الأحد ١٦ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم مجدي علي السماك

وجبة كبيرة

لمّا اشتد الحصار على غزة وطال حتى يئس عوض من الحصول على أي فرصة للعمل باع أسورة الذهب التي تزين معصم زوجته، واشترى بثمنها كومة كبيرة من البطيخ. ثم صنع عريشه من جريد النخيل واخذ يمكث بها من الصباح حتى الليل. وهي فرصة أيضا للقاء أصدقائه للتسلية معهم في النهار والسمر حتى منتصف الليل.. وإن كان قد علَّقَ يافطة كبيرة من الورق المقوى وكتب عليها بخط رديء بالكاد يمكن قراءته : الدَّين ممنوع والعتب مرفوع والرزق على الله.

في جلسة عوض الأخيرة مع أصدقائه ظهر لهم من بعيد حمار هزيل برزت عظام مفاصله و بالكاد يستطيع المشي، و يئن بحمل حمدان وقد اخذ يلكزه بعقب صندله كي يحثه على الإسراع. ما أن رأوه قادما حتى غرقوا في الضحك والقهقهة المجلجلة.. واخذوا يتذكرون نوادره التي قيلت أمامهم ملايين المرات. فذكر احدهم كيف أن حمدان خلال الانتفاضة الأولى وضع كيسا صغيرا من النايلون في منتصف الشارع مما استدعى الجيش إلى جلب خبراء المتفجرات من تل أبيب ليكتشفوا انه كيس مملوء بالزبالة.

وذكر آخر كيف امسك به الجيش ذات يوم وهو يقذفهم بالحجارة فتظاهر بالجنون فأخلى الجند سبيله بعد أن أشبعوه ضربا، فضحكوا كثيرا حتى أخذت موجات الضحك تتعالى مستدعية موجات أخرى وراءها.. أما عوض فذكر لهم كيف أن الجند داهموا الحارة ذات يوم أثناء قيام حمدان بكتابة الشعارات الوطنية على الجدران، فارتبك و اختلطت عليه الأمور فبدل أن يهرب مبتعدا عن الجند جرى باتجاههم وارتطم بسيارتهم العسكرية فامسكوا به وسجنوه ستة شهور.. أخذت أجسادهم تهتز من شدة الضحك.. وضرب احدهم كفا بكف ناسيا أن بيده سيجارة فلسعته مما زاد من قوة تيارات الضحك العاتية المتعالية مع كل إشارة أو إيماءة أو كلمة من احدهم. على الرغم من احترامهم وحبهم لحمدان إلا أنهم كثيروا التندر به ويحبون مداعبته واستفزازه في أحيان ليست قليلة.. مع إدراكهم تمام الإدراك مدى ذكاءه الحاد ودهاءه النادر وشجاعته الفائقة.

وصل حمدان وألقى التحية فردوها بحفاوة، حاول احدهم كتم ضحكة مباغتة لكنها خرجت مكتومة كعطسة الخروف. ثم طلبوا منه النزول عن ظهر الحمار ليشاركهم الحديث.. وصبّ له احدهم الشاي. تعمد عوض استفزازه كعادته فقال له متظاهرا الجد: أنت اضعف من حمارك يا حمدان.. فتعالت الضحكات والقهقهات الصاخبة حتى كادوا أن يختنقوا بجرعات الشاي فنفثوها من أفواههم كالنوافير في وجوه بعضهم البعض.. احدهم سالت ريالته وهو يسعل وجحظت عيناه بحشرجة خشنة متقطعة. لاح وجه حمدان بنصف ابتسامة صفراء وقال متصنعا الهزل: دعني آكل من هذا البطيخ علّني اسمن.. قالها وشفرات الجوع تفرم معدته.
 عوض : بإمكانك أن تأكل ما تريد.
 حمدان : حتى اشبع أنا وحماري ؟!
 عوض : موافق
 حمدان : كلام رجال ؟
 عوض : نعم. كلام رجال !... قالها وهو يبرم طرفي شاربه الكث.
 حمدان : انتم شهود على هذا الكلام يا رجال.

قالوا جميعا بإيقاع واحد أنهم يشهدون على ذلك. شمر حمدان عن ساعديه واخرج من الخرج سكينا كبيرا و انتقى بطيخة ضخمة و شقها واخذ يأكلها بشراهة ويلقي بالقشور إلى الحمار الجائع الذي اخذ يلتهمها باطمئنان زائد وكأنه فهم الاتفاق ومراميه البعيدة. مدَّ حمدان يده وتناول بطيخة ثانية وفعل ما فعله مع الأولى. وهكذا استمر يتناول البطيخ واحدة إثر الأخرى ويأكل حتى امتقع وجه عوض وتخضب بالحمرة لكثرة ما أكل حمدان من بطيخ، وهو الذي يمتاز ببشرة بيضاء وملساء مثل حبة الباذنجان. شبع الحمار من الأكل وانتفخ بطنه فأخذت تتكوم أمامه القشور.

توقف حمدان عن الأكل ففرح عوض وانبسط وجهه المشدود العابس.. لكن حمدان فك الزر عن بنطاله وعاود الأكل ثانية منتقيا البطيخات الكبيرات يشقها ويلقي بالقشور إلى نفس الكومة أمام الحمار الشبعان.. وعوض ينظر ويكاد أن تفقع مرارته وهو يحدق في حمدان وكأنه لا يصدق ما يرى.. وبقية الرجال يحدقون أيضا مشدوهين وقد حل بهم العجب ونال منهم الغيظ.. أما عوض فقد نسي لذهوله الاستمرار في عدّ ما يأكله حمدان من بطيخ.. آخر عدد يذكره هو تسعة، ولكن هذا الرقم كان قبل أن يشبع الحمار.. مما زاد من حنق عوض على نفسه وعلى اليوم الذي باع به أسورة زوجته ليتاجر بالبطيخ، وترجم حنقه إلى سيل من الشتائم طالت جدوده الأوائل وعصفت بشجرة عائلته كلها.

توقف حمدان مرة أخرى عن الأكل.. فشعر عوض بالارتياح الممزوج بالنكد. تناول حمدان إبريق الماء وأخذ يشرب بنهم شديد.. ثم تابع شق البطيخ ليأكله والاحتفاظ بالقشور. صار عوض ينظر إليه بعيون شاردة وقد أحنى ظهره و وضع يده على بطنه كالممغوص.

توقف حمدان عن الأكل وخطا نحو قشور البطيخ يلملمها وعبأها في كيس كبير وربطه بحبل مجدول.. ثم طلب من عوض أن يساعده في رفع الكيس على ظهر الحمار، فساعده عوض وقد بدا على وجهه علامات النوم المغناطيسي.. همّ حمدان بالمغادرة لكن عوض زعق به ساخرا غاضبا متأففا: كلّ المزيد ! يبدو انك لم تشبع بعد ؟!

فعاد حمدان وتناول بطيخة أخرى وشقها وأخذ يلتهمها قائلا بهدوء : سآكل هذه البطيخة من أجلك.. خشية أن تزعل.

ركب حمدان حماره وذهب وهو يضحك و يقهقه حتى اهتزت كتفاه.. وأخذ يردد بصوت خافت : يا رب سامحني.. لا احد يعلم إلى متى سيطول الحصار.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى