الجمعة ٢١ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم محمد سمير عبد السلام

العابرون، وتبدل حالات الوعي

يرتكز محمد إبراهيم طه في نصه الروائي ( العابرون )، الصادر عن دار الهلال بمصر، على مساءلة منطقة الوعي في شخصياته، وإعادة تأويلها خارج الحدود الصارمة للذاكرة، والهوية التاريخية، أو الاجتماعية، فالوعي يسهم في قتل النموذج الأول للشخصية، وهو نموذج يعاني من انسحاق، أو جنون، أو موت وشيك، أو رغبة ملحة في الخروج حدوده المعرفية. إن الوعي ينتصر على معرفة الشخصية بهويتها، ومن ثم على معرفتنا كقراء بهذه الشخصية، وذلك عن طريق أمرين:

الأول: إبداع نماذج أسطورية مؤولة للشخصيات الأولى، ولكنها تتجاوز الموت من خلاله، كما تستبدل موقع الأصل، وتتسم ببكارة تكوين الشخصية لأول مرة، ولكن دون تحديد دقيق لهويتها، فالمريضة أروى تود الرجوع كأميرة للقصر، وكأنها تحن للوعي الذي يدمر حدودها، ويعيد تكوينها في سياق أول جديد.

الثاني: مساءلة الحدود المعرفية للوعي نفسه، وكأنه ينتج تأويلات تخيلية موازية تؤدي وظائفه بصورة انتشارية، ولهذا أرى أن هذا النص الروائي يقاوم عملية التبئير الداخلي المتنوع من خلالها، فهو يلج الشخصية، ولا يتركنا في حالة اطمئنان لوجودها، فالوعي يسعى لتجاوز نفسه دائما في نماذج تخيلية تتسم بطابع كوني تداخلي، فيمكننا رؤية البطل الطبيب من خلال الشيخ سيد، ونماذج أروى الملكية الأنثوية، كما تتداخل إشارات التصوف، والمعرفة القلبية مع أخيلة راشد، ونعمات .

ولم يخرج النص تماما عن السياق الثقافي للشخصيات، ولكنه أعاد قراءة حدث الموت، أو الانسحاق من خلال تأويل تخيلي سردي للمعرفة القلبية في التصوف، ومن النماذج الأسطورية الكامنة في اللا وعي الجمعي، وقد تشير هذه النماذج الجديدة الخارجة عن سلطة الوعي إلى شخصية عابرة للزمكانية كما يشير كارل يونج، وربما تتداخل مع إيحاءات الاختفاء كما هي عند جان بودريار، فتقع في منطقة بين الوجود، واللا وجود لتتجاوز أزماتها الواقعية، وحدث الموت من خلال عمليات التخيل التي تسعى لاستبدال كل ما هو معروف وحتمي.

بطل الرواية طبيب يعالج أمراض النساء، ويقوم بعمليات الولادة، ويفرح عندما يخرج الجنين سليما، ويرى فرحة الأم، ورغم حرص السارد على تأكيد هذه الإشارات الإيجابية ؛ مثل السعي للخصوبة، والنشوء المتكرر، فإنه أكثر حرصا على استبدالها، بنشوء آخر للوعي خارج مجال ولادته، وتطوره، وتاريخه، إنه يكرر حدث الولادة دونما تحديد للمولود نفسه، حيث تتعالى العوالم الجديدة فوق تاريخ الانسحاق الإنساني .
في داخل البطل حنين إلى عوالم الوعي البديلة عن تاريخه، فيتساءل عن كل ما مر به من أحداث، ويشك فيها حتى يجد في أدراجه قسيمة زواج، وشهادات ميلاد أطفال نائمين.

إنه لم يجد إجابة نهائية في إدراكه لهذا التاريخ، وهذه الوقائع ؛ فتحول فهمه إلى تأويل تخيلي بكر يستبدل مفردات المستوى الأول للوعي، فالولادة تختلط بالأساطير، وتجدد الموت، والأنوثة تمتزج بالنور، والدماء، بالفضاء المتسع للذات الأسطورية . نحن إذا امام بدايات للشك في الوعي واستبداله بالأداء التمثيلي للمعنى .
لقد كشف بول ريكور عن تحول النظر إلى الوعي حتى صار تأويلا نسبيا معلقا ؛ فالفيلسوف الديكارتي يشك في الأشياء، لكنه لا يشك بأن الوعي ليس كما يبدولذاته ؛ إذ يلتقي فيه المعنى والوعي بالمعنى، ثم بدأ الشك بالوعي منذ نيتشه، وماركس، وفرويد، فصار الفهم تأويلا، كما صار التأويل معلقا نتيجة تعارض التفاسير ( راجع – ريكور – التحليل النفسي وحركة الثقافة المعاصرة – ترجمة منذر عياشي – فصول ع 65 – شتاء 2005 ص 91 ).

هكذا يمكن أن نرى ملامح الطبيب التخيلية كتأويل يقاوم معرفته بهويته ؛ فقد سمع أصواتا بين التسبيح، والزقزقة، ثم لمح فتاة من نور، ولم ترد عندما سألها عن اسمها، ثم انفتح المدى أمامه، وشعر أنه يسبح، وتذكر صورة سيد عبد العال.

إنها الذات الأخرى التي ترفض التسمية، وحدود الملامسة الصلبة، فهي تمثل اتساع الفضاء كبديل عن المتكلم فيصير وعيه صورة تستبدله، من خلال فعل التأويل التمثيلي، وسنجد في موضع آخر من الرواية أن راشد يعود لجراحه، وواقعه عندما يسأل الملكة أروى عن اسمها.

إن مستويات ما قبل الكلام تتحول في نص محمد إبراهيم طه إلى مستوى سردي بديل عن مستوى القصة، فسياق شخصية راشد يتطور وفقا لهذه المستويات المحولة إلى علامات تخيلية تملك القدرة على الأداء، بل تملك فضاء كونيا أسطوريا يناهض دموية الصراعات اليومية.

يميز روبرت همفري رواية تيار الوعي بارتكازها على مستوى ما قبل الكلام على وجه أخص . تلك التي لا تخضع للسيطرة والمراقبة، والتنظيم المنطقي، ويرى أن الوعي عند فوكنر كان يقود الشخصية بعيدا عن واقع فاسد ( راجع – همفري – تيار الوعي في الرواية الحديثة – ترجمة د – محمود الربيعي – دار غريب 2000 – ص 24 و55 ).

لقد تطور راشد في هذا المستوى الأسطوري مثل باقي الشخصيات التي تقدمت باتجاه التلاشي، ولم ترجع لنقطة التكوين التي يمكن أن تكون المرجع الذاتي الذي يبدأ منه الوعي في العمل، ولكنها حريصة أن يكون هذا المستوى هونقطة تكوينها، فنحن نتعرف على العلاقة بين راشد، وأروى من خلال هذه العوالم الجديدة، فدم أروى يتمرد على وجودها الواقعي، ولا يستجيب للطبيب لتكتمل العودة، وتؤسس لبداية أخرى .
أما راشد ففي جراحه يرى أروي تمرح مع الأطفال، فيرتفع نهداها الصغيران في انطلاق، وعندما يخشي أن يسقط تاجها الملكي من الاهتزاز، فتضحك، ولا يسقط، ثم تنبت له أجنحة عندما يدخل الحلبة ويرقص .
مثل هذا السياق المرح لا يمكن الفصل فيه بين الجسد، والعالم، والأنا والآخر، فقد صارت الأجسام رموزا متحولة للوعي، والكون، والجسد معا.

هكذا اختلط مسار نهاية أروى بأثر عبد المجيد الذي حدس بموته، فانتشر العواء والصخب، ثم نراها في القاعة الملكية مع راشد الذي لم تقتل جراحه هذه النسخة من وعيه، ويبدوعبد المجيد مضحكا للملوك في القصر ويجوس الحصان الحامل لأروى في الفناء المرمري المتسع.

إن مستوى الموت هومستوى الولادة الأولى للشخصية تلك التي تجعل من مستويات ما قبل الكلام سياقا كاملا للفعل الوجودي، والعلاماتي في آن.

هكذا نرى فاعلية سيد عبد العال الطيفية في مسار الطبيب، فقد استبدل الرجل الملثم الذي دافع عنه يوم وفاة المريضة عزيزة، وكذلك الطبيب الشرعي الذي برأه، كما ساهم بقراءاته من شراب الوصل للبرهاني في دفع الوعي للذوبان، في بديله التأويلي، بل بدائله مثل النموذج التخيلي لسيد نفسه، وأساطير، أروى، وعلي الدين، وراشد، وعبد المجيد. تلك البدائل التي ساهمت في إبداع مستوى سرديا تشبيهيا يعمل في أحداث الواقع من داخلها، وتتسع مساحته ليصير سياقا أول متجددا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى