السبت ٢٢ آذار (مارس) ٢٠٠٨

إبداع الشاعر يحيى السماوي في (مسبحة من خرز الكلمات)

بقلم: عبد اللطيف الأرناؤوط

آثر الشاعر (يحيى السماوي) أن يظلّ وفيّـا ً للتصنيفات النقدية التي تضع حدّا ً فاصلا ً بين الشعر والنثر، فأصدر مجموعته الأخيرة بعنوان (مسبحة من خرزالكلمات) وعنوان فرعي آخر يشير الى أنها (نصوص نثرية) مع أن نصوص المجموعة تندرج عند بعض النقاد المحدثين، في باب (قصائد النثر). وقصيدة النثر مصطلح شاع في الدراسات الحديثة، يحدد طبيعة هذا النتاج الأدبي الذي يتسم عادة بخصائص تجمع بين جماليات لغة الأدب، وتتحرر من الوزن الشعري، وإن كانت تتسم بإيقاع داخلي .

نصوص المجموعة أقرب إلى ومضات قصيرة تتناول خواطر محددة تمتاز بالعمق الفكري وجدّة المعنى والتكثيف البلاغي، وتعتمد تقنيات جمالية تقوم على المقابلات المعنوية والطباق اللفظي، وتحرص على تجسيد الفكرة بقالب تصويري حسّـي مستمد من الواقع أوالطبيعة، مما يمنحها جدة وابتكارا .. وهذا اللون من الشعر الذي يُطلق عليه مسمى (قصيدة النثر القصيرة) شاع في الأدب العربي المعاصر، وآثر بعض النقاد والدارسين وصفه بـ (الشعر المنثور).. فهوعند كاتبيه من الشعراء، شعر لا ينقصه إلآ الوزن .... أما عند (السماوي) وسواه ممن يحترمون التصنيفات النقدية السائدة، فهولون من النثر الفني، يندرج في باب الخاطرة الأدبية .. ولا شك أننا نحترم رأي (السماوي) في تقيده بالثوابت الأساسية للشعر، وحفاظه على التصنيف التقليدي ـ على رغم أن بعص نصوص مجموعته من شعر التفعيلة .. كما في قوله:

لا تسـأليني مَـنْ أنا

فإنني أجهل مَنْ أكونْ

كلّ الذي أعرفه عني:

أنا مدينة ُ الحكمة ِ

لكنّ الذي يدخلها

لابدّ أنْ يُصابَ بالجنون ْ

وقوله في نص آخر:

يا سادتي الولاة ُ

في مدائن الأحزان ْ

جميعكم أحصنة ٌ

لا تملك ُ الأمرَ على لِـجامِـها

فكيف للشعوب ِ أنْ تـُقيمَ مهرجانـَها

حين يقودُ جَـمْـعَـها حصانْ

يركبُـه ُ المُـحْـتـلُّ والآفِـكُ

والمنبوذ ُ والجـبانْ ؟

ويبدوأن شيطان الشعر، حرّضه في بعض هذه النصوص على أن يعود إلى طبيعته الأدبية .. فهوشاعر قبل أن يكون ناثرا، وربما بدا له نظم الفكرة شعرا، أسهل لديه وأحبّ، من كتابتها نثرا ً ....وإذا تجاوزنا جدل المصطلحات النقدية الذي لا نهاية له، ودخلنا في عالم المجموعة الطريفة شكلا ومضمونا، أوحى لنا عنوانها المبتكر، بالصلة الوثيقة بين الشاعر ومجتمعه .. فالسبحة أوالمسبحة، هي مظهر شرقي وأيقونة تفضي إلى كثير من الخصائص .. فهي لدى العامة من الناس، وسيلة صلاة، وأداة عدّ ٍ وحساب، ومصدر إيقاع ٍ منتظم حين تحرّكها الأصابع .. وهي عند آخرين، إعلان عن الزمن الهارب وتثبيت لمروره .. لكنها عند (السماوي) حصيلة تأمّـل ٍ روحيّ ونفسي، تمثل كل حبـّة ٍ من حبّـاتها، خاطرة تأملية مستقلة بذاتها، لكنها تنتظم انتظام المسبحة الكليّ في التعبير عن رؤيته الإنسانية والفنية، وهي مشروع لقصيدة ـ أوبعض قصيدة ـ إذا أحبّ الشاعر أن يحررها من ربقة التكثيف والتركيز والاختزال .

في المجموعة تسع وتسعون خاطرة أوقطعة نثرية أوأدبية (تماما بعدد حبّـات مسبحة النسّاك) .. لكل منها استقلالها ومضمونها الخاص، لكنها تصبّ في النهاية، في كلّ ٍ واحد ٍ يعكس (أنا) الشاعر في استنطاق ذاته والتعبير عن آماله وآلامه، وترتبط بحياته وتطلعاته .. فهي ليست لونا ً من الفكر الفلسفي المجرّد الذي لا يربط الخواطر برابط واحد .. إنها تعبير عن رؤية شعرية جمالية لها منطقها الخاص وسماتها الذاتية التي تمنحها صفة النسبية في الفكر .. فالشاعر يفكر، وقد يُطابق تفكيره الحقائق العلمية والمنطقية، وقد يعارضها، وليس لنا أن ندينه لهذه المخالفة، لأننا نعلم أنّ مسألة النسبية في العلوم الإنسانية تحتلّ اليوم مكانة بارزة في التفكير الفلسفي المعاصرالذي يشكك بمعطيات العلوم وعقم نتاجها وجمودها عند توصيف الفكر .. فثمة حقائق مطلقة في الفكر الانساني يُجمع عليها المفكرون، كالقيم العامة من حق ّ ٍ وعدل ٍ وحرية ومساواة، وهي التي يلتزمها الشعراء عادة، فإذا تجاوزنا هذه الحقائق، بدت الثقافة الانسانية متنوعة، لكل منها طبيعتها التي يجب أن تـُحترم ـ على نقيض ما تذهب إليه الحداثة من الايمان بعقل ٍ كونيّ مطلق، يزعم أن العولمة أوالعلم بلغاه مع أن ثمة نمطا آخر من التفكير، يقوم على الحدس والمجاز، أي، رؤية الشيء من خلال شيء آخر، أي، أننا لا نرى الحقيقة المطلقة، بل تجلياتها في الوجود .

أبرز خصائص التأمّـل الفكري لدى (يحيى السماوي)في هذه المجموعة من نصوصه، هي، التفكير من خلال الصور، وكشف المفارقات الخفية في رؤية العالم .. يقول في أول نصوص مجموعته:

صغير ٌ ـ كالبرتقالة ـ قلبي ..

لكنه

يَسَـعُ العالمَ كلــّـه

وهذا التفكير الشعري الذي يقوم على الصورة والمجاز والتقابل المعنوي، للفلسفة أن ترفضه، وللعلم أن يقلل من شأنه ... لكنه (التفكير الشعري) يفضي إلى إثارة أسئلة جديرة بأن يُجاب عنها، لما فيه من عمق وابتكار على صعيد الحقائق الفنية ... لم يصل العلم إلى تعليل ظاهرة الحب وانجذاب القلب إلى المحبوب، وهذه الحقيقة الفنية يقدمها الشاعر يحيى السماوي في ثوب رائع من المجاز، ممهدا للسؤال الذي لا يجيب عنه العلم أوالفلسفة فبقي معلقا بلا جواب، ليشركنا معه في التأمل:

أنت ِ لست ِ شمسا ً ..

وأنا لستُ زهرة دوّار الشمس ..

فلماذا لا يتجه قلبي

إلآ نحوك ؟

لقد علل علم الفلك انجذاب الكواكب والأقمار لقانون الجاذبية . لكنه لم يعلل سرّ انجذاب القلوب إلى ما تهواه .. وقد تأخذ خاطرة (السماوي) طابعا ذاتيا، لكنه يمثل حالة لا تستحيل أن تقع في تجاذبنا، مما يجمع بين البشر من تماثل مشترك في الأوضاع والأحوال، كالخاطرة التي تمثل وضعه في المغترب موزعا قلبه بين حرقة الغربة وأمل العودة:

بين احتضاري في غيابك

وانبعاثي في حضورك:

أتدلـّـى مشنوقا ً بحبل ِ أسئلتي ..

محدّقا ً بغد ٍ مضى

وبالماضي الذي لم يأت ِ بعد

نلاحظ هنا كيف قـَلـَبَ (السماوي) المعادلة ، فجعل الغد ماضيا، والأمس مستقبلا، لأنه في غمرة استسلامه للقادم المجهول وحنينه الماضي زمان كان يحلم بوطن لا ديكتاتورية فيه، فإذا بحاضره يرزح تحت نير الاحتلال، فضاعت أمامه معالم الزمن، والتبست دورته في مواجهة محنة لا يعرف نتائجها . هكذا أسلم الخاطرة إلى جدلية عجيبة لا تقلّ غرابة عن منطق زمانه المغلوط .

ويبرز (السماوي) في بعض نصوصه قدرته على تعمية القارئ عما تفضي إليه الخاطرة .. فهويفاجئنا دون توقع بنتيجة يرتاح لها فؤاده:

أكلّ هذه السنين العجاف ..

الهجير .. الحرائق .. معسكرات اللجوء ..

المنافي ..

وقلبي لم يزلْ

أعمق َ خضرة ًمن كل بساتين الدنيا ؟

هكذا يجهد (السماوي) أن يُطيل المقدمات في خواطره ليشوّقنا، فيمضي بعيدا في الوصف والتحليل، لنمضي معه في رحلة الفكر والتأمل، ثم يكون ختام الخاطرة:

كل ٌّ يذهبُ في حال سبيله:

النهر ُ نحوالبحر ..

السنابلُ نحوالتنـّـور ..

العصفورُ نحوالعش ّ ..

ألآفِـكُ نحواللعنة ..

القلم ُ نحوالورقة ..

الصلوات نحوالله ..

الوطنُ نحوالصيارفة ..

وقلبي نحوك !

ولا يخفى ما تتضمنه كثير من نصوصه من سخرية مبطنة، كما في قوله (الوطن نحوالصيارف) .. فالعبارة تثير في النفس الحقد على المحتل ومريديه الذين جعلوا من الوطن وما فيه سوقا ً للبيع والشراء، فتـُسـرق ـ أوتهدر ـ مليارات الدولارات على حساب شعب يتضور جوعا .

يفصح (السماوي) عن التفكير الحدسي الذي يمارسه الشاعر، فهوأشدّ خطرا ً من فكر العالِـم، وأبعد أثرا ً في حياة البشر من الكشوف العلمية التي لم تنجح في تخفيف معاناة الانسان:

أعرف تماما ً أين يرقد ( نيوتن).

وأين كان الحقل ُ والشجرة ..

لكن:

في أيّ تنور ٍ انتهت الشجرة ؟

وفي أية ِ معدة ٍ استقرّت التفاحة ؟

أعرف أنّ العبيد

هم الذين شـيّدوا الأهرامَ ..

سور الصين .. وجنائن بابل ..

ولكن:

أين ذهَبَ عَـرَق ُ جباهِـهم ؟

وصراخـُهُم تحت لسْـع ٍ السياط

أين استقر ؟

العلماء يُعنون بوصف الظاهرة وتقنيتها .. أما الشعراء فينصرف تفكيرهم إلى الانسان وما يهمه ويحرره ... ففي السطور الآنفة، يتساءل (السماوي) عن مصير عَرَق جباه العبيد وصراخهم تحت لسع السياط ـ مع أنهم الأحـَق ُّ بالخلود من (الفرعون) و(القيصر) و(الخليفة) ... وبهذا يرفع من شأن التفكير الانساني الشعري، مقابل تسفيه كـَتـَبَـة التاريخ الذين لم يلتفتوا إلى عذابات الانسان الروحية، بل سَـخـّـرواَ كشوفهم للحروب والمنازعات المدمرة وتأليه هذا القائد وذلك الديكتاتور .... فالسماوي يكره الحروب اللامشروعة ويرفض مريديها، كما يكره ما يُسمى في عصرنا (إرهاب)، لكنه يقرّهما إن كانا سبيلا لنيل حرية شعب واستعادة حقوق مغتصبة عَجز السلامُ عن استعادتها:

إنْ كان يسْـتأصِلُ مُحْـتلا ً

وما يتركُ في مُسْـتـَنقع ِ السلطة ِ من أذنابْ..

إنْ كان يسْـتأصِل ُ من بستاننا الضباع َ

والجرادَ والذئابْ ..

وسارقي قوت الجماهير ِ

وتجّـار الشعارات التي شـَـوّهت ِ المحرابْ

إنْ كان يجتث ُّ الدراويش المُـفـَخـَخين َ بالحقد ِ

وساسة َ الدهاليز الذين يعرضون بيتنا للبيع

خلف البابْ

فإنني:

أبارك ُ الإرهابْ

***

يشكل ثنائي الوطن والمنفى، الخلفية الفكرية لمجموعة (مسبحة من خرز الكلمات).. فالوطن يتجلى في صورة معشوقة يمنحها الشاعر حبا يصل إلى حدّ الذوبان فيها والاتحاد بها:

الوطنُ جسـدٌ

الحب روح ..

بعقد قِـرانهما

يتشكل

قوسُ قـُزح المواطنة ..

ويُقام الفردوس الأرضي

والحب جوهر حياتنا الانسانية .. يكبر في كل لحظة .. لكنه يضيق أحيانا:

حبي كالزمن:

يكبر في كلّ اللحظات ..

وكالوطن فرحي:

يضيق في كل اللحظات

ووطنه ممتحن بالبلاء .. يُسرَق نفطه وتـُنتهبُ خيراته، وليس للشعب منه نصيب، بل وليس للشاعر سوى فانوس خبا ونضب زيته:

كلّ ما أملك:

قلبٌ في مقتبل العشق ..

وفانوس ٌ نفطيٌّ

أنتظر موعد بطاقة التموين

لأسْـرجه !

بماذا يُـغـويك ِ عاشق ٌ

لا يملك من بحر النفط

لترا ً واحدا ً لفانوسه

في الوطن المعروض للإيجار ؟

والشاعر معلق بين الأمل والألم في منفاه، تصبوعيناه الى وطن ينقذه من الارتهان لوجع الغربة:

إثنان لا ينضبان: ألألم والأمل ..

ألأول بحرٌ أحمق ..

والثاني طوق ُ نجاة ..

لن أخشى حماقاتي

مادمت ِ طوق النجاة

يا حبيبة ً من ماءٍ ونارٍ وتراب

وكثيرا ما يعمد (يحيى السماوي) إلى التشخيص في إطار جدلية الأضداد متأثرا ً بأسلوب الشاعر أبي تمام في ترسيخ هذه الجدلية من خلال التقابل المعنوي الذي يجلوعبر التضادّ حقائق خفية يتكلم فيها الجماد:

أيها الحزن ُ: لا تحزن ..

أدرك أنك ستشعرُ باليتم بعدي ..

لن أتخلى عنك

أنت وحدك مَـنْ أخلصَ لي

فكنت ملاصقي كثيابي

حين تخلى عني الفرح

في وطن ٍ يأخذ شكل التابوت !

الخاطرة عند الشاعر (يحيى السماوي) تعكس عزف أوتار قلبه في آلامه وآماله التي تلتقي في مواجعها آلام أبناء شعبه .. ونجد في كثير من هذه الخواطر، ذات المضامين في شعره، وقد أخذت شكلا جديدا .. فالنخلة في مجموعته ترمز إلى وطنه، والشاعر يحنوعليها حتى من جرح عابر قد يصيب سعفة من فسيلة أوعشّ حمامة في بستان ... وتتسع الخاطرة لتغدوقصيدة لفكر الشاعر، كالحبة تنشق وتمرع فتغدوشجرة وارفة الأغصان بمموهبة التخيّل والتصوير .. علمنا الشاعر (السماوي)أن نفكر بقلوبنا، ونقرأ حقائق الوجود من كتاب الحياة، وأن نستمدّ قناعاتنا من آهات المنكوبين والمظلومين، فيظل للشعر أوالنثر الفني موقعهما الريادي في رسم ملامح الغد الأبهى .
وكما عرفنا ( السماوي) مبدعا في شعره، فهوفي نثره لا يقل ّ إبداعا .

****

* مسبحة من خرز الكلمات: نصوص نثرية ـ 106 صفحة ط 1 ـ 2008م منشورات دار التكوين ـ دمشق

بقلم: عبد اللطيف الأرناؤوط

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى