الثلاثاء ١٨ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم عاصم بدرالدين

الجنون العاري

كلما إستيقظ رضا شعر أن بيته يحترق، في منامه يشتم رائحة الحريق، وعندما يفيق تسيطر عليه.. يفيق على تلك الرائحة العجيبة يجلس على سريره الذي لا يملك سواه ويشعل سيجارة و"يدخن" وينفخ فيتحول منزله إلى حريق كبير.. لا نافذة في هذا البيت-الغرفة، الضوء لا يدخل إلا نادراً.. ولا الكهرباء، ظلمة مستمرة ورائحة السيجارة تتحكم بالجو.. وهو يعيش الإحتراق، يحترق في دخان السيجارة ونار الأيام، وبرد الشتاء ولهيب الصيف.

كلما إستيقظ شعر أن بيته يحترق وإشتم تلك الرائحة الغريبة.. ويشعل السيجارة، الغريب في حياة ذلك الرجل أن أحداث نهاره متكررة بإستمرار وتعيد نفسها، كل أيامه لا تحمل جديد إلا فيما ندر، مثلا أن يستيقظ ولا يشتم تلك الرائحة وذلك بسبب الرشح الذي أصابه..

أصبحت تلك الرائحة الغريبة جزء من حياته المستمرة، لأن الله لم يأخذ بعد روحه.. فهو يعيش لأنه لم يمت بعد.. ولكنه ينتظر تلك اللحظة الخاطفة. الفقير في مثل حالته لا يفكر إلا في الموت أو في فانوس سحري ينتشله من ظلمة هذا المعتوه الذي أسموه الفقر.. هذا الإنسان لا يحلم بالفوانيس فهو لا يصدق، لا يؤمن بهذه الخرافات،أمه كانت ترويها له ولكنه لم يصدق "أنا لا أصدق هذه الأكذوبة، كيف هذا؟ أيعقل أن يخرج من إبريق الشاي رجل عملاق قادر على كل شيء؟ غير ممكن وكُفي عن سرد هكذا قصص السخيفة.. أخبريني عن اليوم الذي أكلتي فيه اللحم!" إنه يحلم بالموت يأكله في جوعه، يشربه مع ظمأه، وكم هو سهل، يستطيع الإنتحار، لماذا لم يفكر في الأمر مسبقاً:"أستطيع أن أنتحر،يا لها من فكرة مميزة،لم تخطر في بالي من قبل..سأنتحر وأرتاح، هذه الحياة لا شيء.. هنا موت حقيقي وهناك الحياة والراحة والهدوء، هنا رائحة غريبة، رائحة حريق ونار تشوي الروح والجسد، وهناك الجمال والعطر.. كرهت هذا القبو وتلك الرائحة وهذه السيجارة، أنا أعرف أنها تضر وتقتل لذلك أشربها بكثرة، علها تفلح في قتلي بعدما فشلت كل الحروب.. لماذا لم يجعل الله الموت إختيارياً؟ ألا يحق لي أن أموت ساعة أشاء؟ لقد مللت هذه الرائحة وهذه الحياة الرتيبة المتكررة.. الموت أفضل، الموت يخلصني من ظلمة هذه الغرفة والحياة.. حياتي ظلام ورائحة إحتراق.. حياتي جوع وتعب وكفر، أنا أكفر في الحياة، فلماذا لا أموت؟ سأنتحر، هذا خياري الوحيد، لم يبق لي شيء في هذه الدنيا، لا أولاد لا زوجة لا أهل.. ولا مال... ولا لا لا. سأموت إذن، سأغير مسار الطبيعة والحياة، سأجعل موتي بإرادتي، لم أعد أملك سوى حريتي، وسأستثمرها الأن وأختار الوقت والمكان المناسب لموتي، أقصد لإنتحاري".

أفاق من تدافع أفكاره.. نهض وجلس ينفخ دخان سيجارته.. كان يفكر، فهو يشغل عقله لينسى، لينسى الألم والجوع، لينسى تلك الرائحة والمرارة، لينسى أنه ما يزال على قيد الحياة.. كان يمشي في الشوارع ويقرأ على لوحات كبيرة عبارة "أنا أحب الحياة"، إنه يجيد القراءة فلقد علمته إياها أمه.. أمه تعلمت من أباها شيخ قريتها هناك في الضيعة البعيدة التي نسيََّ إسمها حتى.. نسيّ كل شيء إلا تلك اللوحة الحمراء المزينة بالأحرف"إنهم يحبون الحياة، ويدفعون لأجلها ثمن تلك اللوحات الضخمة، لماذا لا يحبون الحياة بطرق أخرى، أنا لا أحب الحياة، أنا أرغب في الموت الأن وفي هذه اللحظة، أريد العيش هناك في ما بعد الموت وليس هنا، يا ليتهم أحبوا الحياة بطريقة أخرى، لماذا لا يحبون الحياة بمساعدتي؟ ألا يحق لي أيضاً أن أعيش و أحيا؟ ألست إنساناً؟ أنا لا أكره الحياة بالمطلق، أكره حياتي أنا فقط، لأنها ليست حياة، هي لا شيء، هي فراغ وتكرار وأيام تمضي وأخرى تأتي، وأنا لا شيء، هذه ليست حياة، هذا موت بطيء، إنهم ينافقون، الذي يحب الحياة لا يعلن، لا يدفع كل هذه الأموال لكي يخبرنا أنه يحبها! وكيف لا وهم لم يشتموا يوماً هذه الرائحة ولم يتخيلوا أبداً أجسادهم تحترق وأملاكهم كذلك؟ كيف لا ولم يناموا يوماً جياع و عطشى؟ وكيف لا ولم يحترقوا ببرد الشتاء ولم يبردوا بشرارات الصيف؟!! أنا لست بحاقد، أنا أسأل فقط، لماذا لا يكون حبهم للحياة.. عطفاً على الأخرين.. الفقراء، نحن، ويداً مساعدة لهم؟ كنت أقول لأمي رحمها الله:حين أكبر وأجمع المال الكثير سأتبنى كل أطفال العالم المحتاجين والمشردين وأبني لهم قصراً وأضع لهم فيه كل ما حُرمت منه، كل ما حلمت به لنفسي.. أجعل رغباتي بهم تتحقق.. كانت أفكاراً بلهاء، لا جمعت المال ولا الأطفال، أنا أشفق على أبناء حالتي الصغار أكثر من الكبار، لأن ذاكرتي تعيدني إلى نفسي صغيراً.. تعيدني إلى ذلك الطفل الذي دفن براءته مبكراً، يرميها في البيت كما يرمي الأولاد المرفهين ألعابهم على الأرض، حين أخرج من البيت أتحول من طفل تحكي له أمه قصصاً كي ينام إلى رجل يسعى لتأمين الطعام لأمه الحنونة، رغم قسوتها كنت أراها حنونة، لا أعرف حين تضربني أحبها أكثر، ربما لأني لا أملك غيرها.. أنا لا أملك شيء سوى أمي، هكذا عندما كانت حية، وحين رحلت إلى ذلك المكان لم أعد أملك إلا فتات ذكراها.. وكأن الله يعاقبني فوق فقري بنسيان والدتي، ما عدت أذكر إلا صور قليلة وجامدة.."

حبل كلامه موصول بعيني شقيقي، أذكرها تماماً، اذكر تلك الغصة الطفولية، الجامعة لكل ألوان العذاب. لم تدمع عيناه حين إستعاد صورة والدته، وكذلك أخي لم يبك حين رأى أمي تدفن في حفرة ظلمة سوداء، لكنهما يتشابهان في النظرة، وكأنني الأن أمام أخي، في لحظة الوداع التي لم أفهم معناها إلا بعد سنين طوال، الدموع ليست الدليل الوحيد على الحزن، نقاط غريبة تنتشر في أنحاء العين تشير إلى الحزن والكآبة وأنا أراها الآن في عيني هذا الرجل، أرى أمه تذكره وتبكي وهو يحمل في نظراته شوقاً حزيناً، وحنيناً مؤلم، لذكرى، لجسد، لروح رحلت.. وهي أمه كما كانت أمي في عيني شقيقي.. يلمُّ عواطفه من ساحة الجدال الحزين ويستمر في ملامسة الماضي مستحضراً إياه إلى حاضرٍ أشد وطأة فيرسم في حركة يديه الساكنة حالة الفوضى الجنونية، وبإرتجافة جسده زلزالاً ضرب نفسه وروحه، فجعل منه مجرد ذكرى لأوجاع وطن سلم قدره لجراذين الأزقة والشوارع.

"أمي رحلت وأنا ما زلت هنا أقبع في خيمة، بيتي كالخيمة.. حتى الخيمة أفضل منه! طفلاً في البيت ورجلاً في الخارج.. والأن في البيت وخارجه الشيء نفسه، أنا رجل معتل مريض، لا يحلم بشيء سوى الموت، أحب الحياة وهي تكرهني.. ولكنها لا تقتلني.. أذكر أنني في ما أسموه حرباً أهلية خطفت ولكني لم أقتل، كنت ماراً في أحد الشوارع ناشداً الموت، تخيلوا منذ ثلاثين سنة أحلم بالموت.. إختطفني أحدهم من ثم أطلق سراحي.. المجرمون لا يقتلون الفقراء هكذا إعتقدت حينها، أشفق عليّ لأني فقير مثله.. فرحت للفكرة، لكن جاري خليل والأخر حسن قد قتلا وهما من الفقراء. في الحرب الأهلية لم أسمع يوماً أن الملياردير "كذا" قد خطف أو جرح أو قتل.. كيف يحصل كل هذا وهو أصلا ً خارج المكان الذي تحول إلى مجزرة؟ الأغنياء سافروا جميعاً وتركوا هذه الأرض للفقراء فإستباحوا أرواح وأجساد بعضهم.. ما زلت أذكر ذلك الطفل البريء ولكنه غريب.. كنت أتمشى في إحدى المناطق التي أسموها في تلك المرحلة خطوط تماس، رأيته ينزف دماً ويبكي.. الكل كان يبكي في تلك الحرب، والكل مجروح ومشلول ومقتول.. لكن هذا الطفل كان غريباً، كان يبكي ويصرخ ويمسح دمه، كان دماً أسوداً، أنا متأكد أن دمه كان أسوداً، لم يكن أحمر اللون، لم أرَ في حياتي دماً أسوداً، أخبرت صديقي سليم عنه، لم يصدق لا بل سخر مني وأتهمني بالجنون وإنتشر خبر جنوني في المدينة المجنونة.. فالجنون في ذلك الوقت كان مرضاً شائعاً، حتى العقلاء مجانين، أنا ما زلت أصر أن دمه أسود ويمسحه بيده ويطلق الرصاص، الغرابة ليست في الدم وحده ولكن أيضاً في السلاح، طفل.. أنه طفل لم يبلغ بعد الثانية عشرة أو في حدودها يحمل سلاحاً ويطلق النار عشوائياً ودمه أسود وهو يمسحه ويصرخ مطلقاً النار.. الحرب لا ترحم، لا ترحم الفقير فقط، الأغنياء يحبون الحروب كلها لأنهم يخرجون من بيوتهم التي ستصبح ركام، يسافرون إلى حيث يشاؤون، أما نحن معشر الفقراء فنبقى هنا، في سجن الحرب، المدن تتحول إلى سجن كبير في الحروب، وعندما يعودون يتأثرون كثيراً بمنظر بيوتهم المهدمة ويلعنوننا كثيراً، ولكنهم بذكاء حاد يأخذون التعويض عن بيوتهم وعن أرواحنا.. أنا لست بحاقد، أنا أستعيد ذاكرتي، هذه المرة الأخيرة قبل أن أرحل، وقت الرحيل قد حان.. لم يصدق أحد أن دمه أسود ويطلق الرصاص يميناً وشمالاً "المجرم الصغير"، لا بأس أنه صغير، ولكن ماذا عن المجرمين الكبار؟ علي (...) أنا أعرفه جيداً، خلال الحرب كان مسؤولاً في إحدى الميلشيات في المنطقة التي أسكن فيها.. كان لا يمل من الحديث عن الأغنياء والتنظير الثوري ويحدثنا عن الغد المريح المرفه.. إستطاع أن يجيش الجميع، لمَّ حوله خيرة شباب المنطقة، وأصبح ضبع المنطقة وسبعها، الجميع يهابه، أذكر أني ضربت على يديه مرات عدة، طبعاً مسح بكرامتي الأرض، ولم أخجل لأن كرامة الجميع ممسوحة على بساط الحرب الدامية، الناس حينها ما عادت تفكر بالغير، ما عاد يهمها الأخر كل همها أن تعيش أكثر وأكثر،لتمر حياتهم دون عذاب.. دون أن يتحولوا إلى أشلاء ويتهافت الناس على جمعهم.."

موجات الغضب المستعر، تجتاح الوجه العتيق، تنتفض المسام المسالمة، فتظهر ألوان الحقد.. اليدان ترتفعان وتسبحان في أفكار غريبة مضمورة داخل هذا الرجل، يصير كالمشلول في جمود غريب، وإسم ذاك الشخص يثير الوجع في قلبه، فيخرج كل أشكال السباب الصادق من جسده النحيل الآيل لذوابان، كالسم يخرج الإسم من الفم، وكالسم يطوف على مسامع الآذن.. وهو يتحدث عن الجثث والأشلاء بهدوء المشاهد البعيد عن المجزرة، هي الحرب ربما، وتكرار الحدث جعل من الموت الفظيع هذا أمراً عادياً، عاديته هذه أدخلته بسرعة وبساطة في الأحاديث العامة دون أي تأثر.. أو علامات فارقة ترتسم على الجسد!

"ضُربت كثيراً منه، لأني لم أكن أقاتل معه، أنا لم اقاتل لأنني أكره السلاح، أكره القتل، أكره الدم.. وأمي كذلك، أمي توسلت إليه أن يتركني وشأني، فأنا ما تبقى لها، بعد رحيل زوجها، أبي الذي لم أراه، فرض عليّ أن أكون أبنه، ولم يجبر نفسه على رؤيتي حتى.. ذكر ذلك المشهد أمي تترجى الأخ علي-كما كانوا يسمونه- وتقبل يديه لكي يتركني وهو ينظر إلى شيء أخر، ينظر إلى كل شيء،إلا عينها الباكيتين، إلا حزنها وآساها، إلا جرحها النازف وخوفها على إبنها اليتيم.. نظر في جسدها وشعرها وخديها وشفتيها ونهديها، نظر في كل شيء.. نظر من فوق الثياب ليدخل إلى العمق.. أمي أباحت نفسها لذلك الكلب، أنه كلب وحقير وخسيس، أنا لم أجرؤ أن أقولها أمامه، ولكني أقولها الآن أنه كلب وحقير ونذل، ولكن ما الفائدة؟ما النفع الآن؟ إستباح جسد أمي، وهي باعته لأجلي، وكيف أكرهها.. ذاكرتي لا تنسى أمي تجثو أمام قدميه وهو ينظر بلهفة ولذة لجسدها دون رحمة ولا شفقة، أمي تبيع جسدها من أجلي، وشرفها من أجلي، تبيع كل شيء من أجلي، الكل عرف بما حصل، أنا لم أحزن لأن الناس يتحدثون عن أمي، فهم إن تحدثوا لأنهم يخافون على أنفسهم من تكرار الأمر مع نسائهم، أنا حزنت لأن أمي باعت نفسها من أجلي، أنا لا أستحق كل هذا:لا أستحق هذه التضحية يا أماه، يا أماه أنت رحلتي وتركتيني، وتركتي جسدك بين يدي ذلك المجرم.. الناس لا ترحم يا أماه وأنت ضحيتي بكل شيء، بنفسك وجسدك وسمعتك وشرفك لأجلي، وأنا في كل حياتي لم أفعل أي شيء لك، حتى عندما رحلتي لم أفعل أي شيء، دفنتك في الحفرة وهمت في الشوارع!! أخجل من نفسي لأني لا شيء، أمي كانت كل شيء.. لم أرَ أماً كأمي ولن. حين علمت بما حصلت، بكيت وصرخت بها، كنت كالأحمق، كنت أحمقاً، هي المجروحة وأنا الذي أبكي واصرخ، وأمي لا تصرخ لأنها لا ترى في الأمر عار، ضحت من أجل إبنها الوحيد.. فأين العار في ذلك؟ لكن هو لا يستأهل كل هذه التضحية.. أمي تنظر إليّ وانا أبكي مشفقة، عاتبة، حنونة.. سامحيني يا أمي، لم أعرف قيمة ما فعلتي إلا حين رحلتي.. كنت طاهرة يا أماه وما زلتي، ليعتبروها خطيئة وزنياً إن شاؤوا لكنك كنت قديسة، كنت ملاكاً، كنت إلهاً في جسد إنسان.. ماذا يعني أن تضحي الأم بكلها من أجل ولدها الوحيد.. رحلتي يا أمي وبقيت أنا!

تركني ذلك الوغد، تركني بعد أن مشى على جسد أمي وشرفها، لم أقاتل معه ولم أقتل، لكني كنت مجبرٌ على الموت كلما رأيته وسمعت صوته، كان كالكلب ينبح، الأخ علي لا يمل من الحديث عن الثورة والكرامة والشرف، وهو يدنس شرف الناس ويذلهم، قتل من أبناء ملته أضعاف ما قتل من الملل الأخرى، بنى ثروته ونفوذه على أجسادنا وكرامتنا وجثثنا. اليوم الأخ علي، أحد أبطال الحرب وجزاريها، أصبح ممثلاً لنا في البرلمان، يمثل الشعب الذي ضربه وقتله وإستباحه مراراًَ، لم يتغير شيء كان ميلشياوياً ولا يزال، لم يتغير الكثير، ربما ثيابه فقط، ألفاظه هي هي، تعامله مع الناس لم يتبدل.. ما زال يعتبرنا حاشيته.. ونحن كالرعية ننجر وراؤه ونصفق ونهلل.. هم يصنعون حياتهم بدمائنا.. الأخ علي مثل من ألاف الأمثال.. هذا اللعين مجرمٌ كبير، وذلك الطفل أو الشاب-لا أعرف- دمه أسود ومجرم صغير، دمه الأسود هذا، صنيعة الحياة والخبث والتحريض والتجييش.. لقد لوثوا الدم أيضاً، الذي جعل لون الدم أسود هو المجرم الكبير. في الحرب كان المجرمون أسياد اللحظة والمكان، يتحكمون في كل شيء، في أكلنا وشربنا، في حياتنا وموتنا وحتى في لون دمنا!

الأخ علي ما يزال سيدنا، وما زال يتحكم بنا، ولكن بطرق أخرى.. بطرق أكثر سلميةً ولكنها تقتل أيضاً.. يأخذ، يشفط، يسرق، يجمع ويعيش.. وأنا أبحث عن الموت ولا أجده.. أنا لست بحاقد، أتذكر فقط قبل أن أرحل فلقد حان وقفته.

حرب الجنون ومدينة مجنونة، وشعب جُنَّ يبحث عن الموت.. نهاراً أتجول على الأرصفة أبحث عن ملاك الموت.. وليلاً أراه في نومي.. أرى نفسي أركض خلفه، أريد أن أموت، أريد أن أموت ألا تفهم تعالى وخذني! لم يأتِ، للأن لم يأت ولكني ذاهب إليه بقدماي.

أسعد،ا لذي كان صديقي، قبل أن يصبح الأستاذ أسعد(!!) يحب القتل، لم يكن في حاجة إلى من يشجعه، هكذا أعتقد، لم يكن في حاجة للأخ علي كي يوجهه ويحرضه على القتل بإسم الفقر والجوع وتحت غطاء الثورة، كان اليد اليمنى لمسؤول الحي أبو أحمد، لم أكن أعرف إسمه الفعلي، لكن الكل كانوا ينادوه بهذا الإسم.. أبو أحمد الذي يرأسه الأخ علي مسؤول المنطقة كلها.. كان أسعد في عمري تقريباً، كنت حينها، عام 1983، في العشرين من العمر، الكل تعجب من نفوذ أسعد رغم صغر سنه، فهو قادر على التأثير على أبو أحمد نفسه، أبو أحمد "قبضاي الحي" يتحكم به-إذا صح التعبير-شاب في العشرين من العمر! لا أحد يعرف السبب، ومن أين له هذه القدرة الهائلة، لا أحد يعرف حتى أنا صديق أسعد لا أعرف.. بلى كنت أعرف، لا أحد يعرف سواي الحقيقة، الكل يجهلها إلا أنا، أنا مالك السر الوحيد، أسعد وأبو أحمد كانا يمارسان اللواط سوياً، أنا رأيتهما مراراً، كنت أقرف وأشمئز، ولكني كنت أسكت، لأني إن تكلمت فسأموت، وإن تخليت عن صداقتي لأسعد سأموت أيضاً، كنت أهرب حين أراهم، أنا متأكد، كانوا يسكرون ويفعلون، كنت أقرف، أنا أكرههم، كنت أجلس مع أسعد وأشعر بالغثيان، أكرههم جميعاً، بلا أخلاق.. حتى لو أخبرت الناس لن يصدقونني، ليس لأن الأمر غريب، رغم غرابته ولا غرابة في الحرب، بل لأنهم يخافون من تصديق هكذا أقاويل.. فآلة القتل جاهزة وعيون القاتل لا ترحم كذلك يداه. أنا رأيتهم بأم عيني، أنا متأكد، لكني لم أخبر أحداً، خفت، لقد خفت من الفضيحة ومن الموت. الفضيحة لأني صديق أسعد فسيطاولني الكلام حكماً، وثانياً لو علم أسعد أو أبو أحمد أني من أعلن الحقيقة.. فسأقتل، سوف أموت.. وستموت أمي من بعدي.. سيموت الجميع، القاتل لا يرحم، القاتل عكس الجميع لا روح فيه وعيناه جافتان بلا دموع، قلت هذا لأمي، قلت لها أن عينا أسعد بلا دموع وجافتين، كنت أجلس في حضنها حين قلت لها ذلك، غمرتني وعرفت أني خائف، أنا خائف فأنا من يملك الحقيقة.. ومالكها في زمن الحرب والموت والكره يخاف وحده!

لا زلت أذكر كيف قتل تلك الفتاة بعد أن عذبها، كنت معه حين جلبها أحد رجاله، على إعتبار أنها غنيمة ثمينة.. "الجميل" في الحرب: النظام الذي يفرضه قادة المليشيات.. لا أحد يمسها قبل أن يعطيهم الأمر.. كانت جميلة وخائفة، عينها تذوبان من شدة خوفها وتغرق في دموعها أمام جبروت السفاح.. وهو ينظر ويستلذ ويتمتع بذلها، تترجاه أن يتركها أن لا يقتلها أن يدعها تذهب إلى أهلها، تعطيه كل ما تملك، تخبأ جسدها، لأنها إن فقدته فقدت كل شيء، أعطته كل الذهب والساعة وكل شيء إلا جسدها خبأته.. وهو ينظر إليها وكأنه ينظر إلى اللاشيء، كأنها كومة زبالة متروكة على الأرض. ترجته.. وترجيته تمنيت عليه أن يتركها، ليس لأني أحببتها وشفقت عليها، بل لأنها كأمي، إنها تشبهها.. أمي خسرت الشيء الوحيد الذي تملكه، خسرت جسدها.. لن اقبل أن يتكرر الأمر، رجوته أن يتركه..كانت تنظر إليّ كأنني المخلص، كنت أملها الوحيد،لربما إعتقدت أني مسيحها، أنا لست مسيحها، أنا مسيح أمي.. أمي كانت في الحالة نفسها وتعذبت وأنا وهي نعرف هذا العذاب، قلت له أتركها يا أسعد بالله عليك أتركها، ما ذنبها.. لا علاقة لها بما يجري، أنظر إليها، أنظر أين الإجرام في عينها؟ ألا ترى الدموع تمسح بياض وجهها فيحل البياض محله، إنها بيضاء من ذنوبهم، أعرف أنك تكرههم وكلنا نكرههم، لكن ما ذنبها.. هي فتاة يا أسعد، وشيمنا لا تسمح لنا بقتل النساء. .دعها.. أسعد دعها بإسم صداقتنا دعها بإسم شهدائنا و جرحانا دعها، أتركها وشأنها.. بكيت من شدة ما رجوته وبكت هي.. أحسست بشعورٍ غريب، لا أعرف لكن عيناها كانتا ساحرتين آخاذتين، تمنيت لو أمتلكها.. لو أهرب بها ونرحل في البحر إلى القاع حيث لا يوجد قتلة ومجرمون، قد يكون هذا الحب؟ أنا لا أعرفه، لم أجربه.. لا أعرف كيف يكون! رسمت عيناي رغبتي البريئة والخجولة أما عينا ذلك الجزار فكانتا جامدتين، إنه لا يرحم.. هي تبكي وعيناي تدمع وهو يضحك ومن معه يشمتون.. وصدر الأمر بإسم ضحايانا من الشهداء والجرحى، بإسم معتقلينا، بإسم الدين والله وعلى سنة أنبيائه، بإسم دماء الذين رحلوا. .حللو ذبحها.. أسعد لم يلمسها.. هذه عادة الكبار، يقتلون بأيادي الأخرين كي لا يتحملون وزر الجريمة.. إغتصبوها حتى إنفجرت عذبوها حتى ثملت وما عادت تتألم.. وشربوا عليها كأس النصر والمفخرة وأنا أنظر.. أنظر ولكن في مكان أخر، كنت في جسد أمي.. كنت أتخيلها تموت أمام عيناي، أمي لم تمت، لكن شبيهتها ماتت.. رحلت إلى المقابر الجماعية رميت "رمية الكلاب" يقول أسعد... هو لا يهتم بأجساد النساء، ما يهمه الثورة والدفاع عن شرف شهدائه، كان يكذب على الأخرين لكنني كنت أعرف حقيقته.. كنت أعرف أنه شاذ... كنت متأكداً من ذلك.. هم مجرمون لا أنكر ونحن أيضاً! وأنا وأمي وتلك الفتاة وأخرين من الطرفين ضحايا وهم مجرمون، جميعهم...

أسعد، صاحب المجازر الكبرى، أصبح أستاذاً تنبطح القبعات أرضاً أمامه ..الغريب أنه أصبح دكتوراً يدرس في الجامعة اللبنانية، مع أنه لم يكن يجيد قراءة إلا بعض الكلمات.. الحرب تصنع الرجال!؟ ومن قال هذا؟ الحرب لا تصنع إلا الدمار والفساد والقتل.. ولا تصنع إلا مجرمين أمثال الأخ علي وأبو أحمد وأسعد.. كلهم أساتذة!

لم أنسَّ يوماً صرختها، لأنها أمي، أقصد كأمي.. أمي صرخت أيضاً وظلت تصرخ حتى مماتها.. أما تلك البريئة فإرتاحت من صراخ الحياة كلها.. صحيح أنها ماتت معذبة، ولكن عذابها كان للحظات، أما أمي فحياتها كلها عذاب بسببي.. كرهت أسعد من حينها.. لا كرهته منذ أن رأيته مع أبو أحمد هناك يمارسان اللواط.. ولكني كرهت الثورة وكرهت قتالهم، من حينها، عرفت أنهم يكذبون.. لا شيء، لا يوجد شيء، يقاتلون كي يعيشوا هم ونموت نحن.. لا شيء وللأن لا شيء.. وإن وقعت حرب جديدة سيأتي من أشكالهم أيضاً.. وسيكونون قادة الحرب والسلم لاحقاً!

الحرب لا تلد إلا المجرمين.. ولا تخلف إلا الموت والدمار والضحايا.. إنها تدمر الناس وبيوتهم وحتى ذاكرتهم، من منهم يذكر إجرام القتلة؟ لا أحد، لا أحد.. تدمر كل شيء، أشعر أن رأسي يطير مني حين أعود إلى تلك الأيام الهوجاء، إنها مجنونة.. مدينة مجنونة وشعب مجنون، يستلذ برائحة الدم.. رياض كان يشربه، كلهم رأوه يشرب الدم ويضحك، وتعلو صرخته في المكان.. تخرق صمت الموت والضحايا.. يشرب ويضحك والأطفال تبكي، قتل خمسة من الأعداء وشرب دمهم ولم يخف، لم يرتجف.. كأنه يشرب الماء.. ويضحك!

أنا خفت، والناس كلها خافت والأطفال بكت وحتى أسعد خاف وطلب منه أن يعدل عن فعلته، لكنه رفض وكاد يطلق النار عليه.. ثمل من مذاق الدماء.. شرب حتى خرج من كل شيء، خرج من جسده ونفسه تعرى أمام الكل.. خرج من وعيه وعقله وجدران البيوت والمدينة.. ضحك وبكى. بكى كطفل بريء، أشفقت عليه وبكيت معه، صحيح أني قرفت من إجرامه قبل برهة، لكن بكاؤها كان غريباً ومحزناً، بكاء طفل رضيع يبحث عن طعام أمه لكي يأكل.. الحليب الذي يسقط من ثدي الأم يعطي الغذاء صحيح ولكنه يعطي أيضاً الدفء والحرارة والعاطفة والحنان، أمي كانت تقول هذا وأنا صدقتها حين رأيته يبكي.. كان يبكي على أمه التي قتلت، التي ذبحت، التي نحرت، التي قطعت.. كل هذه التعابير تصلح مجتمعةً، عادت إليه قطعاً مبعثرة يصعب جمعها، و إبنتها -أخته- محشوة في بطنها، عديمي الرحمة قتلوها وهي لم تبلغ السنتين بعد.. ورياض لم يبك حينها هكذا شاع في الحي، بل وقف كالرجال وتوعد بالإنتقام، وقف أمام الجثة المبعثرة وتوعد أن ينتقم ويشرب من دمهم، والآن ينفذ الوعد.. رياض ينتقم لأمه التي غدرت، وهؤلاء الضحايا الخمسة يدفعون ثمن إجرام غيرهم من أبناء ملتهم.. أنا لا ألوم رياض لأنه مظلوم ولكن ما ذنب هؤلاء؟ أيعقل لأنهم من دين القتلة أن يقتلوا؟ لا أعرف.. لا أعرف، لا أعرف أين الحق وما هي الحقيقة؟ من الظالم في هذه الحالة ومن هو المظلوم؟ لا أعرف لا أعرف، حين نُدخل "اللا نعرف" هذه إلى قاموسنا نعلن جنوننا، نحن لا نعرف أي أننا مجانين وتلك المدينة كانت مجنونة وكل الناس فيها مجانين.. الكل حتى الأموات كانوا مجانين، أن يقتل الصغار لأن الكبار يتصارعون هذا حرام، وحتى أن يقتل الكبار بإسم إجرام الكبار نفسهم هذا حرام وعار ومذلة.. الناس مجانين، أهل بيروت مجانين وهي مدينة تشبه ناسها، و ناسها يشبهونها.. حتى أنا، أليس الإنتحار ضرب من ضروب الجنون؟؟

أنا لا أحقد على أحد، ولكنني لا أستطيع أن أنسى أنهم قتلوا كل هؤلاء الأطفال والنساء والرجال، لا أستطيع أن أنسى أمي أيضاً التي قتلها "عهر الثورة" و "دنس رجالها" وحبيبتي أيضاً، لقد أحببت تلك الشقراء، لكن لا مكان للحب بين القبور.. لا مكان للعشق في ظلال الموت والأموات.. لا مكان للعواطف أمام قرقعة البنادق والمدافع.. كلما ظهر معترض على أدائهم، يسارعون إلى نفض الأموات من قبورهم ليروننا إجرام "الأخر" وكأنهم بعيدين عنهم، هم أيضاً مجرمون.. أؤلئك مجرمين ونحن أيضاً لسنا أقل إجراماً.. هذا جنون عارٍ، الجنون يقع حين لا تعرف، وأنا الآن لا أعرف ماذا أفعل ولا أعرف من أكون ولا أعرف شيء.. من المجرم؟ ومن الظالم؟ ومن المظلوم؟ وما هو الحرام؟ وأين العقاب؟ وماذا تبقى لي؟ وأين الله؟ أأنتحر؟

هذا جنون متعري من نفسه، والحرب لا يبقى منها إلا الجنون... وأناس بذاكرة مجروحة.. ناقصة."


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى