الاثنين ٣١ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم مجدي علي السماك

البنطلون المبلول

في يوم بعيد وشديد البرودة من أيام كانون، قبل ثلاثين عاما، وقف الأستاذ عبد الجليل نائب مدير المدرسة كعادته بوجهه الأحمر الملسوع من البرد قرب بوابتها الكبيرة المشرعة لابتلاع التلاميذ جماعات وفرادى، ليس قربها بالضبط، إنما بعيد بعض الشيء، يذرع الأرض ذهابا وإيابا، مطأطأ الرأس وقد لف ذراعيه خلف ظهره، وأخذ باطن كفه الأيسر يحتضن قفا كفه الأيمن، وتركهما يستريحا على العصعص. أحيانا يتوقف للحظات بين الفينة والأخرى، ليطيل النظر إلى الأرض حوله كمن يبحث عن قطعة نقود ضائعة، ثم يعود للمشي البطيء كالسلحفاة من جديد. وقد يضع كفه في جيب بنطاله ليدفئه، فيخرج الكف وقد اصطاد حبة فول كان قد نسيها من زمن، فيلقي بها في فمه كمن يلقي حجرا في حفرة عميقة، وقد يقتنص الكف فتافيت ورق عتيق فيرمي بعضها ويحتفظ بالبعض الآخر.

وهو يأتي إلى هذا المكان بالذات كي يمسك تلميذا متأخرا فيوبخه أو يضربه، وهذا يعتمد على مدى قرب التلميذ إلى نفسه أو على مكانة أهله.. بينما هو كذلك لمح من بعيد تلميذا قادما، لم يستطع أن يميز ملامحه، رغم نظارته الجديدة ذات الإطار البني الداكن. فأخذ احتياطه وراح يتأكد بأنامله من سلامة إغلاق دفتي سترته الضيقة، والملتصقة بجسده وكأنه حشر بها حشرا بعد عناء، ولامس ببواطن أنامله أزرارها المعدنية، التي فقدت بريقها وكُشط طلاؤها. ثم بسرعة مذهلة أعاد لف الشال الخشن المصنوع من الصوف حول رقبته الثخينة، وعقصه إلى الوراء حتى تدلى إلى أسفل ظهره كذيل حصان. وركز بإتقان الطاقية الحمراء التي تغطي صلعته وشدها إلى أسفل حتى غطت ثقبي أذنيه، وانتصب بجسمه الفارع معتدلا كالعمود، وراح يمشي بهدوء ورأسه مرفوعا في الهواء حتى بدا منفوشا مثل الديك البلدي.

اقترب التلميذ من البوابة بخطوات بطيئة مترددة، وهو يشعر بحرقة في قدميه لشدة البرد وكأنه يحتذي حذاء مصنوعا من الفلفل الشطة، وقد أخذ ينفخ من صدره الهواء الدافئ إلى كفه الصاقعة تارة، ويلتقط أنفاسه من الهواء البارد تارة أخرى، أما الكف الأخرى للتلميذ فممسكة بحقيبة الكتب المصنوعة من القماش، وقد امتلأت ببقع زيت الفلافل. ما أن اقترب التلميذ من الأستاذ عبد الجليل حتى نادى عليه بصوت جميل عميق ورنان، كأنه صادر عن حنجرة شدت أحبالها الصوتية بعناية كما أوتار العود وقال ساخرا متهكما ومغتاظا:

 إلى أين أنت ذاهب يا ولد؟
 إلى الفصل يا أستاذ.
 ولكنك متأخر.. لقد قرع الجرس من ربع ساعة!
 أعرف يا أستاذ.. أرجو المعذرة.. أنا آسف.. لقد تأخرت لأمر طارئ.

لم يرق للأستاذ عبد الجليل هذا الجواب، فتحسس نظارته بأطراف أصابعه وكأنه يتأكد من وجود وجهه خلفها، ولامس بطرف لسانه شفته العليا عدة مرات حتى تبللت أطراف شاربه الكثة، وأخذ وجهه بالانقباض والتقلص حتى انكمش، وظهرت عليه خطوط التجاعيد من أعلى جبهته حتى أسفل جفنيه آخذة طريقها المتعرج إلى حواف فمه الواسع.. ثم سلط كشافات عينيه على بنطلون التلميذ وكاد أن يصاب بالهوس حين رأى لونه أخضر، فهذا يخالف قوانين ولوائح المدرسة التي تعتمد اللون الأزرق كزيّ رسمي.. فصرخ بالتلميذ مزمجرا:

 " وكمان لابس بنطلون أخضر بدل الأزرق ".
 البنطلون الأزرق مبلول يا أستاذ.. لقد نسيت أمي وغسلته بدل أن تغسل البنطلون الأخضر.. فأنا مضطر لأن البس البنطلون الأخضر المتسخ.
 يعني أنت ارتكبت ثلاثة ذنوب.. التأخر عن موعد الجرس ولابس بنطلون اخضر وفوق هذا كله متسخ ومليء بالبقع.. ليته نظيف.
 لا أملك سوى بنطلونين يا أستاذ.. إنه خطأ والدتي التي غسلت البنطلون الأزرق النظيف بدل الأخضر المتسخ.

انفجر الأستاذ عبد الجليل كاللغم صائحا: أنا لا استطيع أن أعاقب والدتك، ولكنني استطيع عقابك أنت أيها المهمل المستهتر.. ثم مد يده وأمسك بعصا الخيزران، التي يضمها تحت لحم إبطه المترهل، لكن التلميذ رفض أن يفتح يده بإصرار، و كأن كل ما في الدنيا من عناد تجمع في رأسه الصغير المنصوب على رقبته الرفيعة.. فضربه الأستاذ بالعصا على مؤخرته ضربتين ثم قرر أن يحيل أمره إلى مدير المدرسة وهو يزعق متأففا:

  جيل خايب ومستهتر.. جيل خربان.. جيل بايظ.. قلة أدب.

في طريقهما إلى غرفة المدير أخذ التلميذ يمشي ببطء بالبنطلون الأخضر غير المكوي الفضفاض، و المتهدل وكأنه ممضوغ في فم كلب، فسبق الأستاذ عبد الجليل الذي يمشي ببطء شديد لصعوبة ثني ركبتيه لأنه يلبس ثلاث بنطالات فبرزت منها معالم عظام ركبتيه كفلقتي الصابون النابلسي، شعر الأستاذ عبد الجليل في أعماق نفسه أن هذا ذنب رابع اقترفه التلميذ.. فصرخ وكاد صدره أن يتفتت من الغضب:

  لا تسبقني يا أحمق، ألا يكفيك ذنوبك الكثيرة، فوق هذا كله تتصرف بقلة أدب.

تراجع التلميذ وتباطأ أكثر في مشيته خلف الأستاذ وهو يستنشق رائحة عطره الفواحة التي تشبه رائحة الفانيلا المستخدمة في صناعة الحلويات.. ولكنه سرعان ما ارتجف جسده خوفا مضافا إلى ارتجاف البرد لما دار في ذهنه من إشاعات كان قد سمعها عن جبروت المدير وبأسه. خاصة تلك التي تتعلق بشدة قتاله ضد الصهاينة عام ثمانية وأربعين، وكيف أنه ذات يوم أمسك بصهيوني قرب مدينة عكا، ورفعه بين يديه عاليا وخبطه بصخرة كبيرة فكسر عموده الفقري ومات، أو تلك الإشاعة التي تقول أن بإمكانه أن يتغذى على خمسة أرانب في وجبة واحدة، وأن يشرب وراءها نصف زير من الماء.

ما أن وصلا إلى باب غرفة المدير حتى تثاقلت خطى التلميذ كما السيارة الفاقدة للهواء في عجلاتها " بنشر "، ثم توقف عن المشي نهائيا، وكأنه أمام إشارة كف على مفترق طرق.. فطلب منه المدير الاقتراب وأشار إليه بالجلوس على المقعد الخشبي وسأله عن حكايته، فأخذ التلميذ يقص على المدير كل الحكاية من الإلف إلى الياء، كان يتحدث خائفا بتأتأة وفأفأة، على حين أخذ الأستاذ عبد الجليل يتدخل بحماس بالغ مقاطعا بكلمة أو مضيفا بعض الجمل بين لحظة وأخرى، أحيانا يلتزم الصمت ويضم شفتيه إلى بعضهما مشددا الضغط على فكيه حتى تنتفخ وجنتاه المشدودتان كحبتي كستنا.. لمّا فرغ التلميذ من كلامه صار المدير يحدق به مليا، و أشار إليه برفق أن يذهب إلى فصله.. ثم صوب إلى الأستاذ عبد الجليل نظرات تقدح بالشرر وقال مؤنبا وحانقا: ألا تعلم أن والد هذا التلميذ فقد عقله عندما قتلت إسرائيل كل أقاربه وأهله أمام عينيه؟!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى