الثلاثاء ٤ آذار (مارس) ٢٠٠٨
جولة في مجتمعنا (1)
بقلم فاروق مواسي

عن المنتفخين والمتسلقين

ثمة نفر في مجتمعنا يطعمون أنفسهم جوزًا فارغًا، ويحمّلون أنفسهم ما لا طاقة لهم به. الكبرياء الجوفاء سَــداهم ولحمتهم، والادعاء مبتدأهم وخبرهم. فمن مدع بالعلم وهو ما زال يحبو في فهم المقروء، ومن متطاول في ميدان ما وهو لم يعلم الهمزباء فيه، وقس على ذلك في الصناعة والسياسة والدين والفنون.....

ومجتمعنا يترك لهم المِقود من غير أن يتجرأ أن يقول للأعوج " أعوج "، وكله عند العرب
" مسح لحى "، حتى بلغ بنا الأمر ألا نجرؤ على الذهاب إلى محكمة لندين ظالمًا ظلم، وسكتنا في وقت وجب فيه أن نتكلم، واختلط علينا الأمر، أو الشحم بالورم - على رأي المتنبي.
وهؤلاء الذين في شحمهم ورم يتسلقون ويتسنمون مناصب ليسوا أهلاً لها، وذلك بتفويض من السلطة العادلة جدًا جدًا – التي تدَع الرجل المناسب لاصقًا في المكان المناسب، وهذه السلطة لا تتلاعب أبدًا بمقدراتنا، ولا تستهزئ بمؤهلاتنا !!

ونحن إزاء ذلك غايتنا تبرر كل وسيلة، فمن وصل بـفَهلوية – على حد تعبير صادق جلال العظم – لا يخلد إلى السكينة، بل يشرع في التطاول على من هو أقدر منه......

وهذا المغبون حقه أن يكرر :

" ضعيف يقاويني قصير يطاول "،

ولكن من يسمع ؟!

وأنى توجهت تجد منتفخًا هنا، ومتسلقًا هناك، حتى اختلط الحابل بالنابل، والقارئ بالجــارئ.

والأدهى والأمرّ أن تجد بعض هؤلاء الفارغين، وهم بمظهر الادعاء والأستاذية والتعالم، مع أن الإنسان المملوء حكمة وخبرة يكون متواضعًا بطبعه، أنيسًا إلى القلوب والعقول.

وما زلت أذكر درسًا تعلمته في قراءة السكاكيني " الجديد " يروي أن رجلاً صحب ابنه إلى حقل فيه سنابل. لاحظ الصغير أن بعض السنابل قد خفضت رأسها، وأن البعض الآخر شامخ إلى الأعلى.

سأل الصغير أباه عن سر ذلك، فشرح له بأن من يمتلئ رأسه بالعلم يخفض رأسه تواضعًا، تمامًا كالسنبلة الممتلئة حبًا، ومن هو فارغ يشمخ إلى الأعلى.

وبعد ذلك بسنين وجدت المعنى في بيت شعر :

ملأى السنابل تنحنـــي بتواضـــع

والفارغات رؤوسهن شوامـــخ

كذلك يقول البحتري في أحد ممدوحيه بهذا المعنى :

تواضع من مجد له وتكرّم

وكل عظيم لا يحب التعظــما

* * *

ومن جهة أخرى فإن الترفع عن هؤلاء المتعجرفين وعن مجالستهم ضرورة هامة للحؤول دون استمرارهم في غلوائهم، وفي ممارساتهم السيئة، وقد روي عن علي عليه السلام في نهج البلاغة :

" إن التكبر على ذوي التكبر خضوع عند الله ".

إن هؤلاء المنتفخين / المتسلقين عندما يصابون بالــعُجب يصبحون آفة، وذلك لأنهم يتطاولون على من وصل وسبقهم في ميدان المعرفة، وهذا التطاول لا يتيح لهم حسن الاستماع حتى يُقبلوا على مائدة العلم، بل يولّدون بغضاء وعداوة من غير أدنى ضرورة، ولا يعلم إلا الله مــآلها.
وعن هؤلاء المصابين بداء " الـعـُـجْب " يقول ابن دُريد في مقصورته :

من ناط بالعُجب عُـرا أخلاقــه

نـيطت عُرا المقــت إلى تلك العُــرا

من طال فوق منتهى بسطـــته

أعجزه نيل الدُّنا بــلْــهَ القُــصا

ويشرح الشارح هذين البيتين، فيقول :

" إن من امتلأ عُجْــبًا بنفسه أو عمله أو ماله وما إلى ذلك...فقد غرس في قلوب الخلق مقته، وألّبهم عليه من حيث يشعر ولا يشعر. والعُجب من أمراض القلوب ونقص العقول، إذ يجر إلى التهاون والاستخفاف بغيره، فيترك واجبهم، فيقابل بالمثل أو أنكى وأشد.

كذلك من رفع نفسه فوق قدرها، وتمدد أطول من قامته وغاية بسطته لينال ما لا لا يناله مثله، ويطلب ما لا يرتفع له قدره، فقد كلف نفسه أمرًا إدّا، وكان كجُعَل يريد أن يسابق في تسلق الأشجار قردًا، أو كعصفورة أرادت أن تبيض بيض النعامة ".

وبعد،

ولرب سائل يسأل : وما العمل إزاء هؤلاء ؟!

والجواب بعبارة فذة : أن نعمل، وأن نعمل !


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى