الأحد ٢ آذار (مارس) ٢٠٠٨
السّفرة الثامنة أو ألف ليلة وليلتان
بقلم عبد النور إدريس

رسم الازدياد في نزهة السندباد

" ياله من زمن يكاد الحديث فيه عن الأشجار يكون جريمة"

كلاوس شومان

لم تكن الحياة تنحصر في الشكل الممكن لها..إنها مملوءة بالإيحاء والأحلام والحركة الدائبة نحو دلالات وأبعاد تتخطى حدود ما هو ممكن.. علاقة وشكل.. مجرد صناعة..

إنها فهم لعلاقة كل ما هو خارج الذات.. صياغة طرق مُثلى لرًؤى جديدة..

كانت الحياة تنغلق في اتجاه الإيمان الراسخ بالماضي...وهو، كان يقدم أفكارا ومواقف تنطلق من مناخ منفتح يطالب بالوضوح حتّى يعبر عن نفسه بما يحمله مُعتما..مقدسا ف نفسه..والذي أكل من نفسه حيّزا.. الشغل..الأمل..تحرر الذات من عبودية ما تتكرّس في وجدانه كالنقوش والزخارف...

إنه أصبح المتفرج عل الناقش والمنقوش، الحاضر في لون الزخرفة وكرسي المقهى والغائب عن لعب الأطفال وفرحة العيد وسخونة الرغيف، كان الطابور الذي مارسه فأتقنه يتعلق بالدرس... بالخبز... بالمطعم المدرسي...لا شيء غير الرحلة نحو الخبز..ثم..ثم الوثائق الرسمية من أجل جواز السّفر...يفتح..يحقّق..يضيء له باب الشغل والحمل وشهية الأكل...

يحتل( الكل) مكانه في صمت، بقي على افتتاح المكتب الذي يسمّيه(الكل) "مكتب الفيزا" ست ساعات..الليل يتسلل إلى قميصه..يزدحم الطابور أكثر.. حرارة الأجساد الملتصقة...

نموذج يتحدث عن اكتشاف المجهول والجنسية الصارمة بالمجان.. تلفع بجلده حتّى الصباح.. "الكل" يتحاشى أنفاس الآخر..إنها الكرامة المرتبطة بالزمن..بالتقاليد..التي تتوارى عن الأنظار...

اجتمعت لحظة الصباح في كومة "الكارتون" مُشتعلة لتدفئ الأجساد المستعدة لاستقبال برودة المكتب والموظف وصمت الزجاج...
هو..لا يستطيع أن يتجاوب مع الانتظار، علامة المهمّش..المشهد الذي يرفض كل انتماء...

إنه من الجيل الذي يرث الانتظار كل أحلام جيله ما تزال عذراء في قاعة الانتظار الكبرى..كأن البطالة لا تكفي لتغيير المفاهيم والمواقف التي تجيد الوصاية على الآت...وصاية المفاهيم أقسى من محاولة نحث الجديد منها...كان يردد ذلك أمام علامات رفض أستاذ الفلسفة لوجهة نظره... لا يمكن للفلسفة أن تعيش حاضرها بدون نحثها لمفاهيم جديدة ووضع أخرى في سياقات مبتكرة..

التوتر طريقة غير مألوفة لنقل الأمل إلى مسألة ذاتية..لهذا أصبح الشغل لديه ضرورة أوكسجينية.. جواب يستحث، يستصرخ كل الأسئلة التي تُحيل مدينة "الآخر" إلى ملامسة وعناق مستحيل الخلاص والتّناهي...
..وجد نفسه أمام الزجاج الصامت..التحرك وحده لايفسر الصّمت..إن للزجاج..القناع، سحر ينَفِّر، يفرض نظامه العام على المسافة بين المُرسِل والمتلقّي..

ـ اسمك (زعق الموظف بصوت جاف)
ـ سندباد..(أمسيو).
وبنبرة مستهزئة..
ـ هل أنت بري أم بحري..
ـ لم أجد لي صفة أخرى برسم الازدياد..
ـ خُذ إملأ هذه الاستمارة...
خانة العينين الخضر....
خانة الشعر الأشقر...
خانة......

انتفضت بداخله ذاكرة الأسئلة.. وكان رنين كلمة "خيانة " أقوى..
ـ لكن..إننا...إنكم في بلاد "اكحل الراس؟؟".

سفرتك السابعة لن تتكرر...!!!
ـ.... ولكنّي "تمتّعت " بتكرار الليلة رقم 557..أمسيو.. لقد شملتني الأيام بترف البطالة..أريد أن أجول في بلاد الله الواسعة...

صفعته حرارة الشمس إنه ينام واقفا.. ويحلم متمدّدة كرامته ومتوارية عن الأنظار...

..صمت رهيب احتل صورة الواقف ـ الميت..الذي تراكم الرّفض وذاب في زمن الإبحار قبل انسحاق الفُرجة في بلاد الناس..

.. كان بداخله سفر عميق يتحرك بعالمه لفتح الداخل وإفراغه ثم الاحتفال بالهيكل المُتكرر حُلما ودُمية في خريطته والحاضر في نسق الأشياء فُرجة واقفة وفُزاعة تتفتّت في نمو الأشكال والألوان.

... سفر يخلخل نظام الأشياء...لا يصله إلا بالموت... في الموت يجد موته الطولي...في استمرار تساؤلاته التي فقدها منذ ولادة " الشهادة " في كراساته المدرسية..

لمَّ أحزمته، اتجه إلى المرسى..اتصل ب "السَّمْحار الكبير"*..بادره هذا قائلا والسفر يستبسل متسللا إلى الجيوب...
ـ غريب، سندباد!!! لقد نشروا بالجريدة الرسمية أنك ممنوع من الإبحار...

..كان "الكل" يتعلم كيف يصرخ..كيف يستغيث.. كيف يمضغ خبزه الحافي.. لاحظ أن رفيقه الإفريقي الأسود يحمل قربة ماء عذب لتكون أول جرعة له "هناك"..من المنبع "هنا"...
رجع إلى نفسه يتمتم في صمت..

ـ يخامرني إحساس أن هذه الرحلة ستكون عجائبها أغرب..يمكن أن تُضيف شيئا جديدا إلى جنسيتي وشخصيتي وكينونتي..شكلا ومضمونا..أحلامي في الليلة الماضية كانت متسكِّعة...حزينة..مغتربة..أحلامي السابقة تحقق جُل المشرَّد منها..أحلامي هي هويتي..من لا أحلام له لا هوية له..

...شهرزاد هي أصدق من روى عنّي..لقد وقعت في فخ الحكاية..فأجل شهريار قتلها حتّى أصبح القتل مَلغِيّا لأجل الإدمان على الحكي..فغدت حكايتي علامة تُؤجل القتل..لكن..حُلم هذه الليلة لغز حيّرني..رمز بمغالق كثيرة...كيف..كيف سيكون لي ذرية بعيون خُضر وشعر أشقر..؟؟!!!

...كان مغلقا أذنيه على الأسماع.. صخب نُزلاء (قارب الموت) ملأ مخاوفه وزعزع ثقته في المركب القديم.. لقد احتل ركنا ضيِّقا كأنه مُنكمش في صندوق..علبة السردين أرحم... تعلق بخشبة يجانبها ويحتضنها الرُّقود كعادته..تحرسه عين السُّهاد..إن التجربة علّمته أن سيف القدر يسبقه دائما إلى شطِّ النجاة..يحتكر معه السّفر والمسافر...

مخاض البحر بمنطقة البوغاز يلد الرعب والغرق والموت..لا راحة للمُهمَّش والقصِي إلا في الأعماق... تُلِحّ علية شهرزاد أن يغرق.. ينهي عذابه.. يضع لحياته معنى..يتفتّق تشكيلا بصدر الأخبار..أن يخرج من حالة خلق إلى حالة وعي..

..لكن السندباد كان يطالب الحكاية أن تصمُد.. تستميت.. يطالب شهرزاد ألاّ تُصادر حكايته بصراخ الديك … حتّى يخترق الزمن الآتي ويضع لمصيره طُقوسا وقوانين آخر سفرة له نحو بلاد العجم... رغبة تستطيع أن تُصور الزمن بدون قامة، بدون جذور..كي يستخرج "هناك" وثيقة ازدياده باسم "السندباد البحريّ بعينين خضر وشعر أشقر...وكرامة "ربّما" تحيى بعيدة عن الأنظار...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى