نضال

كعادته دائما، يندفع نضال كالسهم من بوابة المدرسة... يقبل يد أمه وينطلق بفرحة غامرة يلف معها الحلويات ويجيب طلبات الأطفال... غير أن شعاع الفرحة الساطع من عينيه اللوزيتين سرعان ما يبدأ يخبو ويتقلص كلما تقلصت دائرة الأطفال حوله وخف دبيب المارة في الشارع... اليوم كئيب طول النهار... صباحه كأنه بداية ليله... لذا تسلل الخوف إلى نفسيته مبكرا فانكمش على نفسه يجوب الشارع بعينين متوجستين... ازداد التصاقا بأمه وهو يتلفت حوله مرعوبا من رصاصات طائشة ومن أخيلة مصاصي الدماء المتدفقة من المغارات السوداء... جحظ حدقتيه في صورة صديقه وابن جاره محمد الدرة المرتسمة أمامه فهتف بلسان مشلول:

– أنت أوفر حظا مني.. وجدت أبا تحتمي به وأما تبكيك وتترحم عليك... أما أنا فالدنيا كلها اختزلتها في أمي... لو ضاعت ضعت ولو ضعت ضاعت...

ثم انتفض قائما يسحب أمه من يدها:

– قومي يا أمي... هيا قومي

قامت أمه تبتسم له ويدها تتحسس ثقل الحوصلة التي أحكمت إغلاقها ثم دفنتها أعلا صدرها ومضيا يلتهمان الشارع بخطواتهما...

بلغا البيت (الغرفة)... استجابت الأم بقلبها إلى نغنغة صغيرتها...قبلتها وحضنتها إلى صدرها وحلقت خفيفة كالفراشة في عالم لم تلجه أم نضال منذ أن استشهد زوجها إلا من بوابة عيون صغارها وابتساماتهم...قبلتها ثانية وأشارت على ابنتها ياسمين ، بنت ست سنوات، بأن تعد الرضاعة لأختها فلة قبل أن يعتقلها النوم:

– حاضر يا أمي لقد أفرغت التو من الاستحمام لها

التفتت ياسمين إلى أخيها نضال تتوسل إليه أن يرجئ حديثه حول الصورة التي رسمتها ريثما تعود وهي تضبح بصوت مخنوق:

– يا رب متى سأتحرر من مشاغل البيت ومن أختي فلة؟؟؟...

تحلقوا حول مائدة العشاء التي أعدتها ياسمين ثم سرعان ما انفض المجمع وأفواههم تمضغ اللقمة... صابر في زاويته وسط كتبه... أمه في زاوية أخرى تعجن وتعرك وياسمين منهمكة تلم وتنظف وترتب لينعقد المجمع من جديد حول إعداد طبق الحلويات التي تعدها الأم كل ليلة لتبيعها أمام بوابة المدرسة... الأيادي تشتغل ونضال يسترسل بزهو يحكي عن مشاركاته في القسم ونباهته التي يتغنى بها معلمه أمام التلاميذ...

بقلب يخفق رضا وتطلعا إلى غد مشرق رددت الأم:

– أنا جد فخورة بك يا نور عيني

حدجتها ياسمين بنظرة عتاب وطرحت بدلال قطعة الحلوى الأخيرة التي كانت تلفها بشريط بلاستيكي.. فضحكت لها أمها قائلة:

– أنت ـ يا ياسمينة حياتي ـ فقلبي النابض...

نحنح نضال يقاطع كلام أمه المتدفق حنانا:

– هيا يا ياسمين.. أنا نور العين وأنت القلب النابض وتلك العفريتة ( يشير بعينيه إلى أخته الصغيرة النائمة) التي لا تعرف غير الاستهلاك نشوف لها حيلة من قبل حيل الإخوة...

– مهلا، مهلا عليك يا نضال يا ابني البكر... هي فلة تنام هنا ( تشير إلى قلبها) من مس شعرة منها مس قلب أمك
أضافت ياسمين:

– لما أراها تبكي أقول: يا رب حول ما يؤلمها إلى جسدي لأتحمله عنها فيستجيب ربي دعائي وتسكت

احتوت الأم ابنيها تحت جناحيها ومضت بهما إلى أقصى الزاوية حيث ينامون وهي تقول لهما:

– من أجلكم سأدوس على الشوك وآكل العلقم لأسقيكم العسل...

ما كادت تلمس أجسادهم الفراش حتى انقطع التيار الكهربائي... طلقات رصاص وأصوات مدافع اخترقت سمعهم فعقلت المرح والحياة في ذواتهم... سألت ياسمين أمها ضجرة حانقة:

– متى سيتوقف هذا القصف؟؟... أخشى أن يشتعل مرة أخرى العويل في بيت جيراننا... أول أمس رأيت نعش ابن جارنا جاسر والنساء يمسكن بأمه التي تولول وترغب أن تلتحق به وأخواته يبكون ويصرخن... أنا أيضا بكيت... كم أخشى أن يتكرر هذا المشهد أمام عيني !!... صرت أخاف أن أطل من النافذة... أتخيل النعوش تفرش كل الجهة الشرقية... متى سيتوقف القصف ويدعوننا نعيش بسلام؟؟...

رد نضال متحمسا:

– غدا سنواجههم بالبارود وسنسحقهم جميعا

أصمت ياسمين أذنيها بكلتي راحتي يديها وصدحت تقول:

– أكره رائحة البارود، أكره رائحة الدم، أكره الحرب... أحب العطر، الزهر، الطير... أحب أن أغمض عيني على الورد وأفتحهما على سرب حمام يحوم فوق بيتنا وينزل فينقب الحب من راحة يدي ثم ينطلق في سماء صافية لا غبار فيها ولا رائحة بارود فيها كما في الصورة التي رسمتها... هذه هي الحياة التي أعشقها...لكن إلى متى سأظل أرسم أحلامي على الورق؟؟...إلى متى سأعقل في داخلي الحياة التي أرغب فيها ؟؟؟...إلى متى؟؟؟

صرخت في الظلام وصوتها ترعشه نبرات البكاء:

– أريد أن أعيش حياتي ككل أطفال العالم... أريد أن أعيش طفولتي بدون رعب، بدون ألم، بدون عمل ينهكني طيلة النهار... أريد أن ألعب وأنطلق أجري بدل أن أظل حبيسة الغرفة أغسل وأرتب وأنظف وأربي... أريد أن ألعب مع أختي فلة وحينما تبكي أو تصرخ أجد أمي بجانبي تطمئنني عليها بدل أن يعصرني الخوف عما ألم بها فأصرخ في داخلي ولا يسمع صراخي أحد غيري...

– نحن في محنة، يا ياسمين، علينا أن نعقل أمنياتنا حتى نخرج منها... الاحتلال سر محنتنا...سنطرده من ديارنا... سنقاسي ونتحمل لكن لن نستسلم... هكذا اتفقنا نحن التلاميذ... فاحلمي وارسمي أحلامك على الورق طالما هذا يريحك... غدا
– الاحتلال أبغض تركة ورثناها.. غيرنا ورث تركة يباهي بها الأمم ونحن ورثنا تركة تسمم الكيان... إلى حد متى سنصمد وهو لا يزداد مع الأيام إلا قوة وجبروتا؟؟؟... كلما تنهدت وقلت أن هذه خطوة نحو الضوء صعقت بأن الأمر أسوء من سابقه... لقد سئمت من انتظار السراب.. سئمت.. سئمت..

ـ غدا سيتحقق لك ما ترغبين...

– متى، متى.. أنا أريد أن أعيش طفولتي كبقية الأطفال... أريدك أن تدلني على طريق يضيء حياتي اليوم... دلني أنت ورفاقك في المدرسة على سبيل ننتزع به طفولتنا من العالم حولنا... ما ذنب فلة التي صعقت وهي في رحم أمها؟؟..آه، كم أتخيلها حزينة !! هجرت قرارها الآمن قبل الأوان... وبدل أن تقرأ الفرحة في العيون حولها وتسمع الزغاريد استقبلت بالدموع والعويل... ما جوابك على أسئلتها حينما تسألك أنت وأمي عن الدواء للطعنة التي شقت قلبها قبل أن ترى النور؟؟.. أتجيبانها بأن عليها أن تصبر؟؟؟ إلى حد متى؟؟

ابتلع نضال حرقة اغتيال والده مع دموعه التي خذلته فأضافت ياسمين بصوت هادئ آملة أن تعدل من مسار تفكير أخيها المنصب على لغة السلاح:

– نحن في حاجة إلى الرعاية لنكبر دون خوف... أنا أستغرب حينما نمنع من رؤية أفلام الرعب ونحن نعيش كل أصناف الرعب في الواقع...نحن في حاجة إلى قوانين تحمينا وتضمن لنا حقوقنا كأطفال...نحن في حاجة إلى من يسمعنا...في كل طفل منا صرخة لو أطلقها لارتج لها العالم.. علينا أن نطلقها يا نضال... أدع أصدقاءك في المدرسة ليطلقوا صرخاتهم ويطرقوا بها سمع العالم النائم لعله يستيقظ ويلتفت إلينا ويدبر أمرنا بمنطق الإنسانية... تحدثني دائما عن حقوق الإنسان وحقوق الطفل أين هذه الحقوق؟؟ لماذا كتب علينا أن نعيش محرومين من كل الحقوق... الوطن سلبوه.. الأب قتلوه... الهواء لوثوه... المستقبل حطموه... الضوء قطعوه... فقط رعب، رعب، رعب... والعالم حولنا لا يحرك ساكنا... كلما قلنا سينقشع الضباب والظلام ازداد كثافة وحدة... بالله عليك كيف تقوى على العيش في الظلام وإلى حد متى ستظل صامدا؟؟ومن أجل ماذا ونفوسنا تدمر في المهد؟؟؟

– نصمد ونتحمل من أجل فلسطين... من أجل أرضنا...

أردفت ياسمين بصوت متهدج مثقل بنبرات البكاء:

– لغيرنا بلد يسكن فيه وينعم فيه ونحن لنا بلد يسكن فينا ويقتات من أرواحنا وأحلامنا...

– لا فرق أن نسكن في فلسطين أو تسكن فينا... أن نقتات منها أو تقتات منا...فنحن فلسطين وفلسطين هي نحن... هي أمنا الأولى.. علينا أن نحميها ونتحمل من أجلها... عليك أن تفهمي أننا بدونها نضيع وهي بدوننا تضيع.. أتفهمين قولي؟؟؟

– أجل، أفهم...ولكن كيف سندافع عنها ونحن لا نملك غير الحجارة؟؟... الحجارة لم تعد ترهب حتى الكلب يا أخي الكبير المتنور...

– لا تستهيني بالحجارة التي يقف بها الطفل في وجه غطرسة العدو.. فبها يستدل على أنه في أرضه وأن على المحتل أن يبرحها قبل أن تتحول الحجارة إلى قذيفة ويتحول هو إلى بركان... أتعرفين القنابل البشرية؟؟؟

– أجل، أجل ( صرخت ياسمين متقززة وهي تطوي صفحة القنابل البشرية التي طفت بمخيلتها...)

– حينما تذهبين إلى المدرسة ستتضح لك أشياء كثيرة يا ياسمين... فيد الطفل لما تقبض على الحجارة وتلوح بها في وجه العدو أكبر دليل على أن الطفل الفلسطيني قادم وأن إرهاب الطغاة وطغيانهم لن يزيداه غير تأججا وتحديا... لن يقدروا أبدا على إطفاء النار في قلوبنا مهما تفننوا في أساليب الرعب... والعدو المحتل يرعبه هذا الخطاب... فاجعلي الحجارة لعبتك كلما اقتضى الحال فهي كفيلة أن تزعزع العدو وتكسر خططه الاستعمارية..

– العب يا أخي بالحجارة ريثما تأتيك اللعب ونم في زاويتك تنسج الأوهام... لو كانت الحجارة ترعبهم لما اخترقوا وابل حجاراتنا وقتلوا ابن جارنا جاسر في وضح النهار...

– غطرستهم وسحقهم للأخضر واليابس ما هو إلا دليل على رعبهم من القادم فيندفعون كما المسعورين يزرعون الرعب حولهم... لن يحصدوا من زرعهم غير تحد أكبر ولن يزعزعوا إيماننا بقضيتنا ولن يتحقق لهم مرادهم ما ظل فلسطيني واحد على وجه الأرض... قالوا: الأرض مقابل السلام... لن يحلموا بالسلام مقابل الأرض أبدا أبدا أبدا...

ـ ياااااه كم أحسدك يا نضال على حماسك... حماسي فتر من يوم ما علمت بأنهم يستهدفون الصغار قبل الكبار...غطرستهم موجهة إلي أنا وأنت وآخرون من الأطفال فلن يبقى طفل يمشي على أرض فلسطين... سيقطعون نسلنا يا نضال حتى لا يقف أحد في طريقهم بالحجارة أو بغيرها... أعلمت الآن لماذا أهرب إلى الورق لأرسم الحياة التي أحلم بها؟؟؟ لأن الجرافة في طريقها إلينا...علينا أن نستصرخ العالم لإنقاذنا قبل أن تدوسنا...

انقبض قلب نضال وشل لسانه على إثر طعنة أخته التي لم يكن يتوقعها ثم استدرك بحماس أكبر:

– ما فعله فرعون في حق الأطفال لم يفعله العدو الصهيوني فينا.. يد غطرسته امتدت حتى إلى الأرحام فعقمتها بجبروته، لكن الله جلت قدرته سخر حكمته فنشأ عدوه في حضنه وقضى عليه...أتذكرين قصة سيدنا موسى عليه السلام التي قصصتها لك؟؟؟

تبسمت الأم في الظلام وهي تتلو سورة الفيل ثم تلت دعاء يومها بعده ومسحت وجهها وشعرت كأنها اغتسلت من كل الهموم وأسندت رأسها إلى مخدتها وهي تنصت إلى ابنيها اللذين بدوا لها قد كبرا على حين غفلة منها.

– الغد آت وسأذكرك... فنامي.. قريبا ستتدرجين في صفوف المدرسة وتقرئين تاريخ الأمم وتتنورين...

– كم يغيظني هذا الظلام...يبدو أن التيار الكهربائي سيظل منقطعا حتى الصباح...

– نامي واحلمي.. غدا سيلفك الله بنوره الذي لا سبيل لهم إليه لإطفائه... نامي

استسلمت أجسادهما للنوم ولسانهما يرتل المقاطع الأخيرة من النشيد الذي يواظب نضال على تحفيظه لأخته كل ليلة:

ما الذي يحوِّل الكفّ قذيفة

والقلب تراباً ورغيفة

مناضلون مناضلون مناضلون

قادمون قادمون قادمون

إننا نسير نسير... نفكّ قيد الوطن الأسير

12 كانون الثانى/ يناير 2008