الثلاثاء ٤ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم أحمد زياد محبك

صديقي الطبيب...وأخوه

هو صديق عزيز، كان قد تجاوز الخمسين حين تعرفت إليه، وكنت في الثلاثين، خرج من غرفة الولادة والبسمة تعلو وجهه، أسرعت إليه، قلت له:" شكراً لك، أنت أنقذت حياة زوجتي"، ربت على كتفي، ثم سألني عن عملي، وحين أجبته، انفعل قليلاً، ولكنه ضبط انفعاله، لاحظت عليه ذلك، ثم دعاني إلى زيارته في عيادته الخاصة، وفي اليوم التالي زرته في عيادته، فور دخولي عليه قال لي:" اعذرني، لا بد لي أن أعتب عليك، كيف تقول إني أنقذت حياة زوجتك، وأنت أستاذ اللغة العربية؟ لو قال مثل هذا غيرك لسامحته"، هممت بالكلام، ولكنه استرسل قائلاً:" أرجوك، لا تقل هذا، أنا لا يمكنني أن أنقذ حياة أحد، الحياة ملك خالقها، أنا فقط وجهت الممرضات، وهن ساعدنها على ولادة يسيرة"، ومن هنا نشأت بيننا صداقة عميقة، فكنت أزوره مرة أو مرتين في الشهر، ولكن كان لا بد بعد ذلك من زيارته ثلاث مرات على الأقل في الأسبوع، إذ ما مرت بضعة أشهر على ولادة ابني وعلى تعرف أحدنا على الآخر حتى وجدت كل شيء قد تغير التغير كله، قصدت عيادته ذات مساء كعادتي، فلم أجد اللوحة على مدخل البناء، ولا على باب العيادة، كدت أرجع، ولكنني دخلت، سألته:" هل بعت العيادة؟"، ضحك، ثم أجابني:"أنا ورثتها عن أبي، ولكن ما كنت أحس أنها ملكي، اليوم هي ملكي بالفعل، أحس أني اليوم اشتريتها حقيقة"، دهشت، الرفوف ملأى بالمعاجم وكتب اللغة وعلم النفس والاجتماع والشريعة والفقه والأديان، لقد أقلع عن ممارسة المهنة، ولم يبلغ الستين، قال:" لا أريد أن يقال، كما قلت لي أنت ذات مرة، إني أنقذ الأرواح"، ثم أضاف ممازحاً:" أنت السبب في تغيير كل شيء في حياتي"، قلت له: "هم يقولون ذلك بعفوية، ولا يقصدون.."، قاطعني:
 لا أريد أن يقال ذلك على الإطلاق، يجب أن نتقن استخدام اللغة بدقة، ولإتقان استخدامها لابد من معرفة أسرارها، ولمعرفة أسرارها لا بد من معرفة التاريخ والأديان واللغات، عندما نعرف بدقة نتكلم بدقة
وامتدت الأيام، وإذا هو عالم في اللغة العربية والسريانية والعبرية والأكادية والكنعانية، بالإضافة إلى إتقانه من قبل الإنكليزية والفرنسية والألمانية، وفي أيامه الأخيرة تعلم الكردية والأرمنية، وقد قرأ في الأديان والتاريخ والجغرافية والفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع، ولكن تلك الصداقة لم تطل، فقد توفي بعد بضع سنوات، قبل أن يبلغ ابني السادسة من عمره، ست سنوات فقط بدلت في حياتي كثيراً، كما بدلت في حياته، وقد مرت مر السحاب، كأنها طرفة عين، ولكنها كانت عميقة جداً، ليست صداقته معي فقط، بل مع كل الذين كانوا يقصدون عيادته، بل مجمعه العلمي، كان يستمع إلينا، يحاورنا، يسألنا، وكان يحدثنا عن الأيام التي أمضاها قبل الوصول إلى أرض الوطن، كان يحدثنا عنها، ويعيد الحديث، ويفيض فيه مسترسلاً، تسعة أيام أمضاها، أحس فيها كأنه يعوم في كرة مغلقة مملوءة بالماء، لم يكن الحصول على تذكرة السفر سهلاً، فالزحام شديد، الشوق إلى تراب الآباء والأجداد يجرفه، الحنين إلى أرض الوطن يطغى عليه، مع أنه كان يعيش في عالم أثيري حالم، لا يتاح لأحد، وحين هبط على الأرض، حط فوق تراب الوطن، بكى، ذرف الدموع، صرخ، أمه هي أول من التقى، ضمته إلى صدرها، أحس بدفئها وحنانها، أحس كأنه لا يريد أن يغادر حضنها وهي تضمه، ثم ضمه إليه أبوه، قبّله، تحلق حوله الأعمام والأخوال والعمات والخالات، كلهم قالوا إنه لا يختلف عن أبيه في شيء، أبوه نفسه كان من قبل قد قام بهذه الرحلة، ووصل إلى الوطن بعد مثل هذه المعاناة، وكذلك جده من قبل، قدر الأسرة الذي لا مفر منه هو الغربة والسفر والارتحال، ثم العودة إلى الوطن، للموت فيه، هكذا أكد الجميع، وقد توقعوا أنه ما جاء إلا ليموت في أرض الوطن، لكن أهم من التقاه هو أخوه، كان يود ألا يخلق، كان يتمنى هلاكه، كان يريد أن يظل هو الوحيد ليكون المالك لكل شيء والوارث لكل شيء، كان هذا الأخ يحسب نفسه الوحيد على وجه الأرض كلها، كان يظن نفسه شعلة النار المتقدة، وأن كل شيء له، وأن الناس جميعاً له خدم وعبيد، ولذلك كان وجود هذا الأخ مشكلة بالنسبة إليه، كما كان هو نفسه مشكلة أيضاً بالنسبة إلى أخيه، هكذا كان يحدثنا بحميمية وصدق، ويستعيد التفاصيل بدقة، ويعيد الحديث غير مرة، ليس أمامي فقط، بل أمام صحبه والأصدقاء، فقد أصبحت عيادته، بعد ترك المستشفى، مجمعاً للأدباء والشعراء وعلماء اللغة والدين والقانون والفقه والشريعة، لم تعد العيادة عيادة، أصبحت مقراً لندوات تعقد في الصباح والمساء، بصورة عفوية ومن غير موعد، لتثار فيها قضايا الموت الحياة والسعادة والشقاء وتبحث فيها قضايا مختلفة في اللغة والدين والتاريخ وعلم اللغات، كثير من طلاب العلم يقصدون عيادته، يزودهم بالمصادر والمراجع، ويناقشهم مناقشة العالم المختص، دعوتُه غير مرة إلى تدوين أفكاره ونشرها، لم تعجبه له الفكرة، قال:" يكفيني الحوار، لقاء الإنسان بالإنسان هو الأهم، في هذا اللقاء نحسن التفكير، نتقن التعبير، نسمع ما هو مختلف، هذا هو الأهم"، كان إيمانه بالكلمة لا يتزعزع، هي عنده كل شيء، ليست صوتاً، إنما هي علم ومعرفة وتاريخ وحضارة ووعي، هي الإنسان، فجعني رحيله المبكر، وفجعني أكثر أخوه، فور موته استولى على العيادة، باع الكتب بثمن بخس، كان يكرهه من قبل وهو طبيب، علمت أنه كان ينشر عنه شائعات شائنة، يتهمه بالجهل، وتزوير الشهادة، وإسقاط الأجنة، وهو الذي أقسم لي أنه ما أجرى قط عملية إجهاض، وأكد لي لو أنه فعل لكان جنى أموالاً طائلة، لقد ترك المهنة في أوج شهرته، تركها بعد أن قال عنه الناس: " هو الطبيب الذي ما ماتت بين يديه امرأة، ولا مات بين يديه وليد"، حين علم بهذا ترك العمل مباشرة، وازداد كره أخيه له عندما حول عيادته إلى ملتقى للأصدقاء، حتى إنه اتهمه بتشكيل اتجاه معارض لسياسة الدولة، والسعي إلى تغيير نظام الحكم، ثم اتهمه بالشذوذ، لقد تحولت العيادة من بعده فوراً بتوجيه من أخيه إلى مخزن شعبي لبيع العقود والأساور والأمشاط والمرايا وشفرات الحلاقة والأشياء اليومية الصغيرة وكل ما هو بخس الثمن مما لا يزيد ثمنه على ثلاثة قروش، ومن أسوأ الأصناف وأردأ الأنواع، كنت أتمنى التعرف إلى أخيه أو لقائه، وقد صارحته بذلك في حياته، ولكنه نصح لي ألا ألقاه، أكد لي أنني سأقع في شركه إذا ما قابلته، لأنه قادر على الغواية، فهو قوي التأثير، لا بالحجة أو المنطق، إنما بالمظهر البراق، والأسلوب المخادع، وبطرق لا يعرفها إلا الشيطان وحده، كنت أعرف أنه كان يمر به كل يوم في عيادته، ولكن ما كنت أعرف في أي وقت يمر، كلما جئته قال لي:
 الآن خرج أخي،
أو قال:
 أمس، بعد خروجك، فوراً دخل علي أخي،
كان دائماً يروي لي أن أخاه كان ينصح له أن يحول العيادة إلى محل لبيع الأطعمة أو الألبسة أو الأحذية، فهو في وسط المدينة، بل في وسط السوق، قال له ساخراً، كما روى لي:" ابن لنفسك بيتاً في الجبل، واستقبل هناك أصحابك، موضعك ليس هنا في قلب السوق"، في آخر زيارة قال لي:"سأحول العيادة إلى محل لطبع الأقراص الصلبة"، دهشت، نظرت إليه غير مصدق، أضاف:" سأطبع عليها الكتب والموسوعات وأحدث المؤلفات، وسأظل أحتفظ بهذه الغرفة للقاء الأصدقاء"، كنت أتمنى أن أرى أخاه ذات مرة وهو صاعد إليه على الدرج، أو أراه وهو يهبط عليه لدى مغادرته، لا أعرف: هل كان يخرج له من تحت الأرض، أو هل كان يشق الجدار ويخرج؟ لم يكن أخوه بحاجة إليه، ما كان يريد منه مالاً، كان في كل زيارة يحاول إقناعه بالعودة إلى العمل في المستشفى، وعندما كان يعمل من قبل في المستشفى، أكد لي أنه كان يقول له:" اترك النساء يلدن كما كانت الجدات تلد، من غير إشراف ولا رعاية ولا علاج"، وأحياناً كان يغريه باستبدال مولود بمولود، وربما حرضه على قتل مولود، أكد لي أنه ما كان يعرف كيف يظهر له، أحياناً يأتيه وهو في غرفة الولادة، ولا يعرف كيف دخل عليه، لا يعرف سبباً لهذا الحقد أو هذه الكراهية، ما كان يخشاه، كان متأكداً أن أخاه لا يستطيع أن يقنعه بشيء، كما لا يستطيع هو أيضاً أن يفعل، كل منهما كان يعلم أنه لا يمكن نفي الآخر، ولا إلغاء وجوده، ولا يمكن أيضاً تحقيق السيطرة الكلية لأحدهما، وتسألني زوجتي:" وكيف مات؟"، الحقيقة لا أعرف بالضبط كيف كان موته، ولا أحد يعرف، حارس المقبرة روى أنه رآه يدخل المقبرة عصراً، وهو يحمل باقة ورد، دله هو بنفسه على قبر أبيه، سار معه إلى حيث القبر، ثم تركه ورجع، ثم كان المساء، وحلت العتمة، ولم يغادر المقبرة، فتوجه حارس المقبرة إلى حيث قبر أبيه، فرآه مضطجعاً بهدوء فوق التراب إلى جوار القبر، أحدث زوجتي عن ذلك، فتقول:"مسكين، لم يعش في الوطن سوى ست سنوات"، فأقول لها: "ولكنها تعدل ستين عاماً"، ثم بعد يومين حدثتها عن أخيه، فقد علمت أنه أحد أكبر عشرة رجال في البلد، وممن يتحكمون في اقتصاده، وربما في الدنيا كلها، وهو لا يملك شيئاً باسمه، ولا رصيد له في المصرف، ولكن هو شريك لكثير من التجار وأصحاب رؤوس الأموال، وله أسهم كبيرة في كل الفنادق والمطاعم والبارات والملاهي، بل في كل سوق ومحل، سألتني عن عمره، قلت لها هو أكبر من أخيه الدكتور، أنا على يقين من أنه جاء إلى هذا الكون قبله، وقد علمت أنه يتمتع بصحة جيدة، ما يزال كالعفريت، علقت:" هذا مثل الشيطان لا يموت"، قلت لها: "وأخوه الدكتور لا يموت، اليوم اتصلت بي زوجته، ورجتني أن آخذها إلى أي طبيب نسائي، فهي حامل في الشهر الثالث، وتريد أن يعرف ذلك الناس جميعاً"، قالت زوجتي:"لقد أحسنت عندما اقترحت عليك أن نسمي ولدنا باسمه، سأعتني بتربية ولدنا ليكون الطبيب النسائي الأول مثله"، أغمغم، وأنا أقول في نفسي:"ليس من الضروري أن يكون طبيباً، يكفي أن يكون فقط مثله".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى