السبت ١٥ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم بيانكا ماضية

صورتان وشمس واحدة

مهداة إلى الشاعر والروائي إبراهيم نصر الله

متوترُ الأعصاب، منفعلٌ، ذهنه مشتت ضائع، شيء ما يغلي في عروق جسده، يجعله غير مستكين لحالة واحدة، يذرع أرض غرفته ذهاباً وإياباً، يضع يديه في جيبي بنطاله كأنه ينتظر أمراً ما، ثم يخرجهما ليمسح بإحداهما جبهته التي تتصبب غلياناً، يحضّر فنجان قهوة، ثم يجلس ليرتشفه، يتخيل مايجري الآن في تلك البقعة من الأرض الفلسطينية، في ساحة من ساحات مدينة حيفا ، ساحة امتلأت عن آخرها بسلالة شعب تغلغل في سطور روايته الجديدة التي يتحدثون عنها الآن في حفل تكريمه... ينهض إلى حاسوبه ليرى إن كان أحد منظمي الحفل قد أرسل إليه تلك الكلمات التي تبحر في ثنايا روايته ... لاشيء في بريده الإلكتروني ينم عن حروف وصلته من مكان أحداث الرواية ... تضطرب أفكاره وتتصارع ويصمت المكان الذي يقبع فيه، تتجمد حروفه في حالة من الدهشة، ويئن قلمه من فرط انفعال صاحبه، كل شيء في منزله الكائن في مدينة رحل إليها قسراً يصغي إلى دقات قلبه المتسارعة، حتى الخيولُ التي كانت بطلة روايته تصهل الآن في الصفحات ...

لم يكن باستطاعته إلقاء كلمته في ذاك الحفل إلا عبر شريط مرئي مسجل، لتطل صورته عبر شاشة كبيرة نصبت على جدار الساحة ... وما إن أطل على الآلاف التي احتشدت حتى راح الجميع يصفق محيياً هذا الكاتب الروائي الذي نأت به المأساة عن مدينته، ثم سادت حالة من السكون والإصغاء لكلمات تعبّر عن فرح وحزن، لكلمات عبرت بحاراً ميتة لتصل إلى الأسماع ...

كان جالساً يتخيل هذه اللحظة التي يطل من خلالها على أبناء شعبه الذي بيّض آلاف الصفحات عنه، ستون سنة من تاريخ هذا الشعب حتى احتلال أرضه، موزعة على فصول الرواية، وستون قطعة استحال جسده إليها ..

لم تكن حالة الانقسام الجسدي وانكسار الروح التي يمر بها الآن قد داهمته للمرة الأولى، كان في كل فصل من فصول الرواية مبعثر الأجزاء والذاكرة والروح ... كان جثة هامدة مع آلاف الجثث التي اصطبغت صفحات الرواية بدمائها.

عبر الشاشة البيضاء التي ترنو إليها العيون، راح يلقي كلمته مبتسماً للتقدير الذي يلقاه وهو بعيد عن أرضه ...

وفي تلك الغرفة التي تحتضنه كان ثمة تجهم على الوجه، وثمة دموع تنفر من العينين ....

كان يشكر القائمين على الحفل لاحتفائهم بروايته الجديدة في الذكرى الستين لاحتلال أرضه، وبينه وبين جدران غرفته يلعن الساعة التي غابت فيها بلاده عن عينيه .

لم يكن ليختصر روايته ببضع كلمات يقولها للحشود، ولا ليبرز معاناته وهو يكتب فصول الرواية، بل كان يحاور الموتَ بطريقته، يعلن انتصاره عليه بفرح زمن قد يأتي أو لا يأتي...

وبينه وبين نفسه يكاد الموت يمزقه تمزيقاً، تكاد الحسرات والعبرات تعلن انتصارها عليه، الجسد ملقى على الأريكة، والذاكرة تغوص في البعيد، والخيال متسمّر في تلك الساحة ....

عند الجدار الذي يعلقون عليه مصدر عذابي في هذه الساحة، تعرفت إلى صديقة طفولتي، ولأولِ مرة يداهمني عطر طفولة عبق به أحد البيوت المجاورة لبيتنا، كانت تفك ضفائرَها لتربط خصلات الشعر المسافر مع النسائم بشريط ملوّن، يومها أمسكت بذاك الشريط لأربطه لها بيديّ، فسرت في نفسي ليونة الشعر المنسدل، سألتني هل رأيت البحرَ، فأمسكتُ بيدها واتجهتُ بها صوب الشاطئ، كنا نركضُ ونلتفتُ إلى آثار أقدامنا على الرمل المذهّب، في الأفق البعيد لاح لنا قارب صغير يتهادى مع الأمواج، وددنا لو كنا في ذاك القارب وسط البحر نمعن النظر في زُرقة مخضبة باللون الأخضر، ننظر إلى الأسماك التي تحيط بالقارب، نمد أيدينا إلى سطور تنفلت من مياه البحر، نرش بعضنا برذاذٍ يبقى أثره على وجهينا ...جلسنا على رمل الشاطئ نبني بيوتاً وأحلاماً، نرسل تفاصيلها لموجة تعبرنا، نصنع زوارق من صفحات دفاترَ كانت بجعبتنا ...

اعتاد الشاطئ أن يرانا كل يوم قبل أن تودعه الشمس لتغوص ملوّحة بلونها البرتقالي، واعتدنا أن نرسل كل يوم زورقاً نكتب فيه عنواني أغنيتين، واحد بخطها، والآخر بخطي، كانت آخر جملتين وشمناهما على سطح الزورق : (راجعين ياهوى راجعين ... ونحن والقمر جيران) ومذاك اليوم لم أعد أرى قمر جيراننا ...

نظر إلى قلمه، أصاخ السمع جيداً إلى أنينه ... كانت قطرات الحبر تموج تأوهاً، والصفحات البيضاء تغويه لملئها بحكايات بعيدة ...

وانتفض القلم من حزنه، رافضاً لونَه الأسود، وراح يدوِّن بلون روحه فصولَ روايةٍ جديدةٍ يمسك في بدايتها بأطراف شمس كانت تغيب في الأفق وفي عينيها زورق وأغنيتان .

مهداة إلى الشاعر والروائي إبراهيم نصر الله

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى