الثلاثاء ٤ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم محمد متولي محمود

نقاط انقطاع

أخيرا .. غيض الماء و استوى معسكر حفظ السلام بدارفور على مكانه المرتفع نسبيا عما يجاوره و ذلك عندما ابتلعت الأرض أنهار الخريف السوداني .. ذلك الخريف الممطر العنيف ..

انتهى الخريف إذن وها هو الشتاء السوداني يرسل سفراءه قبل قدومه من رياح ساخنة و شمس محرقة نهارا و طقس دافئ ليلا و جفاف يمحو ما خلفه الخريف من ذكريات إلا من بعض أوراق خضراء تزين هامات الأشجار العملاقة المنتشرة هنا و هناك يلون أطرافها قرص الشمس المائل للمغيب بألوان برتقالية و صفراء بينما بدأت كشافات المعسكر القوية في إضاءة الأرض فيما حول المعسكر استعدادا لتجريدها عندما يلقي عليها الليل معطفه المعتم الثقيل .. و خلف أسلاك المعسكر الشائكة أقف أتأمل تلك المنطقة العازلة المترامية أمامي و أنا أستعيد ذكريات صيف دام بين القريتين القاطنتين عن يمين و يسار المنطقة العازلة و كأن خريف هذا العام قد أتى بسيوله ليفصل بين المتصارعين و يوقف نزيف الدم .. و سكبت السماء من مآقيها أنهرا على الأرض المخضبة تغسلها من الدم المتخثر و عفن الآثام البشرية .. وهئنذا أطل على منظر جديد ..

ها هي رؤوسهم الصغيرة تطل من خلف جذوع الأشجار على الجانبين .. تتلاقى النظرات البريئة المرسلة من العيون الدقيقة .. تتبادل الأفواة النداءات تصل إلى مسامعي كالهمس .. ثم يندفعون تجاة بعضهم البعض كاندفاع الموج لتلاقى مع شاطئه .. أجسادهم صغيرة في جلابيب بيضاء .. أعمارهم من نفس عمر الأزمة .. وجوههم العميقة السمرة النقية كتلك الليلة الصافية لم تلوثها أنامل العفن البشري و لم تغسلها دموع الخريف ..

من كلا الجانبين أتوا .. و أمام قرص الشمس الدامي المسافر نحو المغيب انهمكوا في لعب و صراخ و ضحك ..

فقط هو انفصل عن رفاقه ..

أراه يخطو نحوي بخطواته الصغيرة و أقدامه الحافية يتأملني .. يتأمل السلك الشائك الملفوف الذي يحيط بالمعسكر و كأنه دوامات مثلث برمودا الفاصلة بين كونين مختلفين .. يقف على طرف كونه و أقف أمامه على طرف كوني .. يتأملني طويلا .. عيناه صافيتان .. صغيرتان كنقاط انقطاع و لكنها حبلى بتساؤلات كثيرة بداخلها تتدفق إليها من رأسه الأسود الصغير حجمه الكبير المتخم بحمله من التساؤلات .. تتقافز هذه ا لتساؤلات ما بين رأسه و عينيه و هو يتفحص بهاتين النقطتين السوداوتين المعسكر من خلفي ثم يتفحصني ببذتي العسكرية و غطاء رأسي السماوي و هذا الشعار الذي يزينه ..

أمد يدي في جيبي أبحث عن شئ أقذف به من كوني إلى كونه تصطدم أصابعي بقالب شيكولاتة مغلف بعناية .. أناوله إياه مبتسما عبر دوامات برمودا الشائكة .. يمد يده الصغيرة يتناول الشيكولاتة .. يتفحصها بدهشة و حذر .. يفض غلافها و كأنه يفك مفجر لغم أرضي .. ينظر إلي تارة و إلى قالب الشيكولاتة العاري بين أنامله الدقيقة تارة أخرى .. أشير بأصابعي إلى فمي أشجعه على أكلها .. لغة اتفقنا عليها عبر كونين مختلفين .. يذوب الحذر الممسك بمجامع شفتية فتنفرجان مرتجفتين كاشفتين عن هوة صغيرة لا يدركها الضوء ينتفض داخلها لسان يتعرق خوفا و طمعا و هو يقرب القالب البني المجهول من هوته الصغيرة القلقة .. يغيب جزء من القالب في الهوة المعتمة قبل أن تنغلق حواف الهوة قاضمة تلك القطعة الصغيرة ..

تبتسم شفتاة و تضحك النقطتان السوداوتان .. ليس كل ما يأتي من خلف دوامات برمودا الشائكة مؤلم و مرير ..

يستدير .. يركض بأقدامه الصغيرة نحو رفاقه .. يذوب فيهم .. يصبحون موجة واحدة تلمع تحت كشافات المعسكر القوية و وجه القمر المكتمل .. يسيحون في الأرض الحرام ذهابا .. ينتشرون حتى تغطي أجسادهم الصغيرة الأرض أمامي تتخللهم ذكريات الخريف المورقة .. تتضاحك عيونهم الشبيهة بنقاط الانقطاع .. تتراقص .. تتبدى لي من هنا جلية واضحة في المنطقة الفاصلة بين قريتيهما و كأنها نقاط انقطاع تفصل بين سطر و آخر .. أو بين فقرة و أخرى .. أو بين صفحتين مختلفتين .. أو كأنها خاتمة قصة و بداية أخرى جديدة ..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى