السبت ٢٣ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
سهيل إدريس
بقلم حسن توفيق

المبدع الذي أتاح للمبدعين حرية قول الجديد

عرفت اسم سهيل ادريس منذ ان كنت طالبا بالمرحلة الثانوية، حيث كانت مكتبة المدرسة تقتني -بانتظام- مجلة الاداب التي كان يرأس تحريرها، وهي مجلة أسهمت في نشر حركة الشعر الحر علي امتداد وطننا العربي كله منذ أوائل الخمسينيات من القرن العشرين، فضلا عن انها كانت تهتم بكل جديد، يقدمه المبدعون العرب دون تحيز أو تعصب لأحد منهم ضد سواه، لكن هذا بالطبع لم يكن يمنعها من اثارة المعارك الأدبية الجادة التي تسهم من خلال النقاشات حتي وان كانت نقاشات حادة وعنيفة في اثراء ادبنا العربي.

علي صفحات الآداب نشر كثيرون من رواد حركة الشعر الحر قصائدهم، ومن بينهم بدر شاكر السياب، وبلند الحيدري ونزار قباني، وصلاح عبدالصبور ومحمد الفيتوري، وكان سهل إدريس يحرص علي أن يعهد بناقد او لشاعر عربي بان يكتب نقد قصائد العدد الماضي من الآداب وكان هذا سببا من اسباب حيوية المجلة، وهناك رسالة طريفة من بدر شاكر السياب موجهة لسهيل ادريس تدور حول هذه القضية، حيث قالك ارجو ان يكون الاستاذ صلاح عبدالصبور منصفا في نقده لقصائدنا والا فإن اقلامنا ستكون مشرعة للرد عليه.. .

وكما هو شأن الآداب مع الشعر الحر، فان نازك الملائكة قد نشرت فصولا كاملة من كتابها قضايا الشعر المعاصر قبل ان يصدر هذا الكتاب متكاملا سنة 1962، كما ان المجلة عنيت بالقصص القصيرة، وعلي صفحاتها كتبت ديزي الأمير وكتب سليمان فياض ومحمد ابو المعاطي ابو النجا وفاروق خورشيد، ولم تغفل النقد الأدبي الجاد ولا نشر البحوث الفكرية التي تؤكد علي الهوية العربية بصرف النظر عن جنسيات كتاب هذه البحوث، وكان سهيل ادريس نفسه واحدا من هؤلاء، بما عرف عنه وبما ظل متشبثا به من ايمان عميق بالعروبة، حتي خلال سنوات التردي وسيادة عقليات التجزئة الاقليمية، وهذا سبب واحد - وان كان كافيا- لان اظل احب سهيل ادريس، فقد احببت فيه تصديه، وتحديه للعنصرية بمختلف اشكالها والوانها، وواضح انه كان يمتلك مشروعا ثقافيا متكاملا، وان هذا المشروع قد حقق الكثير من المنجزات الحقيقية، وهو ماتشهد به اصدارات دار الآداب التي كان يملكها ويديرها.

فيما بعد.. عرفت سهيل ادريس الانسان عن قرب خلال زياراته للقاهرة، حيث كان يقابل بالحفاوة التي تليق به من استاذي صلاح عبدالصبور واستاذي رجاء النقاش، كما عرفته كذلك خلال زياراتنا العديدة لمهرجان المربد الشعري في بغداد وسواها من مدن العراق العظيم.. وتمر سنوات علي تلك اللقاءات، واذا بي اشهد لقاء في بيت رجاء النقاش مع ابنه سماح ادريس الذي كان يستعد وقتها لانجاز رسالته الاكاديمية لنيل درجة الدكتوراه، وقد صدرت هذه الرسالة فيما بعد بعنوان المثقفون والسلطة علي ما اتذكر لان الكتاب ليس في متناول يدي الآن.

لاحظت الان وانا اكتب هذه السطور اني لم اشفع.

اسم سهيل إدريس بلقب الدكتور رغم أنه واحد من النابغين الذين حصلوا علي الدكتوراه من جامعة السوربون العريقة، وربما يرجع السبب في هذا إلي أن سهيل إدريس مبدع روائي كبير وفنان مرهف وإنسان جميل، وهذا ما دفعني لأن أردد اسمه مجرداً من أي لقب حتي لو كان لقبا علميا جليلا، وليس من نوعية شهادات الدكتوراه التي يحصل عليها الآن كل من هب ودب!.

من الأعمال الروائية الشهيرة التي أبدعها سهيل إدريس نلتقي أولاً مع رواية الحي اللاتيني التي كتب عنها كثيرون وقت صدورها، كما نلتقي بعد ذلك مع روايتيه الخندق العميق و أصابعنا التي تحترق فضلاً عن قصصه القصيرة التي أصدرها في مجموعتين، والعديد من كتبه النقدية والفكرية، ومن بينها في معترك القومية والحرية و مواقف وقضايا أدبية وهناك كتابه الإنساني الجميل ذكريات الأدب والحب الذي يروي فيه جوانب حميمة من سيرته الذاتية، وبكل أسف فإن هذا الكتاب لم يصدر منه سوي الجزء الأول وحده في حدود ما أعلم، وقد صدر عن دار الآداب سنة 2002.

علي ضوء هذه الإشارات، يتبين لمحبي الأدب من أبناء الأجيال العربية الجديدة أن سهيل إدريس لم يكن مجرد ناشر أو رئيس تحرير مجلة أدبية مهمة وإنما كان مبدعاً كبيراً وقد أتاح لسواه من المبدعين العرب حرية قول الجديد، متمثلاً في الشعر الحر علي وجه التحديد وأكاد أجزم هنا بأنه لولا مجلة الآداب لكانت مسيرة الشعر الحر قد تأخرت لسنوات عديدة ولم تستطع أن تثبت حضورها بالسرعة التي حققتها منذ بداية الخمسينيات من القرن العشرين الغارب، ولأن سهيل إدريس مبدع كبير، فإني أطالب الآن ابنه البار الدكتور سماح إدريس بأن يقوم بإصدار الأعمال الكاملة لأبيه، حتي تتعرف عليها الأجيال الجديدة، بعد أن تعرف عليها وأحبها ابناء الجيل الذي ينتمي إليه الأب وأبناء الجيل التالي لهم.

غاب عن عالمنا يوم الثلاثاء 19 فبراير 2008 جسد سهيل إدريس، لكني ممن يؤمنون بأن الفنان والأديب لا يغيب، طالما أن إنتاجه الفني أو الأدبي موجود، وطالما أن هناك من يهتمون بإبرازه - بصورة أو بأخري - لكي يظل متجدداً.

كنت أقرأ لسهيل إدريس وأقرأ عنه.. والآن فإني أقرأ عنه ما كتبه كثيرون من الأوفياء ومن مقدري دوره التنويري العظيم.. هذا عباس بيضون يقول عنه - مثلاً - حقبة كاملة من عمرنا الثقافي تنطوي بوفاة سهيل إدريس .. وهناك مقال آخر جميل يحمل منشوراً في جريدة النهاري وقد اعاد نشره موقع البديل العراقي وهو بعنوان ابن الخندق الضيق ذهب ليبحث عن نفسه الضائعة تاركاً أصابعنا تحترق وأتذكر أنا الآن بيتا لأحمد شوقي فأردده:

الناس صنفان: موتي في حياتهمو

وآخرون ببطن الأرض أحياء

سهيل إدريس اذن مايزال حيا.. وهل يغيب من أعطي لأمته ما لم تستطع ان تعطيه لها مؤسسات ثقافية متكاملة؟!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى