الاثنين ٣١ آذار (مارس) ٢٠٠٨
في رواية رجيم الكلام لفوزية شويش السالم
بقلم بوشعيب الساوري

الذات والكتابة والوطن والتاريخ

1- دلالة العنوان
كما جاء في المعاجم الرَّجمُ: الرَّميُ بالحجارة، والرَّجم: القذفُ بالغيب وبالظنِّ، ومنه قوله تعالى: "لأَرجمنكَ واهجُرني مَلِياً" أي لأقولن فيك ما تكرهُ. والمقصود به في الرواية الكلام القبيح الجارح الذي قيل كثيرا وبصيغ متعددة في الكاتبة من قبل الحاقدين. تقول الرواية:" دخلت القاعة، ورأيته يجلس في الصدارة.. ما يزال يتكلم في اختيال وعنجهية وفذلكة.. وما يزال يردد ادعاءات كذبه المأفون.. ومضيت بذهول الدوي ورجيم الكلام…" (ص.265.)

انطلاقا من العنوان تبدو لنا الحمولة الأخلاقية للرواية، إذ تسعى الكاتبة من خلال روايتها ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد؛ إعادة الاعتبار لنفسها ككاتبة لها مكانتها المتميزة، تصفية الحساب مع من نصبوا أنفسهم أوصياء على الإبداع، الكتابة عن الوطن والذات من خلال تجربة الاجتياح العراقي للكويت، وتمجيد رموز الوطن من خلال شخصية أسرار البطلة التي دخلت تاريخ الكويت من بابه الواسع. وهو ما انعكس على شكل الكتابة الروائية فجاءت متراوحة بين التاريخ والاحتفاء والبوح السير ذاتي والتأمل الأدبي والنقدي في عملية الإبداع ومحاسبة ولوم الحاقدين

2- الانشغالات الروائية
 1- الفقدان
تلتقي الرواية على الرغم من تشعب مشاغلها حول ثيم ناظم هو الفقد الذي يتخذ تجليين في الرواية:
 فقد عام ويهم الوطن من خلال التركيز على الاجتياح العراقي للكويت الذي جعلته الكاتبة منطلقا لتشكيل عالمها الروائي بالإضافة إلى إظهار وقع الاحتلال والفقد على الانسان الكويتي انطلاقا من دواخل النفوس التي عانت منه. فيصير الفقد جماعيا ومشكلة الوطن بأكمله. وفقد المواطنين لذويهم واختفائهم أثناء الاجتياح، بتسليط الضوء على مشاكل الاختفاء وآثارها على الناس وتفاعلهم معها، من خلال التركيز على الانفعالات والتوتر والألم والصدمات وكيف تمت مواجهتها.
 فقد خاص يهم شخصا بعينه مثل فقد الساردة فوزية لزوجها، وفقد الساردة نارنج لحبيبها. وفقد الكاتبة لمكانتها الاعتبارية لدى بعض الأوساط النقدية في الكويت أو بعبارة أخرى رفض الاعتراف بإبداعها. والكتابة من هذا المنظور تصير علاجا لأزمة الفقد وتجاوزها وهو ما تحاول نارنج الساردة الكاتبة في الرواية. كما أن الكتابة بالنسبة لفوزية صوت الكاتبة الحقيقية فرصة للمكاشفة والمحاسبة والتأمل في التجربة الإبداعية وأصدائها وفي الذات.

 2- القيم
تعلي الرواية من شأن بعض القيم مثل التضحية في سبيل الوطن والحب، والاعتراف بالآخر، مقابل الحط من بعض القيم مثل الاستغلال ورجم الناس بالكلام على عواهنه. ويتجلى ذلك في علاقة الكاتبة بالنقد؛ من خلال ما تعرضت له أعمالها السابقة من نقد لاذع وتهميش إلى درجة رفض نعتها بالكاتبة.

تحتج الرواية ضد التردي القيمي النسبي الذي يطبع سلوك بعض المثقفين ، انطلاقا من سلوكاتهم وردود أفعالهم تجاه الأعمال الأدبية، وذلك بالسعي إلى فضح ادعاءاتهم ونشرها وإخراجها من دواخل الشخصية بعد أن أثرت بشكل سلبي على الشخصية الساردة فوزية وظلها نارنج. وبالمقابل تحتفي الرواية بالقيم النبيلة مثل التضحية في سبيل الوطن انطلاقا من قاعدة متوارية وراء السرد وهي الدعوة إلى مكافأة الطيبين ومعاقبة الأشرار.

لا تُقدم شخصيات الرواية باعتبارها نماذج تحتدى، وإنما تُعلى من شأن بعض القيم النبيلة، والازدراء بقيم أخرى مثل الهجوم على الإبداع الحداثي، العنف ضد المرأة واحتقار ها.

وعموما فسلم القيم إيجابي وأحادي البعد يعلي من قيم الخير ويحط من قيم الشر والحسد والخيانة والعنف، في علاقة بسياق الكتابة عندها وعلاقتها بالنقد أي سياق تلقي أعمالها. فتتداخل الذات والكتابة والوطن.

 3- الرواية والتاريخ
تكتب فوزية سالم الشويش روايتها هذه ضد النسيان ، لتؤرخ روائيا للعديد من الأحداث الكبيرة التي شغلت الذات والوطن بل العالم ككل خلال فترة زمنية ممتدة بين الاجتياح العراقي للكويت وما بعد الاجتياح الأمريكي للعراق واحتلاله، بالعودة إلى الماضي القريب، بعد أن أخذت مسافة زمنية مكنتها من جمع العديد من المعطيات، بالإضافة إلى تطورات ما بعد الحرب وملف الأسرى.

تعيد الرواية كتابة التاريخ لكن من دواخل الشخصيات، انطلاقا من تجارب فقد الأهل والأقارب بتوظيف حكايات المفقودين وشهادات الأمهات اللواتي فقدن أبناءهن. كما تسجل تجربة الخوف من الحرب والاجتياح بسبر دواخل الشخصيات وما يعتمل داخلها. بتحويل التاريخي إلى محكي عبر الإعلاء من شأن الانفعالات الداخلية واستعادة فترة تاريخية انطلاقا من مشاعر الانسان، وهذا ما يميز الرواية عن التاريخ بالإنصات ووضع اليد على الأمور التي عادة ما يسكت عنها المؤرخون.

3- البناء السردي واللغة السردية
 1- البناء السردي
تختار الروائية تقنية التوازي بين ثلاث حكايات تؤشر عليها باختلاف الخطوط “الغرافيك” الخط البسيط العادي خاص بالساردة نارنج والخط المضغوط خاص بسارد غير معروف يحكي عن البطلة الأسطورية أسرار وهناك خط ثالث خاص بالساردة فوزية. مما جعل الرواية تقوم على ثلاثة برامج سردية متوازية لكنها تتقاطع أحيانا لتعطي للسرد صبغة مرآوية خصوصا بين نارنج وأسرار حينا وبين نارنج وفوزية حينا آخر.

يضطلع السرد بمحاولة فهم شخصية أسرار الشهيدة، تلك الشخصية التي أجمعت كل الاتفاقات على بطولتها الأفعال والأبراج تقول:"إلا أن طبيعة برج القوس هي النار وهي أعلى مستويات الطاقة نشاطا."(ص.259.) فهناك احتفاء بأسرار وبطولاتها وما أنجزته إبان الاجتياح العراقي للكويت، بالمقابل هناك جلد للذات انطلاقا من مرآة الشهيدة البطلة.

بالنسبة لنارنج الكتابة عن أسرار فرصة للبوح وفضح الذات وتجريحها وجلدها ليصبح الحديث عن البطلة الوطنية أسرار فرصة لإدانة الذات. تقول: "ليس إلا أسرار من تفضح أسراري. ليس إلا هي من يعريني ويفضحني أمام ذاتي."(ص.12) لتصير أسرار مرآة لا تقوم على التماثل وإنما تعكس الذات بشكل معكوس يكشف خيبات نارنج وخوفها. فتصير أسرار مرآة فاضحة لها، فالحديث عن بطولة أسرار ومجدها يصبح فرصة لجلد الذات وفضحها وبيان خوفها. وهو ما جعل الرواية تقوم على مفارقة أساسية بين شخصيتين نارنج وشخصية أسرار، تقابل على عدة مستويات هو الذي يدفع إلى تناسل الحكايات وتشعبها.تقول:" امرأة في الثلاثين قطفت النجوم..وامرأة في الثلاثين قطفت الخواء..بيدين عاريتين وعمر راجف.." (ص.258.)

نارنج تتحدث عن ذاتها انطلاقا من فقدها واختفاء حبيبها المتزوج الذي يجرها للحديث عن وضع المرأة وكيف يتم التعامل معها في مجتمع ذكوري، ليتناسل السرد إلى مجموعة من الحكايات سواء وقعت لنارنج أو لصديقاتها(حكاية بصيغ متعددة) تلتقي في أمر واحد وهو العبث بالمرأة والازدراء بها.

على عكس الساردة فوزية ظل الكاتبة التي فيها شيء من أسرار، الحاضرة في أعمالها الإبداعية السابقة مثل النواخذة… تقدم الساردة فوزية تصوراتها الجمالية في الكتابة وطقوسها وعلاقتها بالذات والجسد. كما تحاول الكاتبة فضح تصور قائم في الكتبة والتلقي وتأسيس تصور جديد وخلخلة السائد. تقول:"وها أنا أهديه نصا سيضعه فوق بركان الحيرة.."(ص.113.) يصبح السرد أحيانا فرصة لحديث الكاتبة عن مسارها الفني بلغة مفعمة بالحسرة والبوح والفضح وتصفية الحسابات مع بعض الأشخاص. ربما عجزت عن ذلك في الواقع فأدخلت هذا الهم إلى الرواية، وكأنها كانت تتهرب من المواجهة إلى أن طفح الكيل وانفجرت في هذا النص.

فإذا كان السرد بالنسبة لنارنج مناسبة للحسرة والبوح وجلد الذات، انطلاقا من غرابة الاسم نارنج، مقابل أسرار التي لم تعش الغربة قط وكان السرد لديها فرصة للحديث عن الذات وعلاقتها بالأشياء والناس(عجزها عن تكملة تعليمها) والحديث عن الكتابة التي اعتبرتها فرصة للتنفيس عن أزمتها وعلاجا لها فضح كواليس الكتابة ودواليب النشر القائمة على استغلال الكاتب الذي تعامل معها كأنثى ولم يتعامل معها كإنسانة كاتبة بالطمع في جسدها مقابل النشر، فالسرد بالنسبة لفوزية فرصة لرد الاعتبار وفضح المغرضين. فالسرد كان فرصة لفضح العفن الثقافي فما لم تستطع قوله فوزية أوكلته للساردة نارنج لأنها مرآة لها في الكتابة وفي المعاناة مع السياق الثقافي. وهو ما فرض حضور التفكير في الكتابة الروائية والإبداعية ومشاكل التلقي الخاطئ ومساوئه ومحاسنه على العملية الإبداعية للكاتبة. لتغدو الرواية في بعض الأحيان شهادة للكتابة. فكان السرد فرصة للفضح وتصفية الحسابات بذكر المتعاونين والناقمين بأسمائهم سواء بانسبة للساردة فوزية التي اختارت أن تكون بطلة أو ظلها نارنج.

ما تشترك فيه فوزية ونارنج كل منهما فقدت عزيزا زمن الاحتلال وفي الكتابة وفي الحديث عن أسرار. فكل من فوزية ونارنج تقيم مقارنة بينها وبين أسرار ففوزية ترى أنها آثرت الخوف والحكمة خوفا على أبنائها. أما نارنج فلم يكن لها أي مبرر للخوف.

لم تقدم لنا الساردتان سيرة عن أسرار بالمعنى المتعارف عليه بقدرما قدمتا تفاعل اللغة مع الأحداث التي أقدمت عليها هذه الشخصية البطولية. عبر سرد تقريري يعتمد على ما هو عام، تقارير، عملت الكاتبة على إدراجها كما هي عبر تقنية الكولاج.

عموما يتميز السرد في رواية رجيم الكلام بعدة خصوصيات تمنح النص جاذبيته، منها ارتكازه على تقنية تعدد الساردين والتنويع في أشكال السرد؛ البوح، التقرير، اليوميات، الاسترجاع والتقرير، التي تكسر خطية السرد.

 2- اللغة
يصبح السرد ومعه اللغة احتفائيين بشخصية أسرار البطلة الوطنية وذكر مناقبها والتذكير بجلائل الأعمال التي قامت بها على الرغم من كونها امرأة داخل ظروف الاحتلال القاسية. وفي أحيان أخرى تصير اللغة نقدية تجريحية عندما تعمل على فضح الذات(نارنج) وفضح دسائس المثقفين بالنسبة لفوزية. وعند الحديث عن تجربة الكتابة تصير اللغة تأملية في شروط الإبداع.

عموما تميزت اللغة في الرواية بالتعدد والتنوع؛ فإلى جانب لغة السرد هناك لغة شعرية عبر الحضور الكبير الكثير من النصوص الشعرية والزجلية، ولغة نثرية تقريرية، ولغة وصفية ترصد الانفعالات، ولغة تحليلية نقدية للتصورات والمواقف والأوضاع، وهناك لغة استفهامية عبر الحضور القوي لأسلوب الاستفهام الذي يهدف إلى الفهم وفي أحيان كثيرة إلى الاستنكار. الذي يطلع بدورين حسب كل ساردة:

 فعند نارنج فرصة لتأزيم الذات وجلدها ومحاولة فهمها مقارنة مع البطلة أسرار.
 أما بالنسبة للساردة فوزية فيتخذ نبرة احتجاجية ومحاولة فهم دواليب السياق الثقافي الكويتي.

تقول:"لماذا نشر نص لي يحدث كل هذا الإزعاج؟"(ص.75.) وهو كذلك فرصة لفضح القيم والمنطلقات التي احتكم إليها الخصوم من الأوصياء على الإبداع وتناقضاتها في الحكم على تجربة الكاتبة.

هكذا يمتزج في رواية رجيم الكلام الحديث عن الوطن وأزمته، من خلال شهادات الأمهات وأصواتهن المفجوعة مثلا وانطلاقا من الذات ومشاكلها ومشاغلها بتسليط الضوء على دواخلها ومعاناتها في الوجود والكتابة وتجربة الحب ومعاناتها، بالحديث عن الكتابة ودسائسها ومشاكل النشر والتلقي وسوء الفهم. لتجمع الرواية بين أمرين الكتابة والتفكير فيها. كما تقيم علاقة بين الكتابة وسياقها. وهو ما يفسر عدم بقاء الرواية سردا خالصا؛ لتصير تأملا في الحياة الخاصة للساردة والكاتبة بفهمها ووضع اليد على مقومات ومرتكزات تلك الحياة انطلاقا من الحضور القوي لأسلوب الاستفه


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى