الأحد ٢٣ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم زكية خيرهم

الأسود الناصع

ضاق العالم في عينيها بعد فشل حبها، فلم تعد تجرؤ على كسر الأبواب. حائرةُ ُ تحوم بتفكيرها حول حبها الضائع. أصبحت كالسكران تسكنه رياح تأخذه إلى جهة غير مكتشفة بعد. وحيدة لا تجد من تتوجه إليه بحزنها. تبكي شمسها التي غابت سريعا كلحظات شروقها، وتنوح قمرها المعتل الذي تسمّر برمح نحيبها إلى سقف السماء. فؤادُها مكسرُُ... عيونها حبيسة...فما من متنفس حتى في البكاء. حول مائدة بزاوية الديسكوكانت تجلس تحت ضوء أحمر خافت جدا، تحوم بعينيها حول الوجوه السمراء التي تحتسي البيرة. كانوا ينظرون إليها بشهوة ونهم. إقترب منها أحدهم وبدأ يرقُص على نغم المطرب (يوسوندور). أطرافُ جسمه تتمايلُ برشاقة بالغة مع الموسيقى. درجة الحرارةِ الكامنة بداخل صدرها تتجاوز بكثير درجة الحرارة عند منتصف أغسطس بالسينيجال. كادت عيناهُ تنزلقانِ عن جمجمته. يتأملُ عينيها التي تشبه عين الأيل القطبي وشعرَها الأشقرَ الكثيفَ الناعمَ كفرو الدب الأبيض. ينظر إلى ذلك الجسم الإسكيندينافي الممشوق الملتف حول قميص حريري وعينيه سفينة أحلام...تجذبه مسافة قربها... احمرار خدودها وزرقة عينيها ونهداها اللذان يشعان دفئا ولذة... يتبع بنظراته تلك اليدين الناعمتين التي تحمل إحداهما كأسا من البيرة. يتأمل العينين الحزينتين اللتين فتحتا له أبواب الشوق، فانسكب ضياء ولعه في وهج الضحى وفي نسيم الفجر البديع بالبهاء... أشرقت الحياة في عينيه وتفتحت كل الورود.

أقبلت عليه العصافيرتغرد مهنئة بحبه الموعود القريب....تغرد ناطقة غناء بلا انتهاء لعشقه الذي يذوي الفؤاد... لوجه بديع صبيح...لقد احببتك للتووفي الحين... سألتجأ إليك وانتهي إليك...أحس أني سأولد من جديد على ساعديك... وأدخل قلبك... أتربع على عرشه... أرثه طيلة حياتي معك وأورثه لثمرات حبنا سأسرق القصيدة من مقلتيك واجعلها دستور عشنا الذي لن تهزه ريح عاتية... فالهوى الذي في فؤادي لك فوق المعاني وفوق البيان...

ابتسم لها وتقدّمَ ببطء نحوها. سأدخل لأول مرة في عاصفة الهوى... سأخلع عن جسدي تعب البطالة وعن وجنتيَ شحوبَ الفقر. إنه السعدُ آت قريب. وجه عليه زهور القمر يطل علي، أرحب به عند ماء الأنهار ومنحدرات الشلالات... وأغذي من حمرة خدَّيها روحي وأقطن في قلب ذاك البهاء. تطلعت إليه... خجلت... ابتسمت... أطرقت عينيها اللتين ما فتئت تتألقان وترتبكان. أصبحت ملكتي يا ملكة الحسن والدلال. وقف أمامها... سلم وعرف بنفسه ثم جلس بجانبها من غير أن يستأذنها.
أنت الليلة ضيفتي.
كانت هي سعيدةُ، وكان هويحلم بين الهوى والسفر. هل تغادره وترحل عنه؟ لا مستحيل.. لن أدعها تجرحَ قلبي... سبحان خالقِها الذي أتمَّ جمالها... تنتعش في أجزاء الروح وتسري إلى أقصى الجسد. أمسك يدها. عضت ابتسامتَها بشفتيها... تمشي بارتباك إلى حلبة الرقص... تتعثر... تتغنج وخصرها كنهر ميال. عيون شديدة البياض تشع بريقا من تلك الوجوه السمراء. يصفقون وهي ومضيفها يتمايلان مع موسيقى الزولو. تلامست روحاهما فانصهرت ممتزجة ببعضها مشكلة قلبا وروحا واحدة. سافرا معا إلى بلدها، تزوجا وسكنا في عش يزهران فيه معا. رغبتهما دون حد، يسبحان معا في أودية عذبة تتمازج فيها الحقيقة والخيال.

زوجة جميلة... أنيقة... همسها دلال... نظراتها مليئة بكل حنان... تجمع كل ما في الأنثى من جمال فتان... منفتحة على الأفكار...متحررة من كل القيود والمعاني...تٌسكِر بنغم نبرتها... كل صباح تصحوعليه بالأحضان... وهويستلهم فرحا وشكرا لحياتهما الرغدة بالحب والمليئة بالإطمئنان... كل ليلة يسافر بضم جسدها وفي كل صباح يستيقظ سعيدا ممددا عمره بالحب والحنان...

مضت سنة واشتغل (ماغاسوبا) وكانت هي في إجازة الولادة. العمل دينه والجد عقيدته ومساعدة حبيبته في أشغال البيت ورعاية الطفل عبادته.
رن جرس الهاتف.
وينكي ماغاسوبا.
صار اسمك ماغاسوبا. نسيتيني ونسيت أيامَنا.
أي أيام يا (طوماس)... ؟ أيام الغيرة اللامتناهية ومكائدك التي كانت تلاحقني لاهثة...؟!
كفى يا( فينكي)... لا تكملي. ما حدث قد حدث. إنني أحببتك ومازلت.
عن أي حب تتحدث... عن أي نجم تغني... لقد كنت أشدَّ حصانةً علي من نفسي... أنا التي كنت أسوي هيأتي في مرايا حصارك وأزيد من جمالي للفوز بك وما كنت إلا طاغوتا في حياتي. كم حاولت أن أدخل إلى أعماق قلبك وأتبين ملامح وجهك... لأني
كنت أعتقد أنك لي... لكنني ما كنت أرى شيئا... أجهل تفاصيل روحك... شعور بالخوف يخالجني من عتمة طيفك ومن المجهول في حياتي معك وكل يوم كانت روحي تتآكل وتتضاءل... في داخلي وحش لطالما أحس بجوع إلى الأمان والإطمئنان معك... وحش جريح يتألم من جرح ينزف مستعص شفاؤه فخارت قواه واختفى صوته وانينه، فبات يعدّ انفاسه الأخيرة على شللِ ِ تسلّل إلى جسده وخوف فطري يلبسه...

لا.. لا تقولي ذلك. لقد أصبح كل شيء هادئاً بعدك... الفصول تزحف ببطء على روحي المعذبة لافتقادك وتزيدها ألما عندما يتوقف زحفها عند فصل الشتاء.

أنا فارسك الأول والأخير يا (فينكي)... حبيبتي أعدك بتحقيق ما تريدينه مني حتى المستحيل... أعدك بفستان أبيض طويل.... سئمت المشي في الطريق وحدي... أبحث عنك... لا أريد إلا أن أضع رأسي على نهديك وأطلق عنان بكائي كطفل صغير على ما سببته لك من أذى... رغم شراستي وغلظتي كنت تلك اليد الناعمة البضة التي تمسك بي دائما حتى لا أهوي في حفر زلاتي... تعالي نبدأ حياتنا وننسى الهموم وننسى الكدر.... دعيني احملك فوق ظهر عشقي وأطفوبك وأسبح بين مرتفعات أمواج حبي لك يا ملاكي...
كنت أحلم بك في ثورتي وسكوني. أحلم بك في كل الفصول. تركتني وحيدة كشجرة ترتجف في أرض جرداء.
لننس الماضي، عودي إلي يا حبيبتي.
بعد أن أصبحت أما...!؟
أحسَّ بأمل مستحيل اجتاحه... يقضم أضافر أنامله... تسيل دما... ترتجف تلك الأصابع... انينها لم يكن مسموعا في تلك اللحظة....الوصول إليها مستحيل... فكيف باسترجاع قلبها.. ملأت العتمة أوردته... أنين يفيض من قلب سقيم بحبها... لم يستطع أن يلملم جراح صمته التي تضاعفت بسبب بعدها... انفجر صارخا... كاد صوته يخزق طبلة أذنها... يهدر كالمجنون... يحاول أن يبكي....فيخرج صوته مختنقا.... يتمايل وسط حزنه وحسرته... يضحك ضحكا كالبكا.....
لقد أخذك مني الأسود اللعين وتركني أرتعش وأبكي وألفظ اسمك في كل دقة من دقات قلبي. خطفك مني وتركني غبارا تثيره تسكعاتي الفزعة، أبلع صرختي المرتدة بلطمة اليأس فتقف في حنجرتي كالشوكة. اسمعي نصيحتي. ارمي الطفل لأبيه، إنهم فصيلة السواد والتخلف، ولنبدأ حياتنا من جديد.
أنت من حول راحتي لعذاب... وسحبت صوتي فأصبح يصرخ ولا يتكلم....سلبت مني كل شيء جميل... هجرتني من غير وداع... كم من مرة سافرت من غير إذن، وكان هجرك دائما يباغتني مسجلا طعنة في قلبي فيذوب متوجعا... يا من ترك قلبي كله جراح... لا والله أنت السواد المظلم والرماد المندثر... أنت المستنقع الذي يغط في قيلولة من جحيم. أما الأسود الذي تتكلم عنه فقد عرفني على الجانب الأبيض من الحياة...إنه الأسود الناصع...وأقفلت سماعة الهاتف.

قصة من مجموعة ( العربان في بلاد القرصان ) التي ستصدر قريبا


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى