الخميس ٦ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم حسين حمدان العساف

المتشاعرون

ليس كل من تنشر الصحف والمجلات قصائده شاعراً، وليس كل من ادّعى الشعر شاعراً،الشعر تثقيف وتدريب، وموهبة وإبداع، وتواصل بين الشاعر والناس، والشعرلا يكون جامداً، فهو يتطور دائماً بتطور الحياة ذاتها، ومثلما لا يمكن إيقاف حركة التطور كذلك لايمكن إيقاف تطور الشعر. وأود أن أشير هنا الى أمر، ربما يبدو مهماً بين الشعراء القدامى والمحدثين يتلخص بثقافة العصر وظروفه: فشعراؤنا المحدثون أوفراطلاعا وأعمق غورا ًفي ثقافات عصرهم من أسلافهم، فهم نهلوا من علوم عصرهم المختلفة ونظرياته الفلسفية المعاصرة ما استطاعوا، واطلعوا على أحدث ما توصل إليه علم النفس الذي غار في حياةالإنسان، فأضاء لهم بقعاً مظلمة داخل نفسه،كل ذلك لم يكن متاحاً للشعراء القدامى. ومن المعروف أن الشعر العربي أخذ يتطور منذ بدا ية العصر العباسي، وتسارع تطوره في أوائل القرن العشرين حتى إذا بلغ هذا القرن منتصفه أفضى التطور إلى شعر التفعيلة والشعر المنثور، وتطورت القصيدة العموديةشكلاً ومضموناً، من حيث الشكل صارت كالموشحات الأندلسية، تتألف القصيدة العمودية الواحدة من عدة مقاطع متعددة الأوزان، متنوعة القوافي، لكل مقطع وزن وقافية، ومن حيث المضمون تناولت مختلف موضوعا ت الحياة الجديدة الاجتماعية والسياسية والوجدانية والفكرية، وهذا دليل على حيوية الشعر وروحه المتجددة، وبرز شعراء مبدعون في شعر التفعيلة والشعر المنثور والشعر العمودي، ساعدتهم ثقافتهم المعاصرة أن يغوروا في أعماق المعاني والأفكار والعواطف،وتخلى شعراء التفعيلة والشعر المنثور حتى شعراء القصيدة العمودية أحياناً عن المباشرة الفجة والخطابة والتقرير في تعبيرهم عن موضوعات قصائدهم، فعبروا عن رؤاهم وأفكارهم بالصورالمكثفة والرموز الشفافة والألفاظ والعبارا ت الموحية تعبيراً غير مباشر، واختفوا خلف أسطرهم الشعرية أوعباراتهم المنثورة، حتى احتاج القاريء إلى التأني في قراءة نصوصهم ليفهمها، ويدرك ما خلف سطورها، ويتذوقها، وهذه متعة الشعر، والتف بعباءة هؤلاء الشعراء المبدعين كثير من أدعياء الشعرالذين لاعلاقة لهم به، همهم الذي يشغل بالهم الشهرة ليس غير، حيث استطاعوا بعلاقاتهم الشخصية مع المعنيين بإجازة النشر أو القائمين على الطباعة أو لأسبا ب سياسية أن ينشروا نتا جاتهم عبر وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية التي روّجت لهم، فأصبحت أسماؤهم معروفة، وتوهمهم الناس بأنهم شعراء كبار، وتكدّست دواوينهم بالمكتبا ت، يعلوها الغبار دون أن تجد من يقبل عليها، وتجد بعض هؤلاء يلتوي على القارىء، ويحتجب خلف نصوصه بحاجز اسمنتي كبير، ويوغل في رموز غامضة، وصورمبهمة وتراكيب ملتوية لا يفهمها القاريء، وربما هو نفسه لايفهمها. أو يلجأ بعضهم الآخر إلى المباشرة والتقريرفي التعبير عما في قلبه وفكره. ناهيك عن افتقارهذه الفئةأو تلك إلى الثقافة الشعرية والعروضية والصرفية والنحويةواللغوية والإملائية،الذي يوقعها بالخلل العروضي وكثرة الأخطاء المختلفة في نصوصها، فيضيق القاريء ـ إذا وجد ـ بهذا النص ذرعاً، ويحسب أن به قصوراً في الفهم، ولم يعد شأن القارئ يهم من يلتوون عليه أو يغمضون ، وإنما المهم في نظرهم أن ينهض القراء إلى مستواهم، لا أن يهبطوا هم الى مستوى القراء، فالوضوح لا المباشرة بنظر هؤلاء يعني الهبوط، والطلاسم لا الرمزالشفاف، تعني الارتقاء. وربما يتخيل ساداتنا المتشاعرون أنهم سبقوا عصرهم، وأنه لا بد من مرور وقت طويل حتى تتمكن الأجيال المثقفة القادمة من فهمهم والدخول إلى عالمهم. وإذا سألتهم: يا سادة! أ تكتبون لأنفسكم أم تكتبون للناس؟ إذا تكتبون لأنفسكم فما حاجتكم الى الصحف والمجلات والمطا بع؟ وإذا تكتبون للناس فعلام هذا الإيغال في الإبهام والطلاسم؟ لانطالبكم بالمباشرة، ولابالغموض والطلاسم، نريد أن نشعر أن ما نقرؤه لكم هو شعر نفهمه، ونعجب به، أونتذوقه. إذا قلت لهم:أين الشعر فيما تكتبون؟ ولماذا لا تقولون ما يفهم؟ تجد بعضهم يتمثل قول أبي تمام،كأنه بلغ منزلته:لماذا لا تفهم ما يقال؟

وحمداً لله أن بعضهم يعرف أبا تمام، ثم تسأل نفسك: أنا أقرأ روائع الأدب العربي والأجنبي قديمه وحديثه، فأفهمه، وأعجب به، وأتذوقه، إلا قصائد هؤلاء السادة المتشاعرين، لا أفهمها، ولاأعجب بها، ولا أتذوقها. .فهل أنا بعد ذلك متهم في ذوقي الأدبي؟ أين العلة إذن ؟الحق أنَّ احتجاب هؤلاء في كتاباتهم عن القراء. والتواءاتهم عليهم لا ينطوي على رؤية ثاقبة، أو إبداع متميز، أو موهبة فذة، كما قد يتوهم بعض البسطاء، وأنّ المسألة بصراحة لا تعدو أن تكون خدعة يلجأ إليها هؤلاء عن طريق هذا الغموض المتعمد لذاته، كي يضللوا الناس، ويرسخوا في أذهانهم انطباعا ًمفاده أنهم فوق مستو ى القرّاء،وان لا سبيل الى فهمهم مهما بذلوا من جهد، وأنّ على القراء أن يسلموا بإبداعهم.

على أن مثل هذا التضليل المتعمد لذاته يخفي وراءه في أحيان كثيرة خواء فكرياً، ورؤية متسطحة،.ومن الطبيعي أن يستحيل التواصل بين هذه الفئة التي لا تملك بالأساس شيئاً تعطيه وبين القرّاء0 والمشكلة أن كثيراً من القراء يحسبون أن قصائد هؤلاء تمثل شعر التفعيلة أوالشعر المنثورأو الشعر العمودي، وينظرون الى الشعر من خلال ما يكتبه هؤلاء، فيحكمون عليه، وعندئذ تتداخل الخطوط في اغلب أذهان القراء. ولم تعد تتراءى لهم الخطوط الدقيقة التي تفصل بين الشعراء الحقيقيين ومن يحتسب عليهم، بين الشعراء المطبوعين والمتشاعرين المدعين، وهم سيل متدفق تصبه وسائل الإعلام فوق رؤوسنا، وتفرضه علينا فرضاً، ويزعم هؤلاء أنهم يسعون الى تطوير الشعر العربي، وأنا أرى أنهم إذا أرادوا حقا ًخدمة الشعر العربي ودفع حركته إلى الإمام، فأ فضل خدمة يؤدونها إليه وللقراءوللذوق الأدبي العام ولأمتهم العربية أيضا ًهي أن يهجروا الشعر، و يبحثوا لهم عن ميادين أخرى في الحياة يصلحون لها، وما أكثرها! فلعلهم يجدون فيها أنفسهم، أو يبدعون فيها، وأن يدعوا الشعر للشعراء الذين يمكن أن ينهضوا به وبالذوق الأدبي العام إلى ما نصبوا إليه، فهل هم فاعلون؟ وقديما ًقال الحطيئة:

الشعر صعب وطويل ســلّمُه
إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمُه
زلّت به الى الحضيض قدمه
يريد أن يعرِبــه فيعجمُـــــه

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى