الخميس ٢٧ آذار (مارس) ٢٠٠٨
للشاعر العراقي (يحيى السيماوي)

الرؤية الوطنية في ديوان(البكاء على كتف الوطن)

بقلم: عبد اللطيف الأرناؤوط

محنة الوطن هي محنة الشاعر (يحيى السماوي) وهي من أكبر الأحداث التي هزّت الضمير الإنساني، فلا غرابة أن ينذر الشاعر قلمه لتصوير وقعها في نفسه. فقد غادر السماوي وطنه العراق هربا من الظلم والإستبداد الديكتاتوري على أمل العودة إليه في ظل نظام يغدوفيه العراق وطنا للجميع يخلومن القهر والإضطهاد، لكن أمله خاب حين بدت له مأساة الإحتلال لا تقلّ فداحة عن الحكم الاستبدادي، فآثر البقاء في منفاه الإختياري يمزقه الألم، وقد تخلى العالم كله عن وطن وشعب كان عبر تأريخه منهلا للحضارة ومنبعا ً للعطاء الإنساني.

في مجموعاته الشعرية السابقة، طغت نزعة الحزن المرير والشعور بالندم والحسرة على شعر (يحيى السماوي).. واستمرت هذه النزعة في ديوانه الأخير " البكاء على كتف الوطن " لكنه بدا أكثر تماسكا ً في مواجهة الواقع المؤسي، جاهدا ً في تأدية رسالته الشعرية محرِّضا ً ومنددا ً وباحثا ً عن أمل يفضي إلى غد ٍ يخلومن احتلال غاشم وإرهاب وفاقة ،فجاءت قصائده في مجموعته الجديدة هذه، حافلة بتصوير مشاعره بعيدا عن الوطن، ودعوة الشعب لينهض من عثرته، فيطرد المحتل ويحرر وطنه من تجار السياسة وسماسرتها ووضع النهاية للحوانيت الطائفية والمذهبية.

يضمّ الديوان نمطين من الشعر، التقليدي الذي خبر الشاعر أصوله ووقف على أسراره، والنمط الآخر يدخل في باب الشعر التفعيلي، ويبدوأن الشاعر لا يقلّ تمكنا ً من النظم فيه، دون أن يجنح إلى الغموض الشائه.. فشعره صاف ٍ صفاء شمس بادية السماوة التي أنجبته.

لشعراء النزعة الوطنية والقومية في الأدب العربي المعاصر، مواقف متفاوتة، بل متباينة في البحث عن أسباب المحن والكوارث التي ابتليت بها الأمة العربية، منهم مَنْ يحيل أسباب النكبات إلى الشعب فيُحمّـله مسؤولية المأساة ولا يلتفت إلى المؤامرات الخارجية التي تـُحاك ضده، ويصدرون عن توجيه رديء يبعث اليأس في نفوس الأجيال، فيلتقون في هذا المسار مع العملاء في تثبيط الهمم وإضعاف العزائم ـ وإن كانوا يتذرعون بأنهم أقدر على تحريك الجسد المتهالك واستعادة طموح عرفته الأمة العربية في الزمان الغابر ثم تلاشى.. ومنهم مَنْ يُبايع المحتل تحت ذريعة أن دباباته قد أطاحت بالحاكم المتعسف ( متجاهلا أن هذه الدبابات ستجثم على صدر الوطن ).. وثمة منهم مَنْ يرى الحكم المتعسف خطيئة ً والإحتلال عارا ًفهويرفضهما كليهما ويشهر بوجهيهما معا قلمه وحنجرته ـ والسماوي من الرهط الأخير.

يومي لـه لــيلان ِ.. أيـنَ نهـاري
أتـكون شـمـسـي دونـمـا أنــوار ِ ؟
 
أبحَرتُ في جـسَـد الفصول مهاجرا ً
طاوي الحقول وليس من أنصـار ِ
 
زادي يراعي والمدادُ.. وصهوتي
خوفي.. وظـبية هـودجي أفكاري
 
أبـدَلـتُ بالــظـل ِّ الهـجـيـرَ لأنـني
قد كنتُ في داري غـريــبَ الـدار ِ
 
لستُ الأسيفَ وإنْ فـُجعـتُ بمطمحي
أنـا مـؤمــنٌ بــمـنـاجـل ِ الأقـــدار ِ
 
أنا ضائعٌ ـ مثل العراق ِ ـ ففتشي
عني بـروضك ِ لا بليل ِ صحاري
 
وطني على سَـعة ِالسماءِ رغيفه ُ
لـكــنــه حِـكــرٌ عــلى الأشــــرار ِ
 
وتعددتْ يا هندُ في وطن الهوى
سُـــبُـلُ الـــردى بـتعــدد الـتـجّـار ِ

يوجّه الشاعر تنديده لأعداء الداخل والخارج، ويفضح مطمح المحتل ومطمعه في نفط العراق ولا يتوانى عن رفع إصبع الإتهام بوجه المتعاونين معه خدمة لمصالحهم الشخصية والحزبية والفئوية والطائفية :

فتـّشـي تحت ركام القهـر عـني
في الذي كان يُسـمّى وطنا..
قبل أنْ ينسَـجنا
في أضابير السفارات ِ
الدهاليز ِ
سـراديب ِ الخـَـنا..
والخطابات ِ التي تـُقـرأ في وجهين ِ
وجه ٌ يتهَـجّـاهُ الدراويش ُعلينا
كلما أوشكت ِ الأرضُ على الرعد ِ
ووجهٌ في رحاب " المعبد الأبيض "
تـُرضي الوثـَنـا

****
ليس مطلوبا من الشاعر أن يكون عالِـم اجتماع أواقتصاد أورجل سياسة.. فالمطلوب منه أن يتمثل جوهر المأساة بحدسه، ويوجّه رسالته بلون من الوعي.. وعي مسببات المأساة ليفضحها ويندد بها، بقالب جمالي مؤثر، وهذا ما نلمسه في شعر " يحيى السماوي " من خلال تصويره أثر المحن في نفسه، وواقع وطنه سواء في ظل النظام الديكتاتوري أوتحت رحى الإحتلال.. إنه مقاتل سلاحه الشعر، يذود عن وطنه المجزّأ ضمنا ً :

أوصِدْ نوافذك الجريحة َ
لن يُطِـلَّ الهدهدُ الموعودُ
حتى يستعيدَ عفافـَه ُ طين ٌ ووردُ
ويعودَ للأرباب ِ رُشـدُ
للأرض قصّـتها القديمة ُ :
كان يا ما كانَ
في الزمن الذي لم يأت ِ بعدُ
وطنٌ
تخاذل فيه جندُ
فإذا الرغيف الذلُّ
والماعونُ جرحٌ
والهوى سوط ٌ وقيدُ
فلتدّخِـرْ آهاتك َ
الشطآنُ سوف تضيقُ
والأنهارُ تعطشُ
تستحي من ظلها الأشجارُ
سوف يجفُّ ضرعُ الأرض ِ
والتنور ُ يغدو
إرثا ً فراتيّـا ً..
إذن ؟
أينَ المفرُّ من القصيدة
والقصيدةُ تهمة ٌ إنْ لم تـُهادن
سارقي قوت الجياع ِ
ولم تـُمَسِّـدْ لحية َ السـيّاف ِ
فادخل كوخ جرحِكَ واغلق ِ الأبوابَ
فالناطورُ وغـدُ
كذبتْ غـيومُ الفاتحين
وكاذبُ برق ٌ ورعـدُ

ويصور الشاعر مسلسل القتل والتدمير في العراق.. هذا الوطن الذي إتـّحدت كل الذئاب البشرية عليه، بينما الشعب ـ الضحية ـ مقسَّـمٌ رغما ً عنه، إلى شِـيَع ٍ على مائدة المحاصصة الطائفية التي أوجدها المحتل :

في الوطن المحكوم بالإعدامْ :
كلّ الذئاب اتحدتْ
واختلفتْ ما بينها الأنعامْ
على بقايا الزاد
في مأدبة اللئامْ
دماؤها مهدورة ٌ
فمرةً تـُذبَحُ باسم جنـّـة ِ السلامْ
ومرة ً
باسم فتاوى " حجّـة الإسلامْ "
ومرة
لأنها ترفض أنْ تـُهادنَ المحتلَّ
أو
تكفر بالحرية التي بها بشـَّـرَنا
مستعبد الشعوب ِ
جاحدُ الهدى
موزّعُ الأرزاق من بيدره الحرامْ

ويستطرد الشاعر في وصف ما يحدث في العراق من قتل عشوائي وتصفيات جسدية بشتى الذرائع :

يحدث أنْ يُـقـتلَ عصفورٌ
لأنّ ريشـهُ
ليس بلون ِ جُـبَّـة ِ الإمامْ
يحدث ُ أنْ يُصفـَعَ ظبيٌ
في الطريق العامْ
لأنه لم يُـطِـل ِ اللحية َ..
أنْ تـُطـرَدَ من ملعبها غـزالة ٌ
لأنها لا ترتدي عباءة ً
طويلة َ الأكمامْ
يحدث ُ أنْ يُـدكَّ حيٌّ كامل ٌ
وربما مدينة ٌ كاملة ٌ
بمعول انتقامْ
بزعم أنّ مارقا ً
أقام في بيت ٍ من البيوت ِ
قبلَ عامْ

وليس أصدق من هذا الشعر في وصف واقع وطن الشاعر الراهن، ولا أبعث منه على الحرقة والإستنكار.

ومن أطول قصائد الديوان وأتقنها نسجا ً وأبرزها تعبيرا ً عن ألم " السماوي " قصيدة عنوانها " سادن الوجع الجليل " وقد بلغ فيها ذروة ما يمكن أن يبلغه مستنطق لروحه المعذبة... يستهلها بيأسه من كل بيان لجأ إليه ليبرز ألمه عتابا ً لوطنه، وسؤالا حائرا ً على شفته عنه، ورسولا ً يبلغ أهله حنينه، وشعرا ً لا صدى له في دنيا الغربة، وحبا ً لا يتلقى ما يقابله، واجترار ذكريات تغذي توقه من أيام الطفولة والحرمان ، وهوفي السادسة والخمسين من عمره.. ثم يخاطب وطنه قائلا :

سـتٌّ وخمسون انتهينَ وليس من
فـرَح ٍِ أخيط ُ به فـتـوق َ عـذابي
 
الدغـل والـزقـّومُ فـوق مـوائدي
والقيحُ والـغـسـلـيـنُ في أكـوابي
 
أحبيبةَ الوَجَع ِالجليل ِ مصـيبتي
أنّ العـراق الـيـوم َ غـابَ ذئـاب ِ
 
لوكان يفتح لـلـمـشـــرَّد ِ بـابـه
لأتـيـتـه زحـفـا ً عـلى أهـــدابـي
 
وطويـتُ خيمة غربتي لوأنهـا
عـرفـتْ أمانا ًفي العراق روابي
 
نخـرَ الـوباءُ الطائفيُّ عـظامنـا
واسْـتـفحَـلَ الطاعـونُ بالأرباب ِ

ويختتم " السماوي " رائعته بتعرية دهاقنة السياسة والظلاميين والمحتقنين حقدا طائفيا في وطنه، وقد تجمعوا كالذئاب على النطيحة نهشا ً وتمزيقا :

عـشـنا بديجـور ٍ فـلما أشـمَـسـَتْ
كشف الضحى عن قاتل ٍ ومرابي
 
ومُـسَـبِّحـين تكاد حين دخـولهـم
تـشـكوالإلـهَ حـجارة ُ الـمـحـراب ِ
 
ومُـخـَنـّـَثـيـنَ يـرون دكَّ مـآذن ٍ
مجـدا ً.. وأنّ الـنصرَ حَـزُّ رقــاب ِ
 
واللاعقين يدَ الدخيل ِ تضرُّعا ً
لـنـعـيـم ِ كـرسـي ّ ٍ بـدار ِ خـَــراب ِ
 
جِيـف ٌوإنْ عافتْ عفونة لحمِها
أضـراسُ ذئــبـان ٍ ونــابُ كِـــلاب ِ !
 
وطنَ الفجيعة والشقاء ألا كفى
صـبــرا ً عـلى الدخلاء ِ والأذنـاب ِ

وهكذا يبرز صوت الشاعر " يحيى السماوي " شاعرا مقاوما للديكتاتورية مثلما هومقاوم للإرهاب والإحتلال والظلاميين وأصحاب الحوانيت السياسية وسارقي قوت الجياع... فهومع المظلومين في حربهم العادلة ضد الظلم، مع المهمشين والمسحوقين ضد ذوي القفازات الحريرية، ومع أراجيح الأطفال ضد دبابات الاحتلال... إنه مع العراق الواحد الموحد ضد كل ما من شأنه تفتيته وتشظيته.

دمشـق

* البكاء على كتف الوطن ط2 (206 صفحة قطع متوسط ) منشورات دار التكوين ـ دمشق 2008

بقلم: عبد اللطيف الأرناؤوط

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى