السبت ٢٩ آذار (مارس) ٢٠٠٨
أثر ترجمة عادل زعيتر لرواية (فولتير)
بقلم عادل الأسطة

(كنديد) في الأدب الفلسطيني

وأنا أقرأ رواية إميل حبيبي "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" (1974) راودني السؤال التالي: لو لم يقرأ إميل حبيبي رواية (فولتير) التي ترجمها عادل زعيتر إلى العربية، وهي رواية (كنديد)، هل كان سيكتب المتشائل؟ وإذا كان كتبها، وقد كتبها، هل كان سيكتبها على الشكل الذي كتبها عليه؟

إن تساؤلي هذا، كما لاحظت، قد خطر ببال كثيرين قرأوا الرواية، حين نشر إميل جزأها الأول، قبل أن يتمها، في مجلة الجديد الحيفاوية، في العام 1972، وجزأها الثاني في آخر العام 1972، وقد التفت إميل إلى هذه التساؤلات وهو يكتب بقية الرواية التي صدرت كاملة في العام 1974.

وأشير، ابتداءا، إلى أن إميل كان يجيد الإنجليزية ويقرأ من خلالها كلاسيكيات الأدب العالمي، وبالتالي، فإنه قادر على قراءة (كنديد) بالإنجليزية- حيث نقلت إليها- لو لم ينقلها عادل زعيتر إلى العربية، ما يعني أن إميل يمكن أن ينجز المتشائل كما أنجزها لو لم ينقلها زعيتر إلى العربية. هذا افتراض وارد، ولكن ما يجعلنا مطمئنين إلى أن ترجمة زعيتر هي التي تركت أثرا في إميل، وجعلته، حين شرع يكتب روايته، يكتبها محاكيا "كنديد"، مستفيدا من الترجمة، إنه هو نفسه أشار في روايته، حين نقل فقرات من كنديد، في الفصل الذي كان عنوانه: "الشبه الفريد بين سعيد وكنديد" أشار إلى أنّ الفقرات مأخوذة من ترجمة عادل زعيتر، لا من لغة أخرى، ما يعني أن حبيبي اطلع على الترجمة العربية وقرأها، وربما لولاها لما قرأها "كنديد"

هكذا إذن نكون نحن مدينين لعادل زعيتر وترجمته، فلولاهما معا: المترجم والنص المُترجَم، لربما ما حظي الأدب الفلسطيني بنص أدبي يُعد الآن من كلاسيكيات الأدب الفلسطيني، بل ومن كلاسيكيات الرواية العربية، نص ترك أثره في الرواية العربية بشكل ملحوظ، نص يعد من أجمل نصوص الرواية الفلسطينية، إن لم يكن أجملها على الإطلاق.

ولا ادري إن كانت هناك دراسات تناول فيها أصحابها تأثير "المتشائل" في الرواية العربية، وإن كنت أعرف دراسات أتى أصحابها فيها على تأثر حبيبي فيها بالآداب العربية والعالمية، وهي كثيرة:

أنا شخصيا، ومن خلال متابعتي لروايات عربية وفلسطينية وقصص قصيرة، لاحظت تأثر أصحابها بإميل حبيبي في جوانب معينة، ويمكن أن أذكر هنا رواية غائب طعمة فرمان "آلام السيد معروف"، ورواية إبراهيم نصر الله "حارس المدينة الضائعة"، وسأذكر أيضا بعض قصص كاتب فلسطيني من الداخل – أي من المناطق المحتلة في العام 1948- هو علاء حليحل، ومنها قصة كان نشرها في جريدة الأيام (رام الله) عنوانها: "المذقون" (6/3/2004). وربما هنا أفشي سرا شخصيا: في نهاية سبعينيات القرن العشرين، وكنت قرأت المتشائل غير مرة، أخذت أكتب نصوصا نثرية باسم مستعار هو عادل الراوي، أفدت فيها من أسلوب الرسائل في رواية المتشائل. أنا أيضا كنت واقعا تحت تأثير هذه الرواية التي دفعتني، في حينه، إلى قراءة "كنديد"، لأن إميل أشار إلى تأثره بها.

ذكرت أنني أعرف دراسات أتى أصحابها فيها على تأثر إميل بكنديد. وقد عدت إلى هذه وأبرزها دراسة د. أحمد حرب التي ألقاها في العام 1980 في مهرجان الأدب الوطني الفلسطيني الأول، وقد صدرت في كتاب. لكن أحمد حرب لم يعتمد على الترجمة العربية، أعني على ترجمة عادل زعيتر، وإنما اعتمد على الترجمة الإنجليزية، وأظن أنها احتوت على الجزء الأول، لا على الجزأين الأول والثاني معا، وترجمة زعيتر تضم الاثنين، وقد أتى على الإشكالات التي أثيرت حول الجزء الثاني من الرواية، الجزء الذي شكك بعض الدارسين في أن يكون من وضع (فولتير).

ما كتبه أحمد حرب في دراسته عن أوجه الشبه بين متشائل إميل حبيبي وكنديد (فولتير)، أشار إليه إميل في روايته، وكما ذكرت فقد التفت إليه قراء الجزء الأول من رواية المتشائل، حين نُشِر على صفحات الجديد. هنا سأعتمد على ما أورده إميل في نصه حول صلة روايته بكنديد، تاركا المجال لمن يريد أن يدرس أوجه الشبه بين الروايتين أن يعود إلى دراسة د. أحمد حرب. وسأقتبس ابتداء فقرات دالة من المتشائل وأتوقف أمامها.

الفقرة الأولى تتمثل في العنوان الفرعي: "الشبه الفريد بين سعيد وكنديد". طبعا هذه العبارة توضح بما لا يدعو مجالا للشك أن إميل يدرك أن هناك تشابها بين بطله سعيد، وبطل رواية (فولتير) كنديد. وأن هذا الشبه فريد، كما يقول العنوان الذي هو من وضع المؤلف الضمني.

وأما الفقرة الثانية المهمة فهي:

"فينتبه صاحبي الفضائي على أزيز طائرات نفاثة تروح وتغدو فوق البحر، شمالا إلى رأس الناقورة، ثم تغدو فتختفي وراء الجبل فأحسب أن سمكة مذعورة شدت في خيطه، فأشد في خيطي شدا خفيفا، فيهديء من روعي.

ويقول: تذكرت ما أتاني من تقول أصحاب صاحبك على ما نشره من رسالتك الأولى إليه وقولهم: احتفز الأستاذ ليشب فوقع دون كنديد إلى الوراء مئتي عام!"

ويوضح الكاتب في الهامش أن كنديد أو التفاؤل هي قصة (فولتير) الشهيرة التي نشرها عام 1759.

وهنا أتوقف أمام دلالات العبارة السابقة، وهي دلالات أشرت إلى بعضها من قبل.

هناك ثلاث عبارات دالة هي:

* تَقَوُّل أصحاب صاحبك.
* على ما نشره من رسالتك الأولى إليه.
* وقولهم: احتفز الأستاذ ليشب فوقع دون كنديد إلى الوراء مئتي عام.

أما الأولى: تَقَوُّل أقوال صاحبك فتعني أن قراء الجزء الأول من المتشائل، فسروها وأولوها، وأشاروا إلى تأثر إميل بكنديد.

وأما الثانية فهي إشارة إلى نشر إميل أجزاء من المتشائل قبل أن تصدر في كتاب.

وأما الثالثة فيظهر فيها رأيهم في المتشائل أسلوبا. هل جدد إميل في الرواية، هو الذي بدأ يكتب وهو في الخمسين؟ وحين حاول [احتفز الأستاذ ليشب] فماذا أنتج؟ ورأيهم أنه أنتج نصا يعود إلى مئتي عام خلت- أي إلى العام الذي صدرت فيه رواية "كنديد" وهذا يعني أن إميل تأثر في أسلوب روايته بأسلوب (فولتير).

وأما الفقرة الثالثة فهي:

" فأقول:

ما شأنه وهو رسول؟ فما على الرسول إلا البلاغ!

فيقول:

كنديد متفائل أما أنت فمتشائل.

فأقول:

هذه نعمة خص بها قومي دون بقية الأقوام.

فيقول:

إن في الأمر لمحاكاة.

فأقول:

لا تلمني، بل لُمْ هذه الحياة التي لم تتبدل، منذ ذلك الحين، سوى أن "الدورادو" قد ظهرت فعلا على هذا الكوكب.

فيقول:

أفصح".

واللافت هو قول الآخر/ صاحبه له: إن في الأمر لمحاكاة، مع أن أنا المتكلم/ المؤلف الضمني يشير إلى فرق بين كنديد، وبينه، فكنديد متفائل أما هو فمتشائل. والسبب يعود، كما نعلم من أنا المتكلم، إلى الاختلاف بين الأقوام، فسمة التشاؤل نعمة خص بها قومه.

واللافت أيضا هو رؤية أنا المتكلم للحياة، فهي لم تتبدل منذ مئتي عام إلا جزئيا. تتكرر التجارب، ويتكرر التشرد، ويتكرر القتل، وتتكرر الرحلات، وببساطة يتكرر كل شيء. وربما نتذكر هنا ما قاله الشاعر العربي القديم: ما أرانا نقول إلا معادا مكرورا.

وإذا كان هناك من اختلاف بين ما كانت عليه الحياة قبل مئتي عام، وما غدت عليه زمن إميل حبيبي- أي بعد مئتي عام من حياة كنديد (فولتير)، فهو أن ما كان خياليا غدا واقعيا. اعني أن الدورادو التي كتب عنها (فولتير) في روايته كانت ضربا من الخيال، أما زمن إميل حبيبي فقد غدت واقعا. وقد يثير المرء حول (الدورادو) التي يعنيها إميل تساؤلا مهما: أين هي؟

ومن ثم يبدأ أنا المتكلم يقارن بين الشبه الفريد بين سعيد وكنديد، ويتمثل، كما أفصح عنها، بالتالي:

يأتي سعيد على تعزية (بنغلوس)، وهو صديق (كنديد)، نساء الآبار على ما فعله بهن عسكر البلغار، من اغتصاب ومن بقر بطون ومن قطع رؤوس ومن هدم قصور، بقوله:

"غير أنه انتقم لنا، فقد أصاب الآبار بمثل ذلك السوء بارونية مجاورة يملكها سنيور بلغاري".

ويعقب عليها قائلا: "فبمثل هذه التعزية تعزينا نحن، بعد مئتي عام". وهنا نتذكر ما سلف من أن إميل يدرك أنه يحاكي كنديد، لأن الأحداث تتكرر.

ويرى سعيد/ إميل أن إسرائيل انتقمت من الفلسطينيين بقتل نسائهم وأطفالهم، بعد أن قتل الفلسطينيون، في العام 1972، رياضيين إسرائيليين في مدينة ميونيخ في ألمانيا. وبعد أن حققت إسرائيل انتقامها اجتمع الوزير (بنغلوس) الإسرائيلي- إشارة إلى وزير المعارف والثقافة في حينه- بأرامل الرياضيين الإسرائيليين المغدورين وعزاهن.

ويقتبس سعيد/ إميل من "كنديد" الفقرة التالية:

و"كنديد" يعن له، في يوم من أيام الربيع، أن يتنزه وأن يمضي قدما معتقدا أن استخدام الإنسان لساقيه، كما يروقه، هو امتياز للنوع البشري، كما هو امتياز للنوع الحيواني، ولم يكد يسير فرسخين حتى أدركه أربعة أبطال طول الواحد منهم ست أقدام، فأوثقوه، وأتوا به إلى سجن مظلم".

ويأتي سعيد/ إميل على ما ألم ببضعة أولاد من قرية الطيبة مضوا إلى مدينة ناتانيا ليروا البحر، فألقي القبض عليهم واقتيدوا إلى محكمة عسكرية أوقع بهم حاكمها عقوبة الغرامة، فمن عجز عنها أودع السجن.

ويورد إميل من رواية كنديد ما كان يفعله القرصان، حين استولى على سفينة في عرض البحر، بالنساء، وينقل ما روته امرأة عجوز عما نزل بها من تفتيش، إذ قالت:

"ويعرون من فورهم كالقرود.... ومن الأمور التي تثير العجب سرعة تعرية هؤلاء السادة للناس. ولكن أكثر ما أدهشني هو إدخالهم إصبعا إلى مكان فينا جميعا لم نكن، نحن النساء، لندع شيئا يدس فيه غير أنابيب المحقنة....".

ويذكر سعيد/ إميل ما تفعله السلطات الإسرائيلية بالمواطنين العرب جوا وبحرا وبرا- في مطار اللد، وفي ميناء حيفا، وفوق الجسور المفتوحة.

وبعد أن ينتهي سعيد من قص هذه الحكايات على صاحبه الفضائي يقول الأخير مستريحا:

فهل تَقَوُّل أصحاب صاحبك عليه، بانه قلّد كنديد، يعود إلى أنهم حين كانوا يعرونهم، كانوا يدخلون أصابعهم هناك؟".

مرة أخرى يعود سعيد/ إميل إلى قضية التقليد والمحاكاة، إلى قضية تأثره في متشائله بفولتير في كنديده. وعلى الرغم من التشابه الذي لوحظ في الأمثلة الثلاثة، وعلى الرغم من التشابه بين الروايتين، وهذا ما توقف أمامه أحمد حرب بإيجاز يمكن أن يتوسع فيه أكثر وأكثر، ثمة ما هو مختلف بين سعيد وكنديد. ومن هنا نجد أنا المتكلم/ سعيد/ إميل يجيب صاحبه الفضائي قائلا:

" إن الأمر، يا سيدي، مختلف جدا، فبنغلوس كان يعزي نساء شعبه المبقورات البطون بأن عسكر شعبه قد فعل مثل هذه الفعلة بنساء الأعداء. أما عرب إسرائيل فهم ضحية العسكرين، عسكر الآبار وعسكر البلغار".

وحين يطلب صاحبه منه أن يأتي بمثل على هذا، يورد له ما ألم بقرية برطعة التي سطا فريق من اللصوص فيها على قطيع بقر أردني، فعانى سكان القرية معاناة مرة من الطرفين الأردني والإسرائيلي. دخل الجنود الأردنيون إلى القرية وعاقبوا سكانها وضربوهم ضربا مبرحا، ولما غادرها الجنود الأردنيون دخل إليها الجنود الإسرائيليون، فضربوا من وجدوا سليما- أي من لم يضربه الجنود الأردنيون، وهكذا دفعوا ثمنا باهظا، ولم يجدوا من ينتقم لهم، وبالتالي لم يجدوا من يعزيهم بأن عسكر شعبهم انتقموا لهم.

وينهي سعيد/ إميل هذه المقارنة العجيبة بين عرب إسرائيل وبين كنديد فيقول:

"كنديد، يا سيدي، كان يقول: "كل شيء في هذا العالم حسن لا ريب فيه. وذلك مع الاعتراف بإمكان الأنين قليلا مما يحدث في عالمنا روحا وبدناً". أما أنا فحتى الأنين لم يكن متيسراً لي".

فيقول صاحبي الفضائي: أفصح!

فأفصح وأقول:"

ولعل وقت المحاضرة لا يتسع لمزيد من المقارنة، ولعلني أعود ثانية إلى الروايتين وأجري مزيدا من المقارنات، لعلني أو لعل طالبا آخر يدرس الفرنسية ينجز ذلك، وشكرا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى