الأحد ٢٤ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
بقلم بسام الطعان

فرحان الفنان

اسمه"فرحان"، عمره أقل بكثير من عدد التوابيت التي صنعها لأبناء البلدة وقراها، له عدة أصدقاء وهم:الاكتئاب،اليأس، العصبية، الحقد، الحزن، والغضب، ويا له من غضب، أمطار العالم كلها تعجز عن إطفاء نيران ثورته حين يغضب وفي أغلب الأحيان، يتحول إلى كومة من القش المهيأة للاشتعال لأتفه الأسباب.

يحب المال بهوس وجنون، وفي نفسه من الطمع ما يكفي لكل أموال العالم، وأحب شيء إلى نفسه رؤية الأوراق الخضراء، ومن ثم صناعة التوابيت.

إنه ليس نجارا ماهرا لكنه يجيد صناعة التوابيت، وبما أنه النجار الوحيد في البلدة، ولا أحد غيره يجيد أو يحب هذه الصنعة، فإنه يطلب السعر الذي يريده، وليس أمام أهل الميت إلا الدفع، أو الذهاب إلى المدينة الكبيرة، حيث يستغرق الوقت في الذهاب والإياب ساعات طويلة.

من عادته قبل أن يبدأ عمله في صنع تابوت، يفاجـئ الزبون بسؤال اللصوص واللهفة العارمة بادية على تجاعيد وجهه:

ـ هل تريده مغلفاً (بالفورميكا)؟

إذا كان الجواب لا، يكتئب أكثر من صديقه الاكتئاب، وتتحطم نفسه كآنية فخار عتيقة.

في الأوقات التي لا عمل له فيها، يجلس متراخيا على كرسيه الخشبي أمام الورشة التي تفوح منها رائحة عفونة عتيقة ممزوجة برائحة الموت، يغمس جسده في الصمت ويطلب من الكآبة أن تلتهمه.

يرد على تحية المارة بإيماءة مقتضبة، أو بهزة خفيفة من رأسه، وفي داخله يشتم أكثرهم دون سبب.

حين غابت امرأة عن الوعي في البلدة، ظن أهلها بأنها قد ماتت، وعندما جاء زوجها إليه ليصـنع تابوتاً، كان جالسـاً كعادته أمام الورشة وفيالق الأفكار تحاصر رأسه، ومن عادته أنه لا يرحب بزبائنه كثيراً، فهو ليس مثل تجار سـوق الحميدية، يدخل في الموضوع مباشرة بعد كلمة أهلاً، ولا يهمه إن كانوا غرباء أو أقرباء، فهم مثل (هريسة) ذلك الرجل الديري الذي قال بغضب:
ـ كلها مثل الزبل. قالها حين سأله أحدهم:

ـ أيتها أطيب، الهريسة بالقطر أم بلا قطر؟

كلهم برأيه مثل الهريسة، وهاجسه الوحيد أن يقنعهم ببضاعته، وهو في اغلب الأحيان يستطيع إقناع الزبن بما يريد بمقدرة عجيبة.

دخل الرجل إلى الورشة، وحيّاه بقلب منكسر، ولأن رغبة فرحان بالكلام كانت منطفئة، ردَّ التحية برفع حاجبيه.

ـ أريد يا معلم أن تصنع تابوتاً وبسرعة، فزوجتي قد توفيت.

ما إن سمع هذه الكلمات حتى عادت إليه الروح، هب واقفا
ورحب به أجمل ترحيب، ثم طلب له شاياً من المقهى المقابلة لورشته، هو لا يطلب الشاي إلا لمن يريد تابوتاً، لأنه يعرف تمام المعرفة، انه سوف يأخذ ثمن الشاي أضعافا مضاعفة.
بدأ عمله بهمة ونشاط والنشوة تملؤه تماماً حتى منخريه، وخلال نصف ساعة، انتهى من عمله، بعد أن تفنن بالزخرفة التي أضافها إلى التابوت دون أن يكون فيه حسّ (أرابسك) وضع التابوت أمام الورشة، ثم وقف يتطلع إليه بفرح:" يا أخي أنا فنان فنان، ولكن من يقدر ذلك" ثم جلس في مكانه المـعتاد بانتظار زوج المرأة، وليقبض الثمن الذي أعده في ذاكـــــرته:" آه لو يزور عزرائيل هذه البلدة كل يوم مرة واحدة، لكنت امتلكت البلدة من شرقها إلى غربها خلال سنوات قليلة". أخذ يعد الدقائق، ويتمنى أن يصنع تابوتاً آخر لتكتمل فرحته، لكن انتظاره طال والرجل لم يأت، شعر بالخوف وراح يسأل هذا وذاك عن الوقت، وقت استحال وجهه إلى كتلة مكفهرة.

جاء الأصيل والرجل لم يأت، وهو يعبث بشاربه ويتمتم بصوت خفيض كلمات تفوح منها رائحة الشتائم الرنانة، بينما التابوت على الرصيف، وكل من يراه يتأسف.

زينت النجوم السـماء، فجاء الرجل وعلائم الفرح بادية على وجهه، وحين اصطدمت نظرات الفنان به وهو يبتسم، أحس بأن لطمة قوية نزلت على رقبته الحمراء، وقبل أن يصيب بدهشة من يرى ميتاً ينهــض من تابوته، تقدم باتجاه الرجل، وقبل أن يزرع فيه غضبه، قال الرجل وهو يبتسم:

ـ آسف يا معلم فرحان، وأعتذر عن استرجاع التابوت لأن زوجي لم تمت، وإنما كانت في غيبوبة، ونحن ظننا أنها قد ماتت.

انفجر غاضبا كقنبلة أو كلغم أرضي:

ـ ماذا ماذا؟! ماذا تقول؟ لم تمت؟؟!!
ردَّ وابتسامته تزيد من تجاعيد وجهه:
ـ هذا الذي حصل يا معلم.
خرج (هولاكو) من داخل عينه وهو يحمل سيفاً من نار:
ـ هل أنت مجنون؟! كيف تريدني أن استرجعه؟
ـ ماذا افعل به يا رجل والمرأة لم تمت؟
ـ وهل قلت لها لا تموتي؟ هذا لا شأن لي به، اعطني ثمن التابوت وافعل به ما تشاء.
شتمه الرجل في داخله، سرح بخياله للحظات ثم قال:
ـ كم تريد ثمنه؟
ـ سبعة آلاف.
ـ سبعة آلاف؟! أليس هذا كثيرا يا فرحان؟
ردّ بغضب كالمعتاد:
ـ لأن اقبل بغير سبعة آلاف أتسمع؟
كادت معركة الأيدي أن تنشب بينهما، لكن الرجل استطاع أن يسيطر على أعصابه في اللحظة الأخيرة، أخرج من جيبه رزمة نقود وقال بعصبية لم يجربها من قبل:

ـ اللعنة عليك يا فرحان، خذ هذه نقودك وليكن التابوت من نصيبك إن شاء الله.

ـ اللعنة عليك يا رذيل، صـنعت لزوجتك تابوتا جميلاً، وبعدما تعبت في صنعه تأتي وتقول بكل وقاحة سوف استرجعه!

أردف عبارته الأخــيرة بقذيفة من قذائفه التي لا تخيب، وعاد إلى كرسيه مستندا بظهره إلى الحائط وهو يعد النقود ويشيعه بنظرات تتطاير شرراً.

بقي التابوت في الورشة، والفنان بانتظار من يموت، وكان يعتني به وينظفه كل مساء من الأتربة ونشارة الخشب، وكان كل من يراه يتأسف ويلعن (سنسفيل) فرحان الفنان.

بعد ستة أشهر أو أكثر بقليل، وفي صـباح ماطر وبارد جداً، أعلن إمام الجامع عن وفاة الفنان الذي ترك لوحات فنية كثيرة ولم يترك التابوت.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى