الثلاثاء ١١ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم أحمد بلحاج آية وارهام

آثَارُ قَدَمِ الريحِ في حضارة الْمَعْنَى

(أقبض قدم الريح) للشاعرة نجاة الزباير

يَدٌ من أقاصي الاختلاف:

مُختبر الشعر المعاصر في المغرب هو مختبر تخييلٍ جمالي، تحكمه يَدُ الأنثى باقتدار وبهاء قادمين من أقاصي الاختلاف الجميل، وخرائط الرهافة والشفوفية الآسرة، الحقيقة فيه آنَاتُ تطور مستمر، وتجَلٍّ لروح التاريخ وروح العصر، وذلك لأن لكل عصر حقيقته وتجليَه الشعري الخاص به والمنبثقَ عن هذه الروح. وهذا التجلي هو البحث عن الحرية التي ما تنفك تتطور حتى يصبح لها معنى نامٍ يُؤْذِنُ بتحول جديد، وطموح لانهائي يخلخل بنياتِ الواقع المُنْشَدَّةِ إلى النهائي.

ففي الاختلاف بين الطموح اللانهائي والشروط النهائية يكمنُ تضادٌّ بين نوعين من الوعي: الوعي الشعري الخلاق، والوعي الشقي الُعِنِّينِ، وتكمن الانعطافة الشعرية الُأُورْفِيَّةُ التي تتأسس بها حضارة المعنى.

إن يد الأنثى في المختبر الشعري أشبهُ بيد الشمس في أرض الوجود، تكتب أَوْجُهُهَا احتمالاتنا وممكناتنا بصيغ تخييلية تنحني لها قامات المُحال، مما يجعل منا كائنات منذورٌ لها المعنى ومنذورةٌ له، ويجعل بالتالي الإنسانَ عالماً صغيراً متصلة أجزاؤه، والعالمَ إنسانا كبيرا منفصلة أجزاؤه (1) يتبادلان حكمةَ الغرَقِ في الوجود عشقا بإيقاعٍ تَنَافُذِيٍّ مُضَاهٍ لِإِيقاع تَنَافُذِ الضوء مع الماء والرَّوْحِ مع العطر.

هكذا ترتفع يد الأنثى في مختبر الشعر المعاصر متلألئَة كشجرة طوبى؛ أغصانها أسماءٌ مشعة في الكونية بدلالات ثرية لا تكون الذاكرة إلا بها، ننطقها فتُسكننا في السِّريِّ الذي هو وَعْدُ الشعر، وتملأ جوانحنا بفواكه النور. إنها الذات الشعرية ممثلة في: وفاء العمراني، مليكة العاصمي، ثريا ماجدولين، عائشة البصري، وداد بنموسى، نجاة الزباير، أمينة المريني، فاتحة مرشيد، لطيفة المسكيني، فاطمة الزهراء بنيس، وغيرهن من الشواعر المغربيات اللائي يترقرق على أيديهن ألقُ القصيدة المعاصرة في اتجاه حضارة المعنى.

وما ديوان "أقبض قدم الريح" للشاعرة المغربية نجاة الزباير إلا بِلَّوْرَة من هذا المختبر التخييلي الجمالي، للسفر فيه متعةُ استعادة الذات من منافي الإكراهات والانجراحات، وروعةُ انتشال المخيالِ من تحت أنقاض العوائد والمواضعات، ونشوةُ اللغةِ التي تتكلم ذاتها كما هي، لا لغة الأشياء المحنَّطَة في توابيتِ التداول ونواويسِ النفعية. إنه نفسٌ من اللواقح الشعرية كما الريح، فالريح في عتبته استعارة للقصيدة، والقصيدة في انفتالاتها وتحولاتها وقوة تخصيبها هي أخت الريح، فهما من المؤنث وبينهما نسبٌ دلالي على مستوى التأثير المِظْهَرَانِي والجواني، من مركز خفي تأتيان بقدَمِ القوة والغلبة والنُّصرة فتفعلان فعلهما في الذات والوجود بأصابع البُهْرِ التي تَرْقُصُ وكأنَّها تُصلي.

قدم الريح:

فالقصيدة متحولة ومُتبدلة كما دلالات الريح (2)، ولذلك نجد الشاعرة كثيرا ما تُطلق عليها أوصافا متعددة ذات دلالات فرعية تصب كلها في الدلالة الكُلاَّنية للريح، وهي القوة والتغيير، مما يعني أن القبض على قَدَمِ الريح هو القبض على القصيدة باعتبارها مُعادلا للريح وقوةً مغيِّرةً تتسم بالتحول والانفتال والمَكْرِ والتَّخَفِّي والعُرْيِ والصعود والانكسار والتبعثر (قصيدة متسولة ص:7، قصيدة عارية ص:21، قصيدة ماكرة ص:34، قصيدة كسرتها أوزان الهوى ص:52، قصيدة بعثرتها أصابع الظن ص:75). فالانفجار الدلالي للريح هو نفسه الانفجار الدلالي للقصيدة، والجامع بينهما هو القدم :

دلالات قدم الريح / القصيدة

آثارها في حضارة المعنى :

1- العالم نظام للمعنى:

فخطوة هذه القدم في العالم هي خطوة في نظام المعنى الذي يُوجده الإنسان ويوجَدُ له، وينفتح عليه ويكون في عمقه دائما:

طَرَقَتْ بَابِي قَصِيدَةٌ مُتَسَوِّلَةٌ
كَانَتْ بَيْنَ يَدَيْهَا جُزُرٌ مِنَ اُلْمَعَانِي
تَصْطَادُ لَوْعَتِي (ص7)

بهذا الوعي الشعري للمعنى يفتتح الديوان تَحَقُّقَهُ الجمالي على مستويات عدة، حيث يبرزُ الجمال فيه كظاهرة شعرية متأصلة في اللغة. واللغة تشكيل للمعنى الذي به يكون الإنسان، ومحاولةٌ من الشاعرة لكي تؤسس لهذا الإنسان ذاتَه في وجود الأشياء حين تجعلها مَعْبَرًا إلى المعنى، يتحول فيه الوجود الإنساني إلى وجود من أجل المعنى، لا من أجل الأشياء. والجمال اللغوي التخييلي هو الذي يحدث هذا التحول، فيتحول العالمُ إلى نظام للمعنى، وإلى سلسلة من الظواهر الجمالية التي تُمثل التَّجَسُّد العينيَ للوجود من أجل المعنى، وتُوَسِّعُ فضاء الوعي المعرفي (= الإيبيستيمولوجي) والوجودي (= الأونطولوجي) الذي تكشف شبكةُ علاقاته عن المعنى وتَحْيَاهُ وتُمارسه:

كَفَّاهُ حَانَةٌ عَارِيَةٌ لاَ تَقْرَأُ أَسْرَارَهَا
غَيْرُ أَرْضٍ تَغْسِلُ وَجْهَ اُلْمَكَانْ
وَ تُفَصِّلُ مِنْ نَبْضِ اُلْأُفُقِ بُرْقُعَهَا (ص14)

فالمعنى حاجة أونطولوجية تتصيدها الشاعرة بتقنيات شعرية جمالية متخفية في الديوان؛ أعمقها تقنية الإبيجْرَامْ.

1. الإبيجْرَامْ كحاجة أونطولوجية:

و الإبيجْرَامْ هو لَوْنٌ من ألوان الشعر الذي هو حاجة أونطولوجية، يباعد بين الناس وبين عصر البداوة، ويضعهم في بؤرة الحضارة شكلا وروحا. يمتاز بأنه مقطع شعري قصير جدا ذو دلالة كثيفة وحادَّةٍ قد رُكب في سهم رشيق خفيف لا يكاد ينزعُ عن القوس حتى يبلغ الرَّمِيَّةَ، ثم ينفذ منها في خِفَّةٍ وسرعة ورشاقة في ديوان الشاعرة – رغم إخفائها إياه – بالبيت الأخير من المقطع الإبيجْرَامِي، فهو يقوم منه مقام الطرف الضئيل النحيل الرقيق الرشيق من نصل السهم، بحيث يقطر المعنى منه حرا مطلقا بشكل يتجاوز حدود المألوف من السنن والعادات والتقاليد، حتى لتكاد تلمس الصورة التي يحملها شاخصة في قلبك وبصيرتك، مما يؤكد خطاه في حضارة المعنى. وهذان نموذجان منه:

فَجْأَةً تَسَلَّقَ جَبِينَ اُلْمَدِينَةِ اُلضَّرِيرَةِ
أَمْسَكْتُ خُطَاهُ مِنْ دُبُرٍ
لَكِنَّهُ خَتَلَنِي وَاُخْتَفَى. (ص: 14)
 
والثاني عن حالة الخيانة، ويقول:
لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ حِينَ اُتَّكَأْتُ
عَلَى ضَوْضَاءِ اُلْحَرْفِ
أَنِّي سَألْقَى حَتْفِي (ص: 30)

فحين تقرأ هذين الإبيرجرامين تَجِدهما يُعرفان الشاعرة كإنسانٍ لا ينوجد المعنى إلا بهِ ولهُ . فقصيدتها تجَلٍّ لواقع جديد، وفرحٌ غامِرٌ بالحياة، وروحٌ مطلقة تخترق الزمن العادي وتعودُ إليه في طفولة الإنسان البدائية التي تتذوق الجمال، وتعبِّرُ عن الدهشة بآليات الحكي والترميز والأسْطَرَة واستضافة ما لا يستضاف عادةً:

صَغِيـرةً كُـنْتُ...
أَغْزِلُ مِنْ دُخَانِ اُلسَّمَاءِ عِطْرًا
يَسْتَقْبِلُ ذُهُـولَ اُلْغَـيْمِ
وَ يَكْـسِرُ صُـرَاخَ الُطُّفُـولَةِ.( ص:41)
- - - - - - - - - - -
- - - - - - - -
- - - - - - - -
صَبِيَّةً كُنْتُ...
بِضَفِيرَةٍ تَجُرُّ وَهْمَ اُلطُّفُولَةِ
اُسْتَقْبَلَتْنِي أَحْلَامُ اُلْمَدِينَةِ
مِثْلَ بَاِبَلَ تُقَطِّع أَوْصَالَهَا
رَوَتْ لِي هَذَيَانَ اُلصَّبَاحِ
وَاُسْتَسْلَمَتْ لِهَدِيرِ اُلْوَقْتِ.(ص: 59)

ففي هذين النموذجين الدالين على استسقاء الشاعرة من نبع الطفولة البدائية؛ الضاربة بجذورها في دخان السماء وهدير الوقت؛ يبرز ملمحٌ تناصي أسلوبي، وتدفقٌ زمني في اتجاه الحاضر كما في المقطع الأول، واتجاه الماضي كما في المقطع الثاني. مما يُؤشر على أن الشعر عند الشاعرة ليس ترفا مرتبطا بمواضعات اجتماعية مُعطاة، وإنما حاجة أونطولوجية متأصلة فيها ككائن، بحيث يصبح وجودها فارغا من المعنى إذا لم يرتبط بالشعر، ولذلك أشرنا إلى أن شعرها يُعرف بها أكثر مما تُعرفه هي، فالشاعر هو من يُعرفه شعره، لا من يُعرفُ الشعر في مرآته. والشاعرة نجاة في هذا الديوان لا تطرح إشكالية الشعر المُعَرِّف بالذات فقط، وإنما تتجاوزها إلى إشكالية الزمن الجمالي، وذلك لأن الذات ماهية متحركة في الزمن، ولا وجود لماهيةٍ خارجة عنه، فَمِنْ أين تأتي إشكالية الزمن هاته؟ وما نظامها؟

2.1 نظام الزمن الجمالي:

تبدأ إشكالية الزمن الجمالي عند الشاعرة من تأزُّمِ الذات الشعرية، وانفتاحِ حاضرها على المُضِيِّ نحو مُطلقٍ وكردِّ فعلٍ على هذا المضي تستجمع ذَاتُها الشعريةُ كُلَّ قدراتها على الفعل والتأثير لإعادة صياغة هذه الحركة بجعل الحضور ينفتح على المستقبل. لكنه يعكس وعيا عميقا بأن هذا الانفتاح سيستنفدُ ممكناته، ولذلك يتحول الحضور إلى فعل كوني لا يكون المستقبل فيه مرتبطا بالذات نفسها (4)

إن رؤية الديوان للزمان وتشكيله جماليا هي رؤية مُقَوِّمة لإيقاعية الوعي الشعري والوعي الذاتي بالعالم، وهذا ما ترسخه الأزمنة الأربعة التالية فيه:

1. الزمن المنفتح تماما على المستقبل، ويُحاول استحضاره في الآن باستمرار ليستوعبه وعيُ الشاعرة في ذاتيتها، ويمنعه من التمَدُّد في المُضِيِّ. فهو بهذه الصفة زمن تَبْئِيرِي حُضوري، تقول الشاعرة:

سَلاَمٌ لِلْحَرْ فِ
يَجُرُّ خُطَاهُ فِي مَوْعِدٍ
يَرْسُمُ جَسَدِي حَفْنَةً نُورٍ. (ص:21)
 
- - - - - - - - - - -
 
- - - - - - - - - - -
 
- - - - - - - - - - -
تَتَوَسَّدُنِي أَحْدَاقُ اُلشَّوَارِعِ
وَ كَأَنَّهَا تَحْتَرِفُ اُلْعِشْقَ
تَتَلَصَّصُ عَلَيَّ...
َمْتَدُّ لِجَسَدِي كَحُرُوفٍ إِلَهِيَّةٍ .(ص:23)

2. الزمن الدائري، ويبدأ من الحاضر ثم يعود إلى الماضي ويستحضره، لكنه لا يُطلقه إلى المستقبل، وإنما يجعله متماهيا مع زمن الناس المتماهين أصلاً مع دائرة الدهر والمُحققين لفاعليتها في الواقع:

أُصَافِحُ أَشْلاَءَ اُلْأَشْيَاءِ
لَكِنَّ اُلرِّمَالَ اُلْمَذْبُوحَةََ تُعَانِقُ نَزِيفَهَا
فَلِمَاذَا زَمَنِي مَعْصُوبُ اُلصَّدْرِ
تَتَسَقَاطُ أَوْرَاقُهُ فِي رَحِمِ اُلْمَوْتِ
لأَِرَى رُؤُوسًا يَتَقَاذَفُهَا اُلْعَارُ
شَرْقَيْ وَغَرْبَي اُلْبُسَطَاءْ؟!! (ص: 25/26)

3. الزمن التبئيري، ويقوم على تبئير الماضي في الحاضر بسبب انقطاع المستقبل عن التحقق لأجل إكراهات حادة، ومعنى هذا أن وعي الشاعرة يحاول أن يؤسس زمنه الجمالي لما حقق من ممكنات، ويضعه حضورا مستمرا بإبراز حضور الإكراهات:

قَالَ صَاحِبِي:
تِلْكَ اُلَّتِي رَاوَدَتْكَ
سَتَأْتِي إِلَيْكَ ذَاتَ لَيْلَتَيْنِ
سَتَمْسَحُ عَنْ حِذَائِكَ دَمْعَ اُلسُّجُونِ (ص: 27)
 
- - - - - - - - - - -
 
- - - - - - - - - - -
 
- - - - - - - - - - -
قُلْ لَـهَا: "أَشْتَهِيكِ"
تَبَسَّمْ وَصَدِّقْ أَحْجَارَهَا..قُبُورَهَا
أَصْغِي لِطَيْشِهَا. (ص: 28)

4. الزمن التأريخي، ويبدأ من الحاضر ليؤرخ للماضي مستحضِرًا إياه في مواجهة الانقطاع الممكن أو المتوقع، وذلك بتوسيعه إلى أقصى مدى، لجعل المستقبل حَلاًّ جذريا شاملا:

أَتَـقَرَّى فِـيهِ سَـكَنِي
تُـدَاعِـبُنِي كُـلُّ اُلدُّرُوبِ
 
- - - - - - - - - - -
 
- - - - - - - - - - -
- - - - - - - - - - -
تَضْطَجِعُ أُغْنِيَاتُ اُلصَّفَاءِ؛
تَغْتَسِلُ حُورِيَاتُ اُلْهَمْسِ؛
تَذُوبُ تَجَاعِيدُ اُلْفَجَائِعِ؛
وَ تَتَلَوَّى اُلْأَمَاسِي عَذْبَةَ اُلْخَطْوِ
فَفِي دِنَانِهَا
تَمُدُّ أَغْصَانُ اُلرُّوحِ فُصُولَهَا. (ص: 68/69)

إن قصيدة الشاعرة في هذا المسار الزمني الرباعي الجمالي ذات ماهية مستقلة عن كل التصاديات الشعرية، فهي منبثقة من الذاتية بكل ما تعنيه من إبداعية حَقٍّ وتطلع حداثي مفارق، وتتأسس فيها:
فَتَحْتُ أَبْوَابَ اُلْقَصِيدَةِ

* قُلْتُ: " هَلَا دَخَلْتَ أَيُّهَا اُلْمَاءُ ؟ " ( ص: 16)
 
- - - - - - - - - - -
 
- - - - - - - - - - -
 
- - - - - - - - - - -
زَحَفَتْ فِي دُجْنَةِ اُلِّلقَاءِ
ِرجْلَاهَا قَصَبٌ
خَطْوُهَا بَرْقٌ
فَمُهَا مَحَارَةُ ضَوْءٍ
عَيْنَاهَا يَنَابِيعُ حَدْسٍ
صَلَاتُهَا خُبْزُ نَهَارٍ مُبَعْثَرٍ بِاُلْأَنِينِ
وَ فِي حَقِيبَتِهَا ظَمَأٌ.
تَفَيَّأَتْ أَصَابِعَ إِصْغَائِي
ثُمَّ مَرَقَتْ فِي مَسَامِّي كَاُلرَّدَى. (ص: 34/ 35)

فقصائد هذا الديوان لا تجد فيها سلبيةَ الأنا الغنائية في خضوعها للواقع، ولا جهلَ الشاعرة بما يجري حولها، ولا تلك الإرادة الضريرة التي تقود الذات في متاهات تبتُرها عن الكونية، بل تجد وعيا متوقدا غايته الوحيدة تأسيس المعرفة والإنسان في إطار نشوة الحياة (5)، وإطار الوجود الذي تحضره الشاعرة عن طريق اللغة بلمسة بهاء وفورةِ خيالٍ وكأنها تمسك نُقطة الخلق الجمالية الأولى.

3.1 إحضار الوجود عن طريق اللغة:

فالشعر والفكر عندها ينبعان من "التفكير الأصلي للإنسان" على حد تعبير مارتن هايدجر، إذ بهما تشارك في مهمة " إحضار الوجود عن طريق اللغة"، وانفتاح الكائن على الوجود. وبهذا الصنيع يصبح الشعر تجليا بكل موجوداته؛ صغيرة كانت أم كبيرة: السماء والأرض، الله والبشر، العابر والمقيم. إنه التجلي الذي يمنح الموجودات حضورها الذي يكاد أن يغيب في الواقع، ويجعل القصيدة هي الحقيقة الحاملة والصائنة للقيم الإنسانية والجمالية معا، تُحضر العالم الغائب، وتكشف عن جوهر الخفي الذي تراه الشاعرة، وقصيدة "جذبة فوق كتف القصيد" ص: 30 إلى 33 نموذج لهذا المنحى الذي تمتلك فيه القصيدة مساحة غامضة تنأى بالشعر عَمَّا هو فكرٌ محض كلما توغلتَ فيه. وهذا لا يعني غياب الوعي الذي يظل حاضرا حتى في أشد حالات الشاعرة ذهولا وغوصا في أعماق النفس، أو الواقع بما يحويه من أخيلة وأوهام ورغبات وأساطير تقبعُ خُفية وراء النماذج التي تحكمه بما فيها نماذجُ الشعر نفسه.

ففكر الشاعرة يعمل وفكرَ العالم في نفس اللحظات الحاسمة وفقًا لسيرورة ترابط الصُّور، وهي الوسيلة الأسرع لإيجاد صلةٍ بين أشكال الممكن وأشكال المحال اللامتناهية، والاختيار بينها (6)، وبهذا الاختيار تكون اللغة من جهتين: جهة الإحضار، وجهة إضفاء الجمال عليه.

4.1 تأصُّلُ الجمال في اللغة:

فلغة الشاعرة حين تُحضر الوجود لا تُحْضِرُهُ هُلاميًّا مجردا، وإنما تُحضره حيا في فضاءٍ جمالي شعري له أبعادٌ ثلاثة؛ هي:

 البعد الزمني
 البعد التخييلي
 البعد اللغوي

وذلك لأن هذه الأبعاد هي التي تُكَوِّنُ أوجه الجمال الشعري بذاته. وإذن؛ فلغوية الوعي الشعري عند الشاعرة هي مُقَوِّمُ وجود الفضاء الجمالي الشعري وفاعليته. إذ اللغةُ هي مستقرُّ الوجود الإنساني، والمجال الذي ينبني الوعي ذاته فيه، ويُحقق وجودَه للمعنى. وتتأصل شعرية الوعي هاته في لغويته التي تحكمها علاقات متداخلة يتأصل بعضها في المقصدية، التذاوت، التعبير، الإبداع.

وبَدَهِيٌّ أن الشعر هو المجال الأمثل لتحقيق هذه العلاقات مؤطرة بالمجال الذي تَنْسُجه يَدُ التشبيهية بوصفها أُنْظُومةً معرفية تقوم على رؤيةٍ لها منطقٌ في الاستدلال، وعمقٌ في الكيان الثقافي الكوني يهدفُ إلى إنجاز الذات وتحقيقها معرفيا:

اُلْـمَوْجُ يَـمْضَغُ مِـعْطَفِـي
وَأَنْتَ كَمَا اُلْحُلْمُ اُلْمُهَاجِرُ فِي رَبِيعِ اُلْوَقْتِ
تَزْرَعُ وَرَقَ اُللُّوتَـسِ فَوْقَ كَاِهِل اُلْمَدِينَةِ.
وَصَوْتُكَ اُلْقَادِمُ مِنْ إِيقَاعَاتِ اُلْوَطَنِ اُلْمَشْرُوخِ
يَـجُرُّنِـي بَيْنَ مَـدَائِنَ مِـنْ تُـرَاب (ص: 56)

فالتشبيه هو القاعدة الإبيستيمولوجية للشعر (7) التي تنبني عليها آليات الاستعارة والمجاز، وهو طابع الوعي بالذات وبالعالم. وقد اتخذ في هذا الديوان ثلاثة مناح:

 منحى إحساسي: أصيل وعميق بما تمتاز به الظواهر والأعيان من صفات ماهوية دقيقة، مما يؤدي إلى ضرورة الربط بينها بعد تقصِّيها وتمييزها وتأويلها والتعليق عليها.

 منحى قياسي: حيث يغدو التشبيه هنا مؤسسا للحقيقة الجمالية استنباطا وقياسًا، عن طريق قياس الظاهرة على غيرها وربطها معا، وتخييل إحداهما في الأخرى، وبذلك تستنبط الشاعرةُ شعريةَ وجودهما، فتُدخلهما في نسقٍ منتظمٍ بدقة، وإحكامٍ نابعٍ من شمولية وعيها.

 منحى أسْطَقي: وفيه تمنح الشاعرة الأشياء والظواهر ماهية جمالية، ثم تشكلها وصفِيًّا بتوظيف الإحساس والتعليق فنيًّا.

فمهمة التشبيه عندها لا تكتمل إلا بإحضار الظاهرة وجوديا، بمعنى أنها لا تقدم لنا ما هو مرئي، بل تجعلها مرئيا أي دالاًّ ومدلولا في وقت واحد. وليس هذا المرئي سوى المعنى الخفي الذي يسعى التشبيه بمختلف ألوانه إلى جعله قابلا للإدارك والفهم والتأثير من خلال تشكيله وتجسيده فعلا. فتشبيهية الوعي الشعري لدى الشاعرة نجاة هو أساسُ بروز قصيدتها بقامةٍ حداثية خالصة، وذلك لأن أساس إقامة قصيدة فاعلة في الوجود يبدأ من تشبيهية الوعي الشعري ومدى تحكمها في جعل اللامرئي مرئيا (8)، وجعل الأعيان؛ ومن بينها الجسدُ؛ نبعا للمعنى الذي لا تكتمل أصالةُ الوجود إلا به.

2 الجسد معنًى:

من هذه الزاوية تنظر الشاعرة إلى الجسد، لا كوعاءٍ فيزيزلوجي وظاهرة فيزيقية، وإنما كأهم تظاهرات الذات الإنسانية وأكثرها أصالة. فهو آنية معنًى، وتعبيرٌ وخطابٌ مُؤَسَّسٌ في العالم، يُقاوم الفناء والعدمية، ويُساهم في حضارة المعنى.

ومن ثمة نرى الشاعرة نجاة تهتم به في هذا الديوان؛ من خلال تأكيد ذاتها الجمالية قيمةً ومعنى باعتبارهما الباقيين والدائمين، بمعنى أنها تؤسس ما يبقى من جسدها وآنيتها؛ وهو المعنى؛ بإدخال هذا الجسد في علاقة عكسية مع المعنى تشكيليا. فكلما زاد الجسد ضآلة وهُزالا واندثارا زاد المعنى الجمالي المؤَسَّسُ فيه، وفي الوقت ذاته تُؤَسِّسُ من هذا الجسد خطابا للآخرين، أي تجعله أداة للتذاوت معهم، وكلما زاد انفتاحه عليهم تعالَى على كينونته المادية الضيقة. ففي قصيدة "جسد آيل للصعود" تقول الشاعرة:

أَرْفَعُ إِلَيْكَ جُرْحِي يَتيِمًا
عَلَّ عَرَائِي يُبْعَثُ بَيْنَ أَنْفَاسِكَ
فَيَصُدُّنِي إِفْـكُ اُلْوَقْتِ.(ص:49)
 
- - - - - - - - - - -
 
- - - - - - - - - - -
 
- - - - - - - - - - -
أُسْنِدُ جَسَدِي اُلْمُتَهَاوِي فِي لَوْعَةِ اُبْنِ زَيْدُونٍ
كَيْ تَقْرَأَ دَمِي فِي زَفْرَةِ اُلْقَصِيدِ..
أَخْلَعُ دِثَارَ لَيْلِي..
تَطْمِسُني ظِلاَلُ اُلصَّبَابَةِ
وَ حَوْلِي أَشْبَاحُ اُلطَّلْقِ تَضُجُّ فِي مَاءِ جُنُونِي ،(ص: 51)
وكذلك في قصيدة "جسد ينقر أشلاء الصمت" تقول:
لَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ اُلْغِـنَاءَ
لَكِنِّي اُسْتَعَرْتُ صَوْتَ دَنَانِيـرَ
لِأُضَاجِعَ لَيْلاً يَرْوِي ضَوْضَاءَ جَسَدٍ
اُنْسَابَ مِنِّي ذَاتَ أَبْجَدِيَّةٍ رَفَعَتْ حُجُبَهَا (ص: 71)

فالوعي الشعري بالجسد لدى الشاعرة يؤكد على قيمته، وعلى جماله الماهوي، وليس على جماله المادي الخارجي. وهي حين تفعل ذلك فإنما تجعل الجمال المعنوي يتظاهر ماديًّا في الجسد نفسه(9) كما تجعل الجسدَ في الآن ذاته يتوحَّدُ لمفهمة الجمال.

2. توحُّدُ الجسد لِمَفْهَمَة الجمال:

إن الجسد كمعنى في قصائد الديوان يتوحَّدُ، ومن هذا التوحد يشتقُّ مفهوم جديد للجمال على مستوى البنيات اللغوية والتخييلية والصورية والصوتية، مما يجعل من هذه المفهمة رؤية للعالم، وطريقةً في فهمه وتقويمه، متجاوزة بذلك الإرث الإشكالي لعلم الجمال Esthétique الغارق في المفاهيم الفلسفية المحكومة بالمفارقات. فهي تضع الجمال في سياقه العام وهو الإنسان، ليس بوصفه فاعلا للمعنى وللمعرفة، وإنما لأنه يُعطي المعنى وجوده الحق، كما يُعطي المعرفة غائيتها، وما تُوجد من أجله وهو المعنى والقيمة اللذان بهما تقوم الرؤية التشكيلية للجسد.

2.2 رؤية تشكيلية للجسد:

إن انهمام الشاعرة بالجسد ليس نابعا من أركيولوجية الوعي العربي المتهمة بالحسية والشبقية والمادية وقصر الأفق، كما تُشيع ذلك بعض الدراسات المتناولة للشعر العربي، وإنما هو انهمام آت من استحضار مُطلق الخصوبة والرواء والتوحُّد لمواجهة العوالم المُهَدِّدَةِ باندثار الجسد. فهو إذن رؤية تشكيلية جمالية محضٌ للجسد، تستند إلى التخييل، وتهدف إلى تأسيس المعنى الكلي للوجود في هذا الجسد:

وَتَزْعُمُ أَنَّكَ جِرْمٌ صَغِيرٌ وَفِيكَ اُنْطَوَى اُلْعَالَمُ اُلْأَكْبَرُ

رؤية ترفعه إلى مرتبة الجماليِّ المقدَّس الذي تتداخل فيه مفاهيم الجمال والجلال، وتتظاهر بمظاهر متنوعة غايتها تأسيس اللانهائية في الوجود والفعل والقيمة، وتوكيدُ سمو الإنسان ودوامه على الرغم من كل مظاهر الفناء والمحو، فهو كالقصيدة متعدِّدُ الولادات باستمرار:

... وَكُـلَّمَا وُلِـدَتْ قَـصِيـدَةٌ
جَاءَنِي زَائِـرٌ يَقْرَعُ بَابَ اُلْمَعْـنَى
أَطْـرُدُهُ مِـنْ مَـنْفَـايَ
 
لَكِنَّهُ يُـصِرُّ عَلَى نَـشْرِ فَضِيحَتِي
- - - - - - - - - -
 
* - - - - - - - - -
 
- - - - - - - - -
وَ أَهْـتِفُ مِـنْ جُـرْفِ اُلظَّلَامِ
لَا تَـدْخُـلْ إِنِّـي عَـارِيَـةٌ
لَيْسَ فَوْقَ جَسَدِي غَيْرَ ثَوْبِ اُلشِّعْرِ
فَـاُرْحَلْ فَـإِنِّي هُـنَـا بَاقِـيَـةْ
لَكِنَّـهُ يَخُونُنِي لِأَلِـدَ قَصِيدَةً ثَانِيَةْ. (ص:54/55)

وفي ظل هذه الولادة ينهض الجسد متوترا في حيِّزٍ جمالي وحيز إبداعي.

3.2 بوصلة النص الإبداعي:

وتوتُّر الجسد هذا له معادل موضوعي في شعر الشاعرة، وبخاصة إذا أدركنا أن أحد المعالم المميزة له هو التوازي بين الحيز الجمالي والحيز الوطني توازيا يؤدي إلى حالة من التوتر المستدام. وهذا التوتر الدائم هو البوصلة التي تقود نصوصها، وهو قَدَرها الشعري القائم في كل شيء، في المدينة، وفي البادية، في السماء وفي الأرض، لأنها ذات عابرة ومرتحلة، مُقيمة وموزعة بين أمكنة شتى وأزمنة شتى، مأخوذة بجمال البشر والأشياء المُهَدَّدِ بالتشويه والفناء. ولكنها في كل هذا لا تبدِّلُ الوطن كما تُبدِّلُ الملابس والأحذية، فمهما اتسعت المدنُ والأماكن في عينيها وذاكرتها ووجدانها فإن اتساعها الهائل لا يبلغ مدى اتساع الوطن في قلبها:

كَانَ اُلضَّوْءُ فِي كَفِّي
 
قَصِيدَةً طَرِيدَةً
وَحِينَ يَطْوِينِي اُلْوَطَنُ خِفْيَةً
 
بَيْنَ غَمَامِ اُلْكَلَامِ
 
أَتَصَبَّبُ شَظَايَا لَا تُحْسِنُ اُلْاِنْحِنَاءَ. (ص: 59)

)

فالعالم في عين الشاعرة صغيرة، تجول فيه بجواز سفر اسمه المحبة، ولكن حين يطالعها فيه شرٌّ يهَدِّدُ الحياة لا يجد قلبها غير الوطن يتطلع إليها على بُعْدِ خطويتين:

كَانَتْ تُنْحَتُ فِي أحَلاَمِي أَوْطَانٌ

تَنْتَعِلُ أَقْدَامَ اُلْقَـمَرِ

تَقُـودُنِي إِلَيْهَا اُمْرَأَةٌ

دُونَ صَوْتٍ.. وَلَا مَلَامِحَ

تَبِعْتُ صَدَاهَا فَاُهْتَدَيْتْ. (ص: 61)

إن هذا التوتر العالي هو الذي يجعل من نصوصها جسدا جماليا مضاهيا للجسد بمعناه الفيزيقي، ويؤاخي بينهما فيما أطلقنا عليه حضارة المعنى من أجل أن لا يموت الإنسان فينا، ومن أجل إعطاء ذاته شعلة التأويل.

3 تأويل الذات:

تتظاهر قصائد الديوان في ساحة التوتر لتُوحَّدَ الذات الشعرية بالذات المعرفية، وتشتق سؤال الجمال من سؤال الإنسان باعتباره وجودا معرفيا وتحققا حركيا لممكنات حقيقته التي ليست شيئا آخر سوى المعنى في هذا الديوان يرادف سؤال الإنسان نفسه، من حيث أن المعنى هو في النهاية تأويل الإنسان لذاته ولمعرفته تأويلا غائيا يكتسب نظاما منطقيا داخليا، فيتحققُ عالما، وهذا ما يسمى رحلة الإنسان إلى حضارة المعنى، وإلى التحرر من ذاته المجهولة دوما ليجدها في المعرفة (10)

1.3 المعنى مبدأ الإنسان:

فصيرورة الإنسان المعرفية تنبثق من الطابع الإبداعي لوجوده، ومن ثم فإن كل مجالات المعرفة مهما ظهرت مستقلة، هي مجموعة من الدوائر ذات المركز الوحيد. وإن عالم المعنى هو صورة هُولُوغْرَافِية نرى الإنسانَ – الكلَّ في أي جزء منها، بمعنى أنها تَجَسُّدٌ للمكنات في كل حالاتها، بحيث يبقى السؤال هُوَ هُوَ في القصيدة، وفي الأسطورة، وفي الديانة، وفي الوجود. فهل يعني هذا أن المعنى هو مبدأ الإنسان؟ أكيد أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يُوجَدُ للمعنى وبه، ومن هنا كانت لجسده قيمة ومعنى، وكانت حركتهُ خطوة لتأسيس العالم بالوعي الشعري.

2.3 نظام الإظهار والظهور:

والمقصود بالعالم الذي يؤسسه الوعي الشعري هنا هو عالمُ نظام المعنى والمعرفة في حالتي الإظهار والظهور. فالشاعرة تؤسس بديوانها هذا نظامَ معنى يُغري بالكشف عنه، وبالكيفية التي يحدث بها حُدوثا جماليا في الوعي، فقد بنته الشاعرة وفق صراعٍ مستميتٍ بين فضاءين متضادين:

 فضاء عالم الحروب والخراب والقبح
 فضاء عالم المعنى المتشكل جماليا بالذاتية

فعن الأول وما يتخلله من إحباطات وفزعٍ وفراغٍ ومجهوليةٍ تقول:

اُلْمَآذِنُ فِيهِ تُعَاشِرُ اُلرَّصَاصَ
وَ اُلْمَقَابِرُ بِـلَا هُوِّيَّـةٍ
وَأَرْضُنَا ذَبِيحَةٌ قُرْبَانًا لِلطَّامِعِينَ
فَهَلْ هَذَا يَكْفِي َكْي تَعْرِفِي بُؤْسَنَا اُلْكَبِيرْ؟ ( ص: 9)
 
* - - - - - - - -
 
- - - - - - - - -
 
- - - - - - - - -
فِي رَمَادِ اُلْحَرْبِ
دَاسَتِ اُلْمَدَائِنُ نِسْرِينَهَا
خَلَعَتِ اُلْجُدْرَانُ ثَوْبَ عِفَّتِهَا (ص: 18)
 
والذين يتحكمون في هذا الفضاء هم مخلوقات فاشية دمها ظلامٌ وملامحها عنَاكِبُ:
يَرْكَبُونَ طُحْلُبَ اُلْوَهْمِ
يَدُكُّونَ أَشْجَارَ اُلصَّنَوْبَرِ وَ اُلْأَرْزِ
يَشْرَبُونَ دَمَ اُلَأَنْبِيَاءِ
وَيَنَامُونَ فَوْقَ جُثَثِ اُلْأَوْلِيَاءِ
يَتَسَلَّقُونَ جَسَدَ اُلْمَدَائِنِ كَاُلْعَنَاكِبِ
وَيَسْكَرُونَ فِي حَانَاتِ اُلَأَبْرِيَاءِ. ( ص:36)
وعن الثاني المتشكل جماليا بالذاتية الواعية المسؤولة، والمُقَوِّض من الداخل ماهية الأول تقول:
مَشَيْتُ خُطْوَتَيْنِ..ثَـلاَثًا...
وَ إِذَا بِي أَغْزِلُ جَوَازَ مُرُورِي
مِنْ دِفْءِ يَـدَيْـهِ ..
طَوْقُ اُلْبُعْدِ يتَدَثَّرُ مِنْ زَنَابِقِ مَحْوِي
وَ فِي أَحْذِيَةِ اُلشَّوْقِ تُهَرْوِلُ أَسَاطِيرِي
وَهَذَا قَمِيصُ اُلْهَوَى تَتَحَوَّلُ رَائِحَتُهُ
لِإِشَارَاتٍ تَضِيقُ بِهَا بَسَاتِينُ اُلتَّأْوِيلْ. (ص: 43/44)

فالشاعرة(كانت بين يديها جزرٌ من المعاني. ص: 7) التي تنطلق منها لتأسيس العالم الإنساني من الخراب وما يَحُفُّ به، وذلك من منظور جمالي ذي بعدين: البعد الوجودي والبعد المعرفي. وليس إثبات هذين البعدين سوى وسيلة، أما الغاية فهي توفير مُقومات الوجود للإنسان – الآخر. فهو وجود متأسسٌ في الوعي وبه من أجل الإنسان ليحميه من أي خراب، وليفتح فرديته على الآخرية ويُنقذها من عزلتها الضيقة. فنظام الإظهار والظهور هو مفتاح الوعي الاستعاري لدى الشاعرة؛ إذ به يتم الدخول إلى الإبستيمولوجية الجمالية لديوانها.

3.3 الوعي الاستعاري:

إن وعي الشاعرة الاستعاري يقوم على تشكيل الإدراك الحسي للواقع، وتحويله إلى رؤية تستخلص ما هو جوهري فيه، وأبز مثال لهذا قصيدة "أزرار من سترة عسكرية" ص: 15 إلى 20" وقصيدة "سمر على حافة السؤال ص: 10 إلى 14"، ذلك لأن الشعر – بوصفه فنًّا وعلمًا ومعرفة ودراية (11) – ما هو إلا تأويل رمزي للواقع (12)، ومن هنا فإن استعارية الوعي الشعري أو رمزيته هذه هي التي تُحَدِّدُ الماهية الإبيستيمولوجية لجمالية شعر نجاة الزباير إيقاعا ولغة وتخييلا، من حيث أنها التحققُ العينيُّ للترميز أو التحويل الاستعاري الذي يقوم به وعي الشاعرة للزمان.

فلغتها تتميز بانزياحٍ شديد يؤكد انحرافَها عن كل ما هو عادي وشائعٌ في اللغة العادية دلاليا وتركيبيا، فهي لغة مخيلة؛ لتشابه أصوات ألفاظها أثرٌ بالغ في إفادة التخييل الشعري (13). وهذا التميز اللغوي الواعي هو نتيجة الفعالية الإستيطيقية التي تمارس وجودها في الزمن لاختبار الشكل الذي تتخذه الذاكرة في سعيها لبناء المعرفة الشعرية بشكل استيعاري رمزي. فالزمن الوجودي عند الشاعرة يتخذ طابعا استعاريا مجسَّدا في اللغة، وعلى مُستويَيها الإشاريين (= الدال والمدلول)، فعلى المستوى الأول تتحرك الفاعلية الاستيطيقية لاستعارة الوعي الشعري باتجاه إقامة علاقات منتظمة بين البُنَى الزمنية (= الصوتية والصرفية والمعجمية) للدلالات اللغوية، بحيث تتخذ نمطا تركيبيا معينا، مكونةً البعد الأفقي للتشكيل الشعري. وعلى المستوى الثاني تتحقق العلاقات التنظيمية هاته بين المدلولات فتكتسب النمط التركيبي الذي للمستوى الأول نفسه، ولكنه هنا يتحول إلى البُعد العمودي للتشكيل (= الدلالة الشعرية الجمالية). بمعنى أن كلا من البعدين لا يوجدُ بمعزل عن الآخر، فهما معًا متزامنان في وحدة الفعل الشعري ومشتركان في أداء الوظيفة الجمالية للظاهرة الشعرية (14). وبهذا تكون الشاعرة نجاة قد توغلت في مجاهيل الشعرية للإفصاح عن الإحساس بالوجود.

4.3 مغامرة مُفْصِحَةٌ عن الإحساس:

إن المسافر في هذا الديوان سيكتشف لا محالة أمرين أسَاسيين؛ هما:

أولا: أنه طريقة مغايرة راقية في التعبير.

ثانيا: أنه مغامرة العقل الأولى المُفصحة عن الإحساس بالمصير المشترك، وعن هشاشة الكائن، وطفرة الخيال الرحب، وصلابة الإرادة، ونداوة اللغة، ونشوة المحبة. فالشاعرة سلكت فيه طريقا يُشبه طريق المتصوف، فكلاهما مدفوع بالمحبة والجمال (15) أكثر مما هو مدفوع بالمعرفة، على الرغم مما تولده المحبة والجمال من معرفة، والمعرفة من محبة وجمال.

تحقق جوهرية القصيدة فيها:

هذه هي آثار قدم الريح التي تقبض عليها الشاعرة نجاة الزباير، وهي آثارٌ تعني بالدرجة الأولى أن هذا الديوان قد تحققت فيه جوهرية القصيدة، وذلك بانفصالها عن محتواها الدال، وتمكنها من تجاوز عالم الأشياء التي هي نِسَبٌ لا عينَ لها،الأمر الذي جعلها تستحيل إلى طاقة شعورية واعية، تتفجر بالتماسِّ والتفاعل بين حساسية الشاعرة والمتلقي في عالمٍ مشتركٍ بينهما، من الحرية والتوتر والغربة وشساعة المعنى، مجرَّدٍ عن الذكريات والعلاقات وجميع التصورات المحدَّدَة بالزمان والمكان في إدراكنا لها، تقول الشاعرة:

لِتَهْرُبَ اُلْقَصِيدَةُ مِنْ ثُقْبِ اُلْجِرَاحْ (ص:12)

وهنا تُطرح إشكالية قصيدة الشاعرة كشبكة علاقات متنافذة تُحتم التساؤل عن علاقة العالم الرؤيوي للشاعرة بالوسط الميتافيزيقي الذي تتعامل معه تاريخيا وواقعيا، وتنتسب إليه ثقافيا، وتعايشه اجتماعيا، وعن اختلاف ميتافيزياء التعالي عندها عن ميتافيزياء الكون التي تنتسب ثقافيا واجتماعيا وتاريخيا إلى حضارة كل منهما. أَلِكُلِّ هذا علاقة بالذات والتاريخ والحرية؟

من المحقق الذي لا ريب فيه أن الشاعرة في هذا الديوان تبحث لتتجدد، وتتجدد لتكون، وذلك وفق قانون الاغتراب الذي شرعه أبوتمام حين قال: "...فاغترِبْ تَتَجَدَّدِ" . وهذا التجدد لا يتم إلا بخطوتين نوعيتَيْنِ هما المحرِّكتين لوعي الشاعرة بالأشياء وتحديد أعيانها:

 خطوة الحدس المتدفق بالمعرفة الساخنة المباشرة المجنحة.
 خطوة التفكير المتأني القائم على المدركات، وعلى الرؤية النافذة والتركيب الرزين.

وكل خطوة من هاتين الخطوتين حاضرةٌ في الأخرى ومراقبة لها، وشاهدةٌ عليها داخل العمق الخلفي لقصيدة الشاعرة، ومُبَلْوِرَةٌ خصائصها التالية:

1. القيمة الموسيقية المستقلة للكلمة الشعرية، وامتيازاتها الجمالية، باعتبارها وحدة تركيبية أساسية في البناء العام للقصيدة.

2. انفلات القصيدة من واحدية المعنى، بحيث لا يمكن تعيين موضوع لها إلا بالإيماءة الذكية، و الإيحاءة التخييلية الخفية، لأنها حالة نفسية بصائرية تتفاعل بين العالمين الرؤيويين للشاعرة والمتلقي.

5. ارتفاع الشاعرة بمادة القصيدة المُعَبِّرَة في مجموعها عن "فكرة"، في أغوار نفسها، إلى عالم من الأنوار والشفوف والسِّحْرِ والبُهْرِ تبنيه أساسا بالخيال الخلاق.

إن ديوان "أقبض قدم الريح" في بنيته العميقة يُعلي من قيمة الإنسان ككائن مُكوَّنٍ من معادلة هي:

فآخر حرف في الروح وأول حرف في البدن يُكونان كلمة الحب؛ التي بها يكون الإنسان إنسانا سويا، وبانعدامها تُصبح الروح شاردة، والبدنُ دنًّا فارغا من الرَّوْحِ/ فسر الكائن الإنساني يكمُن في اجتماع هذين الحرفين، وشقاؤه ينبع من افتراقهما. ولذلك أولت الشاعرة الحبَّ مكانا عَلِيًّا، وأفرغته في لغة ذات أرشيف جمالي وحضاري متوهج باستعاراته ومجازاته وتورياته وتشبيهاته، منقوش على جسد القصيدة، وفي ذاكرتها. ولا شك أن هذا هو من أسباب قوةِ هذا الديوان، وثبوت سلطته الشعرية على المتعطشين للأكوان الشعرية الأنيقة.

إنه ديوان يساهم في إعادة تركيب الحساسية الشعرية على ضوء المعطيات الحياتية والكونية المتجددة في هذا العالم الذي " يتحدانا جميعا ونتحداه بخطرٍ، لنفهمَ ونُقَدِّرَ ونُبْدعَ، أكثر مما فَهِمَ وقدَّرَ وأَبْدَعَ الإنسانُ في الماضي." (16)

الهوامش:

(أقبض قدم الريح) ديوان شعري للشاعرة نجاة الزباير، صادر عن دار وليلي بمراكش سنة 2007 في طبعة أولى باذخة الأناقة. وكل الاستشهادات ستكون منه متبوعة بصفحاتها فيه.

1. أحمد بلحاج آية وارهام: الرؤية الصوفية للجمال منطلقاتها الكونية وأبعادها الوجودية، مخطوط، ج2 ص: 138

2. ابن منظور : لسان العرب، مادة (راح) ومادة (قصد) – وانظر كذلك الدلالات الحافة لمادة (ريح) وتعالقاتها مع الدلالات العميقة لمادة (قصيدة) في (تاج العروس) للزبيدي

3. طه حسين: جنة الشوك/ ط21،ة دار المعارف القاهرة 1986 م، ص: 15.

4. د. هلال الجهاد: جماليات الشعر العربي دراسة في فلسفة الجمال، ط1، مركز دراسات الوحدة العربية، سلسلة أطروحات الدكتوراه (65)، بيروت، يونيو 2007م، ص:21.

5. المرجع السابق، ص: 22.

6. عبد القادر الجموسي: عبد الكريم كاصد الشاعر خارج النص، ط1، المطبعة السريعة، القنيطرة 2007م، ص: 117.

7. جماليات الشعر العربي، مذكور، ص: 25.

8. المرجع السابق، ص: 25.

9. نفسه، ص: 27.

10. نفسه، ص: 53.

11. ابن منظور: لسان العرب، مادة (شعر)

12. إرْنِسْتْ كَاسِيرِرْ: مدخل إلى فلسفة الحضارة الإنسانية، أو مقال في الإنسان، ترجمة إحسان عباس، دار الأندلس، بيروت 1961م، ص: 255

13. ألفت كمال الروبي: نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، د،ت، ص: 169

14. جماليات الشعر العربي، مشار إليه، ص: 104.

15. أحمد بلحاج آية وارهام: شجرة الماء الحي، مجلة (عوارف)، فصلية تعنى بالفكر الصوفي، العدد: 3، طنجة 2007 م.

16. عبد الله إبراهيم: بالذكاء وقوة الكلمة، ط1، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء 1410هـ / 1990م، ص: 76.

(أقبض قدم الريح) للشاعرة نجاة الزباير

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى