الخميس ٢٧ آذار (مارس) ٢٠٠٨
قراءة نقدية في رواية

حرمتان ومحرم للروائي (صبحي فحماوي)

بقلم: محمد المشايخ

رغم كثرة الأعمال الروائية التي شهدتها المملكة في السنوات الماضية، إلا أن عددا قليلا منها إمتلك ناصية التجديد، والتحق بركب الحداثة وما بعدها، وشغل النقاد بجمالياته، وعناصره الفنية التي أدهشت كبار النقاد قبل أن تـُدهش العامة، ومن بين الروايات التي جمعت بين الشكل الفني المتقدم، والموضوع الانساني المتميز، كانت رواية "حرمتان ومحرم" الصادرة مؤخرا عن مؤسسة دار الهلال في القاهرة، للقاص والروائي صبحي فحماوي، فهي تـُلخـّص على صعيد المضمون بانوراما حياة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، وفي الوقت نفسه تـُحدث تماسا جريئا مع الاقانيم الثلاثة (السياسة، والدين والجنس) فتتمازج فيها قضايا متعددة، تطال العمل السياسي، وأزمة التأقلم، والمواجهة الدائمة بين الانسان والوقائع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وحتى الدينية، هذا مع تركيزها على العلاقة بين المرأة والرجل، محدثة تجاذبا لطيفا يعكس الموقف الفكري للمؤلف الذي يرى ضرورة حدوث التكامل بينهما ليتمكنا من مواجهة الظروف الصعبة التي تطحنهما معا.

ويمكن تصنيف هذه الرواية، ضمن أهم الأعمال الأدبية التي يتمثـّل فيها الوعي النقدي، الوعي الذي تتحرر فيه الحياة من مكبوتاتها، فـَتـُشكـّل عالما تتفجر فيه دلالات قمع الفلسطينيين وقهرهم وحرمانهم وبؤسهم وهم يتعرضون لأبشع الانتهاكات الاسرائيلية لحقوق الانسان، والتي تجعل الموت أقرب إليهم من حبل الوريد عند الحواجز، أو عند القصف الذي يطالهم من البر والبحر والجو.

تتلخص الرواية في (تخرّج تغريد وماجدة من كلية المعلمات في الإقليم الفلسطيني المحتل للمرة التاسعة والتسعين، فتبحثان عن عمل، ولكن الظروف الطاحنة تحول دون العثور عليه، فتتعاقدان مع بعثة تدريسية عربية، وتغادران إلى هناك مع رجل خمسيني العمر موثقتين عقدي زواج صوريين معه، ليكون محرما لهما، وتبقيان على أمل الزواج، كل من خطيبها، الحداد جهاد صاحب محددة العودة في معسكر الحصار، وغازي الذي سافر لأمريكا للدراسة هناك، وتستمر الأحداث المروعة داخل الجيب الفلسطيني المحاصر، والغربة المهينة خارج الوطن، حتى يفشل حب تغريد لجهاد، وحب ماجدة لغازي، ولا يؤدي إلى الزواج، فتتزوجان من المحرم (ابومهيوب ) الذي عاش معهما في نفس البيت طيلة سنوات الغربة.

ورغم أن هذا التلخيص يحرم الرواية من الموضوعات التي عالجتها على الصعيد القومي، إلا أن من يطالعها سرعان ما يكتشف أنه أمام عمل روائي فيه سيرة جماعية حية، وذكريات، وسرد تاريخي، وتعليقات تلقائية، ونقد ساخر، يطال عليّة القوم، مثلما يطال العامة، لإدانة كل من ساهم في إيصال الفلسطينيين إلى الواقع الذي يعيشونه، وبالتالي فإنها رواية تبعث التاريخ بتصوّرات الحاضر ورؤاه، وهي أيضا رواية الحقائق التي لا تؤدي إلى تقييد حركة الزمان، باعتبارها حركة غير محايدة، بدليل أن لها صداها العميق في الحركة الداخلية للشخصيات، وفي التفاعل الفني.

وقد أبدع الروائي" صبحي فحماوي" في تشكيله الفني والجمالي، منطلقا في البداية من لغة السرد، وهي عنده، لغة حميمية وصادقة وشفافة، ولم تكن تأخذ نسقا واحدا، فمرة تكون تصويرية، وأخرى إخبارية، ومرة تكون لغة تاريخية، ومنطلقا فيما بعد، من الأسلوب القادر على استحضار معطيات المرحلة، وتفصيلات الحياة الأخرى، بطريقة تكاد تقول كل شيء عنها، هذا عن هندسته الواعية للرواية وخاصة على صـُعـُد :التزامن، والارتداد، والقطع المونتاجي، وتيار الوعي، وجمعه بين كتابة رواية(المرحلة الزمنية) ورواية (الأجيال)، معتمدا على الكتابة التقائية، بصرف النظر عن موقفه الفكري، الذي كان يبدو على لسان أبطاله، دون أن يُصرّح به بشكل مباشر، ودون أن يقمع آراء أبناء الشعب الذين يكتب عنهم لحظة اكتوائهم بنار الاحتلال، ومعاناتهم من ممارساته الارهابية، مضيفا لذلك ما يُسمى بالاستبعاد المكاني الذي كان يُحقق له اقصى مدى ممكن من حرية الحركة، لا سيما أن أبطاله عاشوا بداية في "معسكر الحصار، وسط حي سلام الشجعان"، والمعسكر والحي يتعرضان لرياح التغيير الناجم عن الحواجز والجدران والجرافات والآليات العسكرية الاسرائيلية، وفيما بعد انتقلوا إلى مدينة "الواحة" التي لم يذكرها بالاسم حرصا منه على تحقيق اكبر مدى من التعاطي براحة جمّة وجرأة غير عادية في أثناء حديثه عن القهر السياسي، والتخلف الاجتماعي، وفقدان الحرية، في تلك المدينة، وفي الحدود التي مروا عنها "ذهابا وإيابا".

وبفنيته العالية، جعلنا الروائي نعيش تجارب حياتنا اليومية مرة اخرى، ولكن برؤية وفهم مختلفين، لا سيما في خضم انشغاله التقني، بتوضيح أبعاد العلاقة بين الناس والارض، وبينهم مع بعضهم، وبينهم وبين عدوهم الداخلي والخارجي، فأبرز لنا بفنية عالية محتوى الشكل، ومحتوى النص، من خلال ما يسمى بالاستدارة، وهي تقنية دالة تجعلنا في نهاية الرواية نعود الى نقطة البدء، مؤكدا في آخر صفحة من أن نصه الروائي لم يكتمل، كيف لا، وهو مرتبط بالقضية الفلسطينية الحبلى بالمستجدات، مؤكدين هنا على نجاح فحماوي في نقل القارئ من عالم الرواية الفني الى عالمه الواقعي المعيش، فيجعله يشاركه في البحث عن قيم اصيلة في عالم منحط، وفي التوق الى حياة تنعم بالسلام الاجتماعي والسياسي.

أما الوصف في " حرمتان ومحرم" فقد اضطلع بدورتشييدي، عمل إلى جانب السرد والحوار في مهمة بناء النص الروائي، لتشكيل الفضاء الذي يحتضن الشخصية والحدث، لا سيما وأن الروائي لم يخضع للبناء الكلاسيكي، من حيث الحبكة المحكمة للاحداث المتتالية، للوصول الى الذروة ثم الهبوط على الخاتمة، بل أورد مشاهد سينمائية ينتظمها المونتاج المتوازي مع تيار الوعي العارم الذي يولد الصورة وينثرها بين الكلمة والمشهد.

لقد تميّز الروائي بتشويق قارئه، ودفعه لحب الاستطلاع، لمعرفة ماذا سيجري في الصفحات اللاحقة لا سيما وأنه امام رواية يُمكن تصنيفها ضمن: أدب المقاومة، وأدب المخيم، وأدب المرأة، وأدب الاغتراب، والادب الذي يرصد الانتهاكات الاسرائيلية لحقوق الانسان، وردة الفعل إزاءها.إنها رواية ترصد سيرة ومسيرة الجيل الفلسطيني والعربي، ولم تقتصر على سيرة أبطالها.

كان فحماوي يكتب الرواية من برجها العاجي بدليل تدخله هنا وهناك لاشعارنا انه يكتب بوعي، يخلق شخصياته، ويـُلصق بها أقدارها، وأحيانا يـُحاورها وتحاوره، يقول (صفحة 44): " الحلو في كتابة الرواية، أن الراوية يستطيع أن يتحكم في عباد الله، أقصد شخصيات روايته، فيرسل هذا، ويستقبل تلك، ويستبدل هذا بذاك، ويُدخل القارىء الخجول أو الفضولي أو المحظور عليه إلى غرف نومهم، وموائد طعامهم، وسراديب سجونهم، ومنصات مشانقهم، وبرك سباحتهم، وأماكن دفن مسروقاتهم، وشواطئهم العارية، ويوجه شخصية ما لتسبح في بركة من الخمر، لذة للشاربين، وبمنتهى السهولة، يقتل هذا، ويسجن ذاك".

بقلم: محمد المشايخ

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى