السبت ٨ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم جمال محمد إبراهيم

أهَذِهِ بيروتُ أمْ قِفَا نَبْكِ؟

هوامش على كتابة نصري الصايغ

“أهذه بيروت أم قِفا نبكِ؟”، يا للصرخة اليائسة! هذا عنواناإقتطفته من صفحات كتاب نصري الصايغ: القاتل إن حكى: سيرة الاغتيالات الجماعية، الذي صدر عن رياض الريس للكتب والنشر يناير 2008، من صفحة 233. إنه شهادة مروعة عن سنوات الاقتتال الأهلي في لبنان.

يحاول الكاتب والشاعر اللبناني نصري الصايغ، أن يجد معادلة لقراءة الواقع المتشظي في لبنان. ليس لبنان الذي حسب أن جراحه التأم بعد إتفاق الطائف عام 1990 والذي أنهى حرباً بين الطوائف، امتد أوارها لخمسة عشر عاماً من 1975 وحتى 1990، ولكن لبنان الذي بدأت تتخلق فيه هذه الآونة، بذرة القتل من جديد. لبنان الذي ينهض - بعكس العنقاء – من رمادٍ نائمٍ إلى رمادٍ يصحو من جديد. لم يهزني كتاب بمثل ما هزّ بعض قناعاتي الراسخة عن لبنان، هذا الكتاب، بل هذه الشهادة التي جاءت من شاعر له من مجسات الاستشعار ما أعانه على الافصاح بقوة اللغة عن واقع معقد تتربص به مكوناته الداخلية، بمثلما تتربص به مكونات خارجية من محيطه الأكبر والأوسع. ثمة كتابة مزلزلة. كتابة الصايغ أكثرها ترويعا.

أنظر كيف يصف الذعر الداخلي يعصف برجل تضاءل، بسببٍ من موقفٍ مرّ به خلال الحرب الأهلية، أمام جرذٍ مسكنه جحر! ما أقسى أن يمسخ الانسان أخاه الانسان إلى جرذٍ مطارد:

((هربتُ، تهرّبت، هرّبوني، أحياناً كنت أشعر أن الجرذ أكثر شجاعة مني. ففي ليلة قصف مجنون بتاريخ السادس من شباط،الذي حوّل بيروت الغربية إلى داحسٍ تبحث عن غبراء في كل زاروب وحيّ وبيت، بين”أبناء الصف الواحد”و"الخط الواحد"، لجأت إلى ملجأ كانت القنابل تطال ما حوله. في لحظة هدوء وبينما كنت متكئاً على ذراعي، رأيت جرذاً ينظر إليّ. من عادة الجرذان أن تهرب عندما ترى إنساً أو بشراً أو حركة. رآني. تأملني. أحسّ أني خائف أكثر منه، فهزّ رأسه. شعرت أنه يضحك مني. يومها ذرفت دمعة يابسة.. )) ص44.

الخوف! كيف يمكن للخوف أن يكون بناءاً؟ (( الخوف دواء اللبنانيين، عليهم أن يتصرفوا كخائفين، علهم بذلك يحولون دون الانزلاق إلى العنف في بلد، لا يستطيع فريقا كرة قدم أو كرة سلة أن يتباريا من دون أن تداس المقدسات بالأقدام وتنزع المقدسات عن القديسين والولاية عن الأولوياء والنبوة عن الأنبياء..)) ص 42.

لم تشرّع قوانين حمورابي القاسية، نصوصاً بلغت هذا المدى الذي يصفه الصايغ، في الوحشية والحيوانية المزرية:

(( ليس صحيحاً أن العين بالعين والسنِّ بالسن. اللبنانيون أبدعوا معادلة أخرى. مدينة مقابل مدينة. طائفة مقابل زعيم. زعيم مقابل جماعة. العين الواحدة بكل العيون مجتمعة. قداس الرحمة لا يجوز إلا للأحياء. أما الأموات فليدفنوا كالكلاب. وهكذا حصل، وسط الذئاب الهائجة..)) ص 118.

عن القناصة:

يحكي الكاتب عن ظاهرة القناصة التي صاحبت استعار الحرب الأهلية في لبنان في تلك السنوات الصعبة. بين بيروتين: الغربية (السنية )والشرقية (المسيحية )، نمت الظاهرة وكانت معلماً مميزاً لحرب حرقتْ لبنان حريقا أشبه بحرائق الحضارات التي بدأت في التاريخ باجتياح جنكيزخان لبغداد.

(( كان القناص يختار من يرغب، من تقع عليه شهوته. حدثني ذو اختصاص مرة، أن أحد القناصين، كان يختار ساعات الليل ليقتل طريدته. فيتهيأ للصيد عندما تنتابه نوبة التثاؤب. ينتظر مع فوهته. وعندما يسقط أحد المارة كالكلب الشارد، برصاصة من بندقيته، يأوي إلى زاوية وينام.. كان لا يهنأ بنوم، إلا بعد قتل أحد ما، لا يعرفه. كان اللبنانيون يشبهون رؤوساً قد أينعت، والحجاج اللبناني جمعٌ بصيغة مفرد يطارد الرؤوس ويقطفها..)) ص149.

ثم الاعتذار..:

من يجد الجرأة ليعتذر لنفسه قبل أن يعتذر للآخرين؟ قال الصايغ إننا نهشنا لحمنا بأظافرنا، وبأنيابنا. المفارقة أن المعتذر هو نفسه المقتول. القاتل يمشي على قدميه حياً بين أبنائه وأهله.

يقول الصايغ في عملية حسابية بسيطة، أنه: (( إذا كان عدد القتلى هو 200 الف، وإذا اعتبرنا أن كل مقاتل محارب قد قتل 5 فإن عدد القتلة على مدار 15 عاماً، هو أربعون ألف قاتل. واذا كان قد قتل 10، فإن عدد القتلة يتضاءل إلى عشرين ألفا. أين هم هؤلاء القتلة؟ )).

إذا كان عدد المخطوفين عشرين ألفاً خلال سنوات الحرب الأهلية في لبنان، وإذا كان كل مخطوف يحتاج إلى أكثر من أربعة أشخاص لخطفه، فإن عدد الخاطفين يصل إلى 80 ألف خاطف، وقد يكون القتلة خاطفين، وقد لا يكونون. باختصار، يسأل الصايغ:

(( أين هم هؤلاء الخاطفون؟............. إنهم بيننا في معظمهم، أحياء يرزقون. تزوجوا، أنجبوا، توظفوا، سافروا، تخرجوا من جامعات، تاجروا، رقصوا، تملكوا ودرسوا، فيما أحبابنا، آباؤنا وأمهاتنا وشبابنا وبناتنا وأولادنا، تحت التراب..))

ولكن هل يكفي أن يظل القاتل حياً بلا تأنيب ضمير ولا ضامن يردعه، حتى لا يعيد الكرة؟ ها نحن في بيروت عام 2008، نجيل البصر ترقباً وانتظارا: لا كوابح لعجلة المذابح التي تتأهب للدوران الآن. لا كوابح أيها الصايغ..!

وأيضاً لنصري الصايغ ما يضيفه هنا. يقول في صفحة 153 من كتابه:القاتل إن حكى:
((ولأن اللبنانيون يبتعدون بسرعة طائفية ضوئية، عن جادة الديمقراطية فليس لهم أن ينتظروا أحداً من القتلة والمجرمين أن يعتلي منصة، أو يحضر لقاء، يصار فيه إلى الاعتراف بما ارتكب في الحرب من جرائم. ويبدو هذا أمراً طبيعيا. وشواهد التاريخ كثيرة )). ويورد أمثلة عن جنوب افريقيا التي لم يُقدم المجرمون فيها على الاعتذار عن عنصريتهم، إلا بعد إقصاء النظام العنصري وإقامة النظام الديمقراطي. ويقول عن إسرائيل: (( لا نتصور إسرائيليا يقوم على الاعتراف بما ارتكبته إسرائيل إلا إذا تخلى عن صهيونيته وخرج عن المنطق العنصري. وهذا ما أقدم عليه ابراهام بورغ رئيس الكنيست الأسبق قي شهادة تاريخية تدين البربرية الإسرائيلية..)) ص 154. ويضيف نصري الصايغ: إن عبيد أمريكا لم يتم الاعتراف بهم إلا بعد نضال دامٍ ومديد..

إنهم يقتلون جياد الثقافة..:

في رسالة لصديقه فواز طرابلسي ص231، كتب نصري الصايغ:

(( بماذا ننصح شباباً تخرج من جامعات أتقنت المنهج الديكارتي والاستقراء العلمي والاستنباط الرياضي، وأبدع في استخدام منتجات الحداثة ثم تخرج من الجامعة، ليتحول إلى خردة طائفية ومذهبية، لا يدين بحرف إلى داروين أو ديكارت أو ابن خلدون وقاسم أمين وطه حسين وماركس ودالوز، ووقف علمه كله، وقفا مجانيا، لمستحدثات السياسي والمذهبي والقبلي. ))

لايقف الكاتب عند جرح، بل يتعداه بمبضع قاسٍ إلى جرح يحاصر الأمل في نفق لا ضوء في آخره.

(( لقد قتلنا المعتزلة. أحرقنا ابن رشد. اغتلنا أحمد فارس الشدياق. سخرنا من بطرس البستاني ونفيره، علقنا طه حسين على خشبة بعد موته. أفرحنا تراجع علي عبد الرازق، لأنه خاف إلى يوم وفاته، فرجمنا قاسم أمين. ونحن اليوم بصدد إفناء ابن عربي وتحريض جنس الأخلاق على أبي نواس وجنس التطهر على الحلاج. نحن اجترحنا في القرن العشرين محاكم التفتيش الدينية والسياسية. أقمنا حلفاً بين الله والعروش الحاكمة. جعلنا من الشعوب أصابع أرجل بعدد رمل البحر. نحن زودنا السلطة بالوحدة فخرقتنا بالاشتراكية، وقتلنا بالحرية فأبادتنا. نحن قتلنا أنطون سعاده وفرج الله الحايك، وحسين مروة، وسلالة النهضة.. لم نترك نصاً لم ننحره.. )) ص 235. هؤلاء رموز شامخة في سماء لبنان، نُحروا وفُجروا تفجيرا، ثم استأنف القتلة حيواتهم العادية بعد ذلك. هم ينتظرون ظرفا لبنانياً يعرفونه آتٍ، بموجبه تستحضر أرواح الشر سكاكينها. القاتل الذي لا يعتذر عن جريمته لن يكف عن هوايته المحببة.ستواصل المقاصل فصل الرقاب. سيستمر مسلسل التفخيخ ودسّ الألغام في جيوب الأبرياء.

من منكم – يا عرب القرن الحادي والعشرين -لا يخجل من شهادة تتهمكم بالتقصير فيما يلي:

(( يوم كانت الحضارة العربية في سطوة فعلها، فرضت حضورها اللغوي من خلال حيوية مفكريها وكتابها ومجتمعاتها. لذا كتب”الأجانب”فكرهم بالعربية. الفارابي التركي عربي اللغة، ابن سينا الفارسي عربي البيان، ابن المقفع الشعوبي، عنصري العربية. كلهم كتبوا بلغةٍ كانت من القوة، بحيث جاءت حاملاً لمحمول من الفعل في ميادين العلم والمعرفة والفلسفة والاجتماع والإدارة والتاريخ والسياسة، إضافة إلى الشعر و الأدب. )) ص 236.

ما أسهل أن نهرب إلى الأمام وندّعي أن هؤلاء كلهم لا ينتمون لحضارة العرب..! في الصفحات الأخيرة يكتب نصري، وقد بلغ به اليأس مبلغا لا رجعة بعده لأمل:

((عن أيّ شيء تدافع أيها المثقف؟

قُم، لنحرق الكتب، ونتبع قافلة الجنون.. )). في ختام كتابه، ينظر نصري الصايغ إلى قرى العراق ويعلق: بات عقار كل بلدة هناك، يتألف من مساحات شاسعة للمقابر، وبيوت قليلة للمقيمين..

بيروت عروس على أهبة الاستعداد لاقتحام الموج الحارق بحاسة بقاءٍ عالية، نعم بحاسة مقاومة عالية..

هوامش على كتابة نصري الصايغ

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى