الخميس ٦ آذار (مارس) ٢٠٠٨
العمل الوحدوي العربي
بقلم بسام الهلسة

استحضــار الغـائــب

لأجل يوم لا نقف فيه أمام حدود عربية..
ونكون مواطنين أحراراً في وطن متحد تخفق فيه رايات الحرية والعدالة

* * *
* كانت ورشة العمل الفكرية: "مستقبل العمل الوحدوي العربي" التي عقدها مشكوراً "منتدى الفكر العربي" في عمان وامتدت جلساتها ومناقشاتها على مدى يومٍ كامل (الخميس 21/2/2008م) بمناسبة ذكرى مرور نصف قرن على قيام الوحدة المصرية- السورية (في 22/2/1958م)، فرصة لاستعراض الماضي وتحليل الحاضر واستشراف المستقبل واستخلاص الدروس في مجال العمل الوحدوي العربي، الذي لا يشهد تعثراً وتغييباً فحسب، بل يعاني ويواجه مخاطر جدية تتجاوز حدود تكريس الدول القُطْرية، إلى تمزيق وتفتيت هذه الدول نفسها بإطلاق هويات فرعية: إقليمية وجهوية وعرقية وطائفية وقبلية وفئوية.

وهو الخطر الذي تفاقم مع الاحتلال الأميركي للعراق، ومع جملة السياسات الأميركية العاملة على إضعاف وتفكيك الروابط الجامعة والموحدة للأمة، وتعميق تجزئتها القائمة بتحويلها إلى كيانات ذات شخصيات متباينة متنافرة، لا تجمعها ذاكرة تاريخية، ولا تحديات راهنة، ولا تطلعات وآمال مستقبلية واحدة.

هذه السياسات لم يعبر عنها فقط مشروع "الشرق الأوسط الجديد" أو "الكبير"، بل كل الممارسات الأميركية متعددة الأوجه: السياسية، العسكرية، الأمنية، الثقافية، الإعلامية، الاقتصادية، الدبلوماسية، التعليمية، الاجتماعية، النفسية. الموجهة لبلادنا منذ حرب الخليج الثانية (1991م) والمستمرة حتى الآن بوتائر متعددة.
ومن هذا الزاوية فإن الولايات المتحدة –في سعيها المحموم للسيطرة على الوطن والأمة، وللحيلولة دون نهوضها مجدداً –تواصل وتطور سياسة "تفرقة وتمزيق" مجربة مارسها الغزاة المحتلون من قبل، وطبقها المستعمرون الذين اجتاحوا وطننا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.

* * *

لكن العمل الوحدوي العربي –بمستوياته المختلفة: من المستوى البسيط: (التضامن والتعاون) إلى المستوى المتوسط: (الإتحاد) إلى المستوى العالي المتقدم: (الوحدة الإندماجية) وفي مجالاته العديدة: السياسية، الأمنية، الثقافية، التعليمية، الاقتصادية. لم يتراجع فقط بسبب الغزو الأميركي، بل أيضاً بسبب سياسات القادة والأنظمة العربية الحاكمة التي غلبت مصالحها الخاصة والفئوية على حساب المصالح العامة للأمة، فلم تكتف فقط بتعزيز كيانات دولها و"هوياتها" بشكل مبالغ فيه، بل غلبت المنافسات البينية العربية ورفعتها إلى درجة الصدام والصراع.

وبدل أن تدور حول مركز عربي يتفاعل ذاتياً، راحت تبحث عن مركز خارجي تستمد منه عناصر دعمها وتستجيب لتوجهاته.

* * *

وما كان ممكناً لها أن تفعل هذا لولا التسلط والقمع، وحكم الفرد أو الأسرة، وغياب مؤسسات الدولة السيادية الفاعلة، ومصادرة الحريات، والمشاركة الشعبية، التي كان من شأنها –في حال وجودها وقيامها بأدوارها ووظائفها- أن تضبط تجاوزات وتعديات الأنظمة -سواء تجاه شعوبها أو تجاه بعضها البعض الآخر أو تجاه الخارج- وأن تدفعها لإنفاذ المصالح المشتركة للأمة.

* * *

ويزيد الأوضاع سوءاً، إضافة إلى الغزو الأميركي وأنظمة التجزئة، غياب -بل إقصاء- التوجهات والعمل الوحدوي والتكامل القومي من أجندات وبرامج وفكر النخب والأحزاب والجماعات والدعاة - والرأي العربي العام عموما-ً بشكل غير مسبوق.

وإن كانت النكسات والمآسي والصراعات العربية المتتالية، تقدم بعض التفسير له، فإنها لا تبرره ولا تسوغه.. خصوصاً مع اتضاح فشل دول التجزئة القطرية وانكشافها على كافة الصعد: الأمنية، والتنموية، والثقافية الحضارية.

ويتعاظم هذا الفشل والانكشاف أكثر في عصر العولمة الرأسمالية التي تجتاح الكيانات الصغيرة والضعيفة ولا يقوى على الصمود أمامها والتعامل المجدي معها سوى التكتلات الكبرى.

وهذا يعني أن العمل الوحدوي ضرورة حيوية وجودية في صراع البقاء الكوني الدائر الذي يشكل الوطن العربي أحد أهم مسارحه وجبهاته.

وما هو مهدد اليوم، ليس فقط الثروات والموارد وأجزاء الوطن (المحتلة والتي يجري احتلالها)، بل ومعهما الشخصية الحضارية للأمة وهويتها العربية- الإسلامية، حيث تعمل الجهات الأميركية والصهيونية على تصنيع وانتاج بدائل لها تقوم بترويجها وتعميمها في بلادنا في مسعى لكسب "عقول وقلوب" العرب والمسلمين لضمان التعامل معها كـ"مخلص ومنقذ ومحرر" وليس كغاز محتل ينبغي مواجهته.

* * *

وإذا كان المؤرخون والمنظرون قد تبينوا فيما سبق "خروج العرب من التاريخ" منذ عهد الإنحطاط العباسي، فإن مؤرخي ومنظري المستقبل، سيتبينون خروجهم من "الجغرافيا" ومن "الوجود الحضاري" أيضاً كذات متميزة فاعلة في الحياة الإنسانية، إن ظلت الأوضاع سائرة على هذه الحال.

ولكي لا نواجه هذا المصير التدميري، ولكي نذود عن وجودنا المستقل، ونصوغ المصير الذي نريده لأمتنا، علينا أن نجدد التأكيد على الخطاب والتوجهات والتكامل والعمل الوحدوي في كل ممارساتنا، مقروناً على نحو وثيق بخطاب وتوجهات وعمل التحرر والحرية والاستقلال والنهضة والتقدم.

* * *

ولأن الضرورات –الداخلية والخارجية- الموجبة لهكذا عمل موجودة؛ ولأن تجارب الأمم القوية المتقدمة معروفة، يجب التركيز على ما هو غائب عربياً:

الوعي، والإرادة، والقوى الحاملة
المعنية بمواجهة وتصفية أوضاع الاحتلال والتبعية والاستبداد والتجزئة والاستغلال والنهب والتخلف والانتهاك وفقدان المصير.. والجادة في إنجاز مشروع الأمة الوجودي في التحرر والحرية والوحدة والنهضة والعدالة وبناء الذات الحضارية الجديدة.
وهو المشروع الذي ينبغي أن يتحول إلى برنامج عمل دائم في كل المجالات، وان يستوعب ويحشد طاقات قوى وتيارات الأمة الحية المخلصة أياً كانت مرجعياتها العقائدية والفكرية.

ومن الضروري هنا التأكيد على التعاون والتكامل والعمل الوحدوي الطوعي المبني على الاقتناع وليس الضم القسري والإلحاق والاخضاع الذي سيولد نتائج عكسية تثلم الجسد والروح العربيين.

ومع المواجهة وفي سياقها، سيكون الظفر بالحريات عاملاً يفتح الأبواب واسعة أمام مشاركة أكثر فئات وطبقات الأمة، ومساهمتها في تحقيق المشروع التي هي صاحبة المصلحة الأكبر فيه..

وعلى نجاحه أو اخفاقه يتعلق مصيرها وحياتها لمدد غير منظورة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى