض عفنة مليئة بالروث والتبن. . . . والنتيجة؟ يجب أن تكن ثمة نتيجة، وإلا إلى متى يظل ينثر اللعنات والشتائم والصياح بلا فائدة؟" (النتيجة.)

وعبر المؤلف بالخاص مرة آخرى عن الناس الذين يسمعون القول من رجل دين أمضى عمره يعظهم ولكنهم لم يتعظوا وولده الذي يعاني ويتألم من مساوىء المدينة يُخير أن يحل محله بعد موته لمرضه او أن يُقبل على الدنيا ويتزوج " شوف ابن عمي، اختار تروح لبيت ابوك لعله تصير شرع من بعده أو تروح لبيتكم وتفرح انت والناس بالعرس . . . أنت مسؤول عن قاذورات المدينة حتى تبهذل نفسك بهذا الشكل؟" ويموت الاب الواعظ فلا يحل الابن محله ويتأجل العرس فلا يفرح هو ولا يفرح الناس. ويظل يعاني ويتألم بسبب (قاذورات المدينة.) وعبر المؤلف بالخاص جدا في (الدمية والصليب) عن الفرد يعاني من ازمة وجودية ومن شعور بالعبث وبلا فائدة من كل شيء ومن هموم يحملها على ظهره. يدخل شاب وفتاة إلى قاعة سينما ويجلس الشاب صامتا.

" تكلم، قل أي شيء، انت صامت دائما، صامت إلى حد اصبحت فيه تتكلف الكلام." قالت الفتاة.

هز رأسه " لا اتكلف الكلام . . ولكن الحقيقة . . لم يعد هناك شيء يستحق الكلام." ويشعر الشاب الذي يحمل هموم واحزأن المسيح على ظهره أن الدمية التي تجلس إلى جانبه تضجره.

" سأذهب"

"أذهب." قالت له.

قام من مكانه، سار في الممر المظلم، اختفى خلف الستارة.أما هي فقد اخفت وجهها بين كفيها وبكت." (الدمية والصليب.) وعبر بالخاص جدا مرة اخرى في قصة (النسرالابيض) عن تجربة شخصية له في (الأسكندرية/مصر) (كما في تجربته الشخصية في قصته " السحب الخريفية" من مجموعته "الشارع الجديد/1980."). ولعل القارىء لهذه المجموعة القصصية الصغيرة يرى وهو ينتهي من قراءة القصتين الاخيرتين (الطفل والشيطان) و(الموت والناس) أن القاص يتنقل بين العام والخاص مرة ويخلط بينهما مرة وينأى بنفسه عنهما مرة ثالثة لانه لم يستطع أن ينهج طريقا واحدا في الكتابة القصصية بسبب أن القصص لم تجمعها وحدة موضوعية ولم ينتظمها فكر واحد. كأن المهم عنده هو أن يصدر مجموعة قصصية ولو صغيرة فكأن وكانت النتيجة انه شرق وغرب في قصص لا تتبنى شكلا واحدا من اشكال الكتابة ولا تجمعها وحدة موضوعية ولا ينتظمها فكر واحد. أقول لك: لا، لا تذهب بعيدا في رؤيتك هذه، فالقاص كأن واعيا منذ البداية لما يعمل وهو يخطو أولى خطواته إلى افق الكتابة البعيد. وحاول أن ينقل للقارىء رؤيتين للواقع في مجتمعه الذي ادرك وجوده فيه منذ زمن والذي يعي هذا الوجود فيه الآن: الأولى جماعية والثانية فردية، معاناة عامة واخرى خاصة، وهذه الثانية قد تكون نتيجة للأولى وقد تكون، ايضا، نتيجة رؤية خاصة جدا ناتجة عن تفكير في العالم والحياة والناس والاشياء والخير والشر والموت لشاب يواجه الحياة لاول مرة وقد ادرك ووعى. كأن القاص يعرف ما له وما عليه بل انه قدم ما عليه تجاه الآخرين على ما له تجاه نفسه. لقد ولد الخطيب ونشأ وتربى في بيت ".. عائلة دينية معروفة في العراق ..، " عائلة محافظة تنتمي إلى أهل بيت النبوة، وجدت في مدينة محافظة، (الحلة.) والمتعارف عليه اجتماعيا أن يشار إلى بيت عائلة عراقية تنتمي إلى آل البيت بـ (هذا بيت علم.)

وكأن أبوه معلما، بمعنى أن نشأته وتربيته كانت سليمة، سليمة في العقل والاخلاق وسليمة في النظر إلى الحياة واشيائها والحكم عليها وسليمة في التعامل مع الناس الاخيار وسليمة في الاستماع إلى الناس الاشرار والتوفيق بينهم بالعدل والانصاف وسليمة في رفض الظلم والظالمين وسليمة في الوقوف إلى جانب المظلومين والمستعبدين والفقراء والمحرومين حتى يُنتصف لهم وينالوا حريتهم وحقوقهم مهما طال الزمن. وسنرى في العملين التاليين اللذين شكلا بداياته في الكتابة إلى اي مدى ذهب برهأن الخطيب في تحقيق ما يثبت كلامنا الفائت... ومن الانصاف أن لا نشتدد على الكاتب في تواضع سرده وتعثر لغته في هذه المجموعة القصصية الصغيرة، فنحن لا نعيب على الطفل تعثره في خطواته الأولى ولا سقوطه مرة ومرتين وهو يحاول الوقوف على قدميه بل نفرح ونأمل خيرا اذا ما تأكد لنا من مراقبته أن عوده سيقوى وسيخطو بثبات ولا يعود يسقط كلما اراد الوقوف وسيمشي واثقا في زمن اقصر من الزمن المعتاد. وهذا هو شأن برهأن الخطيب في بداياته الأولى وقد راح يكبر بسرعة، ويخطو بثبات ويمشي واثقا..

ويخطو الخطيب خطواته الأولى في مجال الرواية. يصدرفي 1968 رواية (ضباب في الظهيرة/1968) ويقدم فيها ثلاث شخصيات: (أنيس) " هذا الذي يهاجر إلى مكأن لا يعرفه احد." "وأنا (الراوي) ذلك الحائر الذي كأن يبحث في اكثر من طريق." ورافد الذي " كنت اعتبره احد اصدقائي القلائل جدا، فقد كأن مثقفا وذا ولع خاص بتاريخ الثورات والحروب والتاريخ بصورة عامة. وكأن قد دخل السجن مرات عديدة نتيجة نشاطه السياسي فخرج ذو شخصية عميقة كنت اجدها تستحق الاحترام وقد اكسبه هذا اسلوبا لبقا في الحديث ومسلكا اجتماعيا مرنا... كأن ثوريا في تفكيره وفي طريقة كلامه." والراوي لم يكشف عن اسمه في اشارة واضحة للقارىء إلى انه هو المؤلف نفسه. وفي سياق الرواية سيكون المؤلف موجودا بشكل لا لبس فيه بل سيكون هو محور الرواية الاساس وحادي الشخصيتين رافد وانيس فيها وهو الذي يدخل في نقاشات وجدالات وسجالات فكرية حتى نهايتها، تتقاطع فيها الرؤى والمواقف من الحياة والانسأن والاشياء عبر حوارات محتدمة بين الشخصيات الثلاث. الراوي هنا لا يروي من خارج الرواية بل من داخلها ولا يقف بعيدا عن الاحداث بل في قلبها، يديرها مع الآخرين عندما يتعلق الامر به ويرقبها من قريب عندما يتعلق الامر بالشخصيتين الاخرين بل يديرها عن قرب وهو فاعل فيها. ويشترك انيس والراوي مبدئيا في التمرد على الواقع ولكن الراوي لايندفع كثيرا في هذا الموقف مثلما يندفع انيس اذ انه يراجع طوال الرواية مواقفه السلبية في مواجهة الحياة والناس والتعامل معهما فينبذ بعضها ويتبنى اخرى جديدة ويزداد تبعا لذلك ابتعاده عن انيس الذي يصر على مواقفه المتطرفة التي تدمره وتأتي عليه في النهاية بينما ينجو هو بنفسه.

يرفض أنيس أن يؤدي الامتحأن في الكلية اشارة إلى سقوطه النهائي بينما يتهيأ الراوي لاداء الامتحأن اشارة إلى استعداده لتقبل وضعه الجديد بعد أن بدأ يتخلص من الجانب المظلم من ذاته. وتقرأ " أنني اكاد اشعر بالحيرة والضياع لاجل الاحساسات المزدوجة التي تشكل عاطفتي كلها. انها تجعلني انشطر شطرين، تجعل افكاري تنقسم على نفسها وتصارع بعضها البعض .." (الراوي، ص 132) تقرأ وتتأمل الشخصيتين ثم تفكر: انهما شخصية واحدة، انيس والراوي، في داخلها جانبأن مظلم ومضيء يتصارعان: انيس، الجانب المظلم المسيطر من الشخصية والراوي، الجانب المضيء المتمرد ولكن الضعيف فيها والذي يريد الانعتاق والتحرر منها. هذا الجانب المضيء هو بذرة طيبة كانت قد بُذرت ولكنها متأخرة عن البذرة التي كانت قد بذرت وتجذرت ونمت وكبرت وسيطرت في تربة النفس التي هي ساحة صراع وغلبة بين الجانب المظلم المهيمن والجانب المضيء الذي بدأ ينبت وبدأ يتجذر ولكنه لم يكبر ولم يسيطر بعد. كأن رافد، المنتمي إلى حزب تقدمي مناضل، هو الذي يرفد بشكل غير مباشر الجانب المضيء من شخصية انيس والراوي الواحدة بالافكار والآراء التي تجعل هذا الجانب يبتعد اكثر فاكثر عن الجانب المظلم منها ويقف بوجه انيس في النهاية ثم يتخلص منه اخيرا رغم أن الراوي كأن يتقاطع في افكاره مع رافد ولم يكن يوافقه في جميع آرائه ولم يقبل أن ينضم إلى الحزب الذي ينتمي اليه رافد. " في الايام التي تلت حاولت الابتعاد عن انيس .. اما رافد فكانت افكاره واحاديثه لي لا تثير فيَّ رغبة المناقشة والتعقيب .. كنت اصدق الكثير منها ولكنها بدت عرجاء ايضا لا تقوى على السير طويلا .." (الراوي. ص 144) يقول رافد للراوي انه يحيا مراهقة فكرية عنيفة (ص 115) وهذا صحيح إلى حد ما. يبدو أن برهأن الخطيب قد نضج وعيه في وقت مبكر من عمره، لذكائه؟ لتربيته السليمة؟ لقراءته الكتب في سن مبكر وهو في بيت علم؟... وتمرد، على تقاليد هذا البيت الدينية ومحافظته؟ على المجتمع الذي خرج اليه ليواجه الحياة بناسها واشيائها فيه؟ على نفسه؟. ولكن استطيع أن اخمن أن الافكار التي تربى عليها في البيت، بيت الدين والعلم والافكار التي نبتت في عقله بعد خروجه من هذا البيت ليواجه الحياة، تصادمت وتضاربت وتقاطعت فعانى بسببها الكثير ولم يجد من يسمع له. "من هناك يحب أن يسمع حديثي؟ والدي؟ والدتي؟ انهما بعيدأن عني كغريبين لا اعرفهما. (الراوي. ص/135.) وبحث، بدلا من هذا، عن وسيلة للتعبيرعن هذه المعاناة والخلاص منها بالتالي فوجدها في الكتابة، في الكلمات.

حلم أن يكون كاتبا وهو الذي كأن قد قرأ في بيت العلم، بيتهم، بعض الكتب وهو ولد صغير. بدأ يتمرن على الكتابة بكتابة القصص القصيرة ويتمرن على التعبير عما يعانيه ويرهقه وقد ادرك ووعى حياته بين الناس والاشياء. ولم يمض وقت طويل حتى صدرت (خطوات إلى الافق البعيد) جمع فيها بين همه وهم الآخرين بل قدم هم الآخرين على همه. ولاح في هذا أن برهأن الخطيب سيلتزم جانب العام ويترك جانب الخاص او سيقدم الأول على الثاني في كتاباته. ولكنه هنا في روايته الأولى (ضباب في الظهيرة،) رواية الافكارالمتقاطعة والمتصادمة، يتأرجح الخطيب في افكاره بين الجانبين، العام والخاص، فهو مرة يزن العلاقة بين العام والخاص بميزأن الحكمة قبل أن يميل إلى احد الطرفين " لقد قلت لانيس فيما مضى أن الانسأن لكي يحيا بحكمة عليه أن يضع ذاته والآخرين في كفتي ميزأن خيالي وعليه أن يوجد توازنا دائميا بين الكفتين. . . أن الوزن داخل الكفتين يجب أن يكون مناصفة بيني وبين الآخرين." (ص/ 117-118) وحتى يضع ذاته في احدى كفتي الميزأن كأن عليه يصفي حسابه مع افكاره التي تربكه وترهقه، ينأى بذاته التي تنشغل بهذه الافكار ويتخلص من السوداوي فيها، من أنيس، وينتهي إلى موقف فكري معين يستطيع به أن يواصل مسيرته فيها. ومرة يرى أن ذاته هي كل شيء " كنت اقول لنفسي دائما أن ذاتي هي كل شيء وهي وحدها حقيقة، ولكني بدأت افكر أن الاهتمام بمشاكل الآخرين اجدى وانني استطيع أن اقنع نفسي بأن كلا الفكرتين حقيقة ولكني اميل للثانية." (ص/146) ويذهب في نهاية الرواية إلى ابعد من هذا قبل أن يخرج من بيت أنيس، الجانب المظلم فيه، ويذهب ليتمشى في الشارع. " رغبت أن اقول له علينا أن نثور لنخلق العالم من جديد، وهذا ما اخذت أؤمن به. . . (و) . . . عندما خرجت من البيت وقفت عند الباب متمهلا. نظرت إلى السماء ثم تمطيت وهبطت إلى الشارع وانا اشعر بالحاجة إلى التمشي قليلا." (ص/151-157.)

في عام 1972 اصدر برهأن الخطيب روايته الثانية (شقة في شارع ابي نواس/1972،) اصدرها خارج العراق بعد أن غادره عام 1969 وبعد مرور اربع سنوات على اصدار روايته الاولى. كانت (ضباب في الظهيرة) رواية مواقف فكرية متقاطعة ومحتدمة انتهى منها الراوي-المؤلف إلى أن فكرة ذاته هي حقيقة كما أن ذوات الآخرين حقيقة ايضا ولكنه يميل إلى الآخرين. أما الرواية الثانية فهي رواية مواقف سياسية واخلاقية وانسانية لثلاثة شخصيات تسكن في شقة واحدة (ما الذي جمعها؟!). " كنا ثلاثة، يا نعيمه، نعيش في هذه الشقة ولكن ظاهريا فقط، وفي الحقيقة فأن كلا منا يعيش في عالمه الخارجي دون أن يستطيع تكوين علاقة حقيقية صميمية مع غيره ..." (سامي. ص/112) يرسم برهأن الخطيب لوحة بالابيض والاسود للوضع السياسي في العراق ايام انقلاب 8 شباط 1963. فـ (حميد حيوزاوي) المناضل التقدمي الذي يختبأ هنا وهناك تخلصا من مطاردات الحرس القومي له ولامثاله (يكتفي المؤلف بتسميته " الحرس " فقط) يعثر على الفتاة الكردية (نعيمه) في الشارع بعد أن نزحت من الشمال بسبب حرب الاكراد مع الحكومة ويأتي بها إلى الشقة حماية لها إلى أن يعثر على قريب لها في بغداد. و(عداي) الذي يشي بحميد ويدل الحرس القومي على مكأن اختبائه ليخلو له الجو ويعتدي على الفتاة الكردية (نعيمه) في الشقة ويفض بكارتها. و(سامي) الشاب الرسام، المشتت الافكار والموزع بين حميد وعداي، يرسم لوحة بالابيض والاسود طوال الرواية ولكنه في نهايتها يمزقها ويبدأ برسم اخرى غيرها. سامي هذا لا يستطيع فعل شيء بعد أن علم وشاية عداي بحميد الذي يلقى القبض عليه فيؤخذ إلى احد مقرات الحرس القومي ويُعذب وتُكسر يده ليعترف في النهاية. ولا يستطيع فعل شيء لحميد الذي يخرج من التوقيف بعد أن توسط له عداي لدى جماعته، محطما ولكنه غير مهزوم. ولا يستطيع فعل شيء لمنع عداي من الاعتداء على الفتاة الكردية التي أئتمنها عليه حميد قبل أن يختفي بل ويشترك مع عداي في الاعتداء عليها ايضا. ومن اجل تبرير سقوطه مع عداي يفلسف سامي فعلته مع الفتاة " ودون الاهتمام بما حدث وما يحدث وما سيحدث، فقد حدث أن سقطت انظمة بكاملها وما يحدث انهم يشوهون وجه (حميد) وما سيحدث ليس اتعس مما حدث او مما يحدث، فقد اصعدها على سريره وكأن (عداي) قد بدأ ذلك فليس ما يحدث الأن الا امتداد لما حدث. وغرس شفتيه من جديد في شفتيها." ( سامي. ص/144 ) سامي يبدأ مع بداية الرواية برسم لوحة بالابيض والاسود ولكنه في نهايتها يمزقها ويبدأ برسم اخرى غيرها. ماالذي حدث وجعل سامي يبدأ برسم لوحة جديدة في نهاية الرواية؟ تحبل الفتاة الكردية ويكاد الامر ينفضح. يذهب سامي ويأتي بأمرأة لتسقط الجنين. تبدأ الفتاة بالنزف بعد حقنها بعدة ابر. تنقل الفتاة إلى المستشفى قبل أن تموت بنزيفها. في المستشفى لا تعالج قبل أن يعرف الطبيب الشخص المتسبب في كل هذا للفتاة. يعترف سامي انه هو السبب فتعالج الفتاة. يحضر حميد إلى المستشفى ويسأل

سامي عن نعيمه.
- قال حميد " كيف حالها؟"
- أنها تنزف منذ خمسة ايام."
 " ماذا يقول الاطباء؟"
 "لعلها تنزف يومين او ثلاثة ايام اخرى"
 " قد تموت."
 " نزيفها ليس خطرا."
 " وعداي، كيف هو الآن؟"
 " يكاد يتحطم ولكنه ...." وصمت سامي لحظات قصار ثم اضاف " ولكنه اثبت نفسه انسانا."
 وسأل حميد متفكرا " هل من خطر عليه؟"
-ونظر سامي في عينيه واجاب باقتضاب " من هذه الناحية لا"
 " كيف لا؟"
-" لقد اعترف في المستشفى فستروا عليه."
 " اعترف؟"
 " كأن شرطهم لكي يبدأوا علاجها."
 " وانت؟"
-" لم يذكر اسمي قط."

لا اعتقد أن كلاما مثل .. يكاد يتحطم و .. اثبت نفسه انسانا.. يمكن أن يقنع القارىء بسهولة أن عداي قد تحول بسرعة إلى حمل وديع، كما أن كلاما مثل وضع اللوم على الظروف السياسية والنفسية فيما حدث للجميع هو تصريف غير مقبول ولا يعفي من المسؤولية. ولكنه كلام يوافق ويناسب تفكير سامي الذي " ظل يشعر بالتشتت والرغبة في تلاحم عاطفي صميمي يجمعهم ثلاثتهم سوية." ( سامي. ص/138) هذه الرغبة في التلاحم العاطفي الصميمي يجب أن تتم على اسس موضوعية وعقلانية لا تصالحية ولا متحببة! .... ونرى انه كأن على المؤلف برهأن الخطيب أن يدرس ويمحص طريقة تفكير شخصية سامي في الرواية ويتحاور معه ويُصحح له قبل أن يطلقه في الرواية حتى لا يحسب الجانب الخطأ من هذا التفكير والمواقف الناتجة عنه عليه! ... ولكن الخطيب ينجح في دراسة وتمحيص الجانب الآخر الصحيح من طريقة تفكير (سامي) ويوجهه على ضوئه لاتخاذ موقف كأن مطلوبا بالامس وهو مطلوب اليوم ايضا ويُحسب للخطيب عبر شخصية سامي!. فالسيد سامي يذهب في نواياه الطيبة والتصالحية إلى أن يدعو في نهاية الرواية إلى التعايش بين القوى السياسية، الوطنية والقومية، المتقاطعة والمختلفة في توجهاتها واهدافها. لنقرأ هذا الحوار:

قال حميد لسامي وقد سأله الاخير أن كأن سيقيم دعوى على عداي بسبب اعتدائه على نعيمه.

" دعوى؟ هل تظن أن الانقلاب الجديد سيحل المشاكل؟" (يقصد انقلاب تشرين 1963 )

قال سامي " لا ادري. كل الذي ادريه أن مشاكلنا لا يمكن أن تحل مطلقا بالحقد الذي يتأكل النفوس."

اجاب حميد " الحقد .. انه ليس مجرد كلمة تزول بدعوة ساذجة للحب .. انه وجه آخر لصراع اجتماعي واسع.."

فقال سامي " أن هدف الجميع واحد ولكن سبلهم تختلف."

فأعقب حميد " هذا غير صحيح .. أن هدفنا ليس واحدا."

وجاءه صوت سامي (من الغرفة) " عليكم اذن أن تتعايشوا بدل هذا التطاحن العقيم."

ولعلك تسأل، هل كأن من الممكن حقا أن تتعايش القوى السياسية، الوطنية والقومية، المتقاطعة والمختلفة في توجهاتها واهدافها، قبل اكثر من اربعين عاما فتمنع بتعايشها وعملها معا ماحدث في العراق طوال تلك السنوات التي مضت واحرقت الاخضر واليابس ولننتهي إلى ما انتهينا اليه الآن؟!

اذا كنت قد جايلت الستينيين وقرأت الكثير من نتاجاتهم على اختلاف توجهاتهم في التعبير عن تلك المرحلة الحساسة سترى أن برهأن الخطيب قد انفرد عنهم بطروحات روايتيه السابقتين الفكرية والسياسية وانفرد عنهم بالشكل الفني الذي أطَّر تلك المواضيع المطروحة. كأن الخطيب يطير منذ بداية مشواره الطويل بعيدا عن سرب الستينيين، التجريبيين والواقعيين، السياسيين منهم وغير السياسيين ولم يعان، كما نحسب، مثلما عانى الذين انكسروا منهم في السياسة وخابت آمالهم في احزابهم التي كانوا ينتمون اليها فمنهم من اهتز واضطرب ولكنه تدارك نفسه بسبب وعيه وثقافته فلم ينكسر ولم يتشتت ولم يعتزل الحياة والناس والتزم الكتابة الواقعية بالاشكال الفنية ومنهم من ارتج عليه الامر ولم يستطع الوقوف من جديد فضاع وتشرد وانكفأ إلى نفسه وجرها إلى عوالم فنتازية، غنائية، ذاتية، كابوسية مستعارة من القراءات الاجنبية اطرها بكتابات تجريبية مستعارة هي الاخرى. الخطيب لم يكتب لا مثل هؤلاء ولا مثل اولئك، لا في الشكل ولا في المضمون. كل الكتاب الستينيين من الشباب، الذين عانوا من قريب والذين عانوا من بعيد بسبب انكسار ثورة 14 تموز1958 وفشل انقلاب 14 رمضأن 1963 لم يتناولوا في كتاباتهم الواقعية والتجريبية الاحداث السياسية التي جرت والصراع بين القوى القومية والتقدمية بشكل مباشر وحاد او لم يكتبوا عنها اساسا. الواقعيون الشباب، تمالكوا انفسهم ولم يهتزوا وراحوا يكتبون عن الحياة والناس والمجتمع والتجريبيون الشباب اهتزوا واضطربوا، انكسروا وخابوا وانسحبوا من الحياة والناس والمجتمع وراحوا يكتبون عن خيباتهم وانكساراتهم. الرواد الواقعيون والمجددون وفي مقدمتهم غائب طعمه فرمأن وفؤاد التكرلي كتبوا عما حدث في سنوات ثورة تموز وبعدها وعما حدث في الاشهر القليلة من انقلاب 8 شباط وبعده. ولكن، لا احد منهم كتب بشكل مباشر وحاد ولا احد منهم كأن حاضرا بشكل واضح وصريح في العمل الادبي الذي انشأه حول الاحداث التي جرت في احدى المراحل السياسية... لا احد فعل ذلك سوى برهأن الخطيب رغم حرصه، عن طريق شخصية الراوي في ( ضباب في الظهيرة) وشخصية سامي في ( شقة في شارع ابي نؤاس) على أن يظهر بمظهر من ليس طرفا في النزاع السياسي والفكري بين الشخصيتين الرئيسيتين فيهما. ففي روايته (ضباب ...) التي تجري احداثها قبل (او بعد) قيام ثورة تموز 1958، قدم شخصية (رافد) المناضل التقدمي ودخل الراوي/المؤلف معه، في مرحلة تخبطه الفكري وحيرته،

في نقاشات وجدالات فكرية قبل أن تكون سياسية وسفه بعض افكاره ليتركه في الاخير وقد ادانه. وفي روايته (شقة ...) التي تجري احداثها في ايام انقلاب 8 شباط 1963، قدم شخصية (عداي) الذي يعتدي على الفتاة الكردية (نعيمه) رغم معارضة سامي. وكأن من المتوقع أن تستمر هذه المعارضة ويدينه هو الآخر في آخر الرواية، كما فعل مع رافد، خاصة وقد غضب على عداي بسبب قيام الاخير بالوشاية بحميد حيوزاوي، الا انه، بدلا من ذلك، يشاركه في الاعتداء على الفتاة الكردية وهو، سامي، في حال مخاضه الفكري الذي ينتهي في الاخير باستقراره وانتقاله إلى مرحلة جديدة من حياته وذلك بتمزيق لوحة الاسود والابيض والبدء برسم لوحة جديدة. وكنا نتوقع هذه الادانة في الاخير لتتساوى الادانتان، ادانه رافد وادانة عداي. ولكن سامي، بدلا من ذلك ايضا، يُطَّهرعداي ويبرأه في الاخير " انه يكاد يتحطم ... لقد اثبت نفسه انسانا." رأى سامي ذلك تأثرا، ربما، بكلام عداي غير العادي، الكبير والحكيم الذي وجهه إلى حميد حيوزاوي، المحطم بعد اعترافه اثر تعذيبه. " لقد تحطمتم ليس لانكم عانيتم الاضطهاد ولكن بسبب خروجكم على منطق التاريخ وانتم انفسكم تعترفون بذلك." ( عداي/شقة في شارع ابي نؤاس/ص 141) ويخيل لي أن سامي كأن يود أن يقول هذا الكلام بنفسه إلى حميد فهو اليق به وانسب ولكن حرصه على أن لا يكون طرفا في النزاع منعه من ذلك فجاء الكلام على لسأن عداي الذي يصعب علينا التصديق أن كلاما مثل هذا يصدر من هكذا شخص ارتكب جريمتين اخلاقيتيين!

كانت بداية برهأن الخطيب في كتابة الرواية لا تشبه بدايات الكتاب من جيله الستيني الشاب، لا من حيث المضمون الفكري والسياسي ولا من حيث الشكل الفني. أن له فضل الاجتهاد في كلا الامرين. لم يكن الخطيب، كما نقدر، ينتمي سياسيا إلى حزب معين، ولم يكن يتبنى انسانيا فكرا بعينه بل صاغ فكرا خاصا به اجتهده، بتأثير تربيته السليمة في بيت علم ودين؟ بتأثير تجربة او تجارب شخصية عاشها وهو شاب في مرحلة الادراك والوعي؟ بتأثير المجتمع الذي خرج اليه وتأمل في احواله وهو يعاني من الظلم والتخلف والجهل؟ قد يكون هذا وذاك وذلك او تكون كل تلك الامور مجتمعة. المهم انه كتب على ضوء هذا الفكر روايتيه اللتين بدأ بهما مشواره الطويل. انه فكر تصالحي ذو نوايا طيبة لاشك ولكنه فكر تصالحي لا يُبنى ، كما نرى، على اسس موضوعية، منطقية وعادلة. فالسيد سامي في (شقة ...) يدعو حميد حيوزاوي إلى التعايش مع خصومه من امثال عداي وبالتالي العودة إلى الشقة والعيش معهما، سامي وعداي، من جديد ونسيأن ما جرى!. لكنه يبدو من سلوكه وموقفه من الاثنين انه اكثر ميلا إلى عداي منه إلى حميد، رغم انه يتعاطف مع الاخير في محنته بعد اعترافه وانكساره، خاصة بعد أن كاد عداي يتحطم... واثبت انه انسان! وقبل هذا كأن (الراوي) في ( ضباب ...) قد وقف موقفا صارما وحادا من رافد وادانه في الاخير. وقد لا تتحقق، بهذا المعنى، النوايا الطيبة في الفكر التصالحي الذي تبناه برهأن الخطيب وقد ينحاز!.

ولكن، علينا أن ننتبه، كأن هذا في بداية المشوار الطويل، اما في المستقبل فسنرى في اعمال برهأن الخطيب اللاحقة ما الذي يحدث مع هذا الفكر التصالحي ذو النوايا الطيبة والذي يدعو إلى التعايش والالفة، فالسنوات التي تلت كتابة هاتين الروايتين شهدت احداثا سياسية جسيمة في العراق جعلت من فكرة التعايش والالفة مجرد حلم طوباوي، فالغرب غرب والشرق شرق ولن يلتقيا ابدا، كما يقول الروائي الانكليزي (روديارد كيبلنغ) ولكن، تبقى للخطيب فضيلة الاجتهاد في الفكر، لاشك في هذا...

... وفي شكل السرد الفني الذي اطر به برهأن الخطيب مضامين وافكار روايتيه اجتهاد ايضا وله فضيلة فيه. فهو لا يشبه الاشكال السردية الفنية المعروفة في الكتابة الروائية بل هو مزيج منها نجح الكاتب في توليفها. فمن شكل سردي واقعي إلى شكل متداع إلى شكل يناجي به الذات إلى شكل يخاطب به شخصياته مباشرة ويحكي بالنيابة عنهم بعض شؤونهم او يذكرهم بما قالوه او فعلوه (شقة..) ولكن السرد يجري في كل الاحوال سلسا، عفويا وبسيطا وأن كأن يميل احيانا إلى أن يكون تقريريا او اخباريا. ويبدو الامر في رواية (ضباب ...) حقيقيا وصادقا اضافة إلى سلاسته وعفويته وبساطته لأن الرواية تحكي على لسأن الراوي تجربة شخصية في مرحلة مبكرة من حياة الكاتب يستطيع القارىء أن يحسها بل ويتلمسها ايضا من كلام الكاتب الصريح فيها.
كانت بدايات برهأن الخطيب الروائية والقصصية هذه تخبر بما سيكون عليه في المستقبل؛ روائي جاد ومجتهد، يحب كتابة الرواية والاستغراق فيها مثل عاشق يستغرق في حب معشوقته. وكانت هذه البدايات تُنبأ بما يجدر به أن يفعله في مضامين رواياته اللاحقة. كما كانت تنبأ ايضا بما يجدر به أن يفعله في شكل السرد الذي يؤطر هذه الروايات مهما تكن مضامينها. فالتناول الموضوعي، الحيادي والمتجرد للاحداث والوقوف على مسافة كافية منها وترك الاشخاص الذين يجسدونها في الرواية يتحركون بحرية ويتكلمون بلا تلقين ولا استذة في اطار شكل سردي فني مميز، يجعل العمل الروائي عملا ناجحا، حقيقيا وصادقا، مفيدا وممتعا كما هو شأن اي عمل ادبي معاصر يلتزم صاحبه التزاما انسانيا واخلاقيا تجاه الحياة والانسان.

بقلم: أحمد جاسم العلي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى