السبت ١٢ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨
بقلم صبحي فحماوي

1 + 1 = صفر

أشعر برعب شديد، بعكس كل زملائي، الذين يشاهدون الفيلم الزراعي حول حشرة المن وهم يتضاحكون! لا يزال عقلي وذهني وأعصابي متأثرة بهذا المشهد المخيف، وسبب تضاحك الزملاء المشاهدين لحشرة المن، المكبرة آلاف المرات على شاشة العرض، هو أنها منتفخة مثل خدين طافحتين لطفلة بريئة، بما تحوي من سائل امتصته من عصارة ورقة النبات التي تعيش عليها. الحشرة تمتص بخرطومها الإبري عصارة ورقة النبات بشهية بالغة، فينتفخ جسدها بهذا السائل، ليصبح مثل بالون كبير.

وكالعادة، أضع على أذنيّ سماعتي مذياع نقّال، أضعه في جيبي مثل الهاتف الخلوي، أسمع منهما طنطنات، وأغانٍ، ونشرات الأخبار المتدافعة المتدفقة من مختلف بقاع الوطن العربي، مثل رش المطر.. وأنا أعرف أن هذه عادة سيئة، وأن (صاحب بالين كذاب)، وأنني لا أستطيع (حمل بطيختين بيد واحدة)، وكما قال لي ذلك الخبير الألماني أن (1 + 1= صفر). فقلت لـه: كيف تقنعني بهذه العملية الحسابية المعكوسة ؟ فحدثني قصة، قال فيها: كنت أسبح في بركة النادي، وتصادف وجود امرأة جميلة، تسبح معي في نفس الفترة، وبعد حوار ومجاراة ومداعبة ليست طويلة، تطورت علاقتي معها إلى عشق ومحبة، مستقرة مستمرة. وذات يوم عرّفتني على ابنة أختها، التي جاءت معها لتسبح في البركة، فسبحنا، وتحدثنا، وتناقشنا، وذهبنا وعدنا، وضحكنا معاً.. وفي غفلة وغياب قصير من حبيبتي، تدلّعَت عليّ ابنة أختها، وغمزتني، ولمزتني، وتدلّهت عليّ بأنوثتها المغناجة، فاشتهيتها، واحتضنتها وانصهرت معها معجونين في قبلة شفاه حارة، وفي تلك اللحظة الدراماتيكية، وصلت حبيبتي، ففوجئَت باشتداد الأعاصير الغرامية خلفها، واستشرّت واحمرّت واصفرّت واسودّت، ثم لطمت ابنة أختها على رأسها ووجهها وكتفيها، وكادت أن تُخلِّع شعرها، والفتاة تصرخ مستسلمة بين يدي خالتها. لم تكلمني المرأة، ولم تلتفت إليّ، بل سحبت ابنة أختها وخرجت، ولم تعد منذ ذلك الحين الذي مضت عليه سنتان... ضحكت على قصة ذلك الألماني، فقال لي وهو يشاهدني أضحك: هل فهمت الآن، أو اقتنعت، بأن (واحد زائد واحد يساوي صفر) ؟ لم أجبه، ولكنني اقتنعت بوجهة نظره.

ليس هذا هو بيت القصيد، بل إنني أدرك خطأ سلوكي في ربط سماعتيّ المذياع النقال، لتُطبقان على أذنيّ، وأنا أسمع نشرة الأخبار التي تقول: (غرست القوات الغازية المتعددة الجنسيات جنودها الآليين في العراق، فانهار النظام تماماً..) تستمر نشرة الأخبار وأنا أشاهد حشرات المن تنتفخ خدودها بعصارة ورقة النبات التي تقف عليها، وانتفاخها يشبه عباءة البدوي الكبيرة الضخمة، التي تعطي لصاحبها أبّهة، وهيكلاً ضخماً أمام الأعداء، وتجعله كبيراً في عيون الآخرين. وحشرة المن تنتفخ مثل قربة الحليب أو اللبن الجلدية، التي يستخرج منها الزبد، واللبن الخضيض. ونشرة الأخبار مستمرة، تطن في أذني قائلة: (غرست قوات دولية غربية جنودها في إقليم دارفور السوداني....).

نحن ثلة من العاملين في مجال المكافحة الحيوية للحشرات المتطفلة على النباتات، وموجز عملنا هو تربية وإكثار واستخدام حشرات غازية، لتأكل حشرات مستوطنة، بدل أن نستخدم حرباً كيماوية، أو إشعاعية، مثل اليورانيوم المنضب، الذي يغرسونه في أرواح أفراد العرب هنا وهناك، فيشوِّه خلقنا، ويدمِّر بيوتنا، ويسوِّد عيشنا.. تلك الكيماويات، إذا ما وُجِّهت تجاه النباتات، فإنها تحرق الأخضر واليابس، وتلوث البيئة بسمومها، فلا تعود الخضار أو الثمار صحية للاستهلاك البشري. قالوا لنا: من الأفضل أن نأتي بحشرات غازية، تأكل الحشرات المستوطنة، أو تهلكها بطريقة أو بأخرى، فنتخلص منها دون مبيدات..

تنتشر حشرات المن على ربوع ورقة النبات بأعداد هائلة، وببُنيَةٍ صحيّة، نشاهدها على شاشة التلفاز الجداري، وهي تمتص سوائل غامقة كثيفة، تشبه النفط المستخرج من قيعان صحارينا العربية، وخراطيم المن مكبرة، لدرجة تشاهدها مثل أنابيب النفط الممتدة هنا وهناك.... بيئة زاهية ملونة، ندية عامرة بالخيرات، والينابيع والجداول، والأزهار والثمار، والرشاقة واللهو والجنس، وكل ما يخطر على بال سكان المعمورة من متع ورفاهية. ومذيع نشرة الأخبار يقول:

  (جاءنا الآن خبرعاجل من غزة: غرست طائرات إف إف إف، قنابل عنقودية وانشطارية ونابالمية في حارات وشوارع وطرقات ومزارع رفح...)

الجديد في الفيلم، أن لجنة العلماء المنزوين داخل مختبر بعيد في أعالي البحار، يراقبون حشرة (أسد المن)، التي تقترب من حشرة (المن)، محاولة الاعتداء عليها، ونهشها، فتفرز حشرة المن من فمها سائلاً أسود، يشبه النفط، كريه الرائحة، فتشمئز حشرة أسد المن، وتبتعد عن تلك الرائحة الكريهة، وتقف بعيداً، وهي تفكر بكيفية استعمار حشرة المن... فتعود أنثى (أسد المن)، مادّةً ذيلها، المحشو ببويضات كثيرة، فتثقب بإبرة ذيلها، بطن (المن)، وتغرس بيضة، في داخل عباءة بالون المنّة، بهدف تأمين مستقبل البيضة، التي تفقس بعد حين، وتسبح داخل ذلك السائل العجيب، على شكل دودة، وتتغذى على الخيرات الجاهزة، وتمتصها خلال فترة، فتجف عروق المنّة، مثل جفاف الصحاري العربية، المسحوب منها دسم النفط، وتبقى خيمة بالون المنة، ضخمة كبيرة مهيبة المنظر، ولكن عروقها الداخلية جافة، وخاوية على عروشها...نسيت أن أقول إن نشرة الأخبار تذيع الآن نبأً عاجلاً مفاده أن (قوات متعددة الجنسيات، قد غُرست في ربوع لبنان)

ينتبه العلماء القابعون في مختبرات أعالي البحار إلى أن أفضل وسيلة للقضاء على حشرة المن، دون استخدام الكيماوي ورش المبيدات، هو ادخال مزيد من جنود أسد المن المدججين بالبَيض، وغرسه داخل عباءات المن، لتكوين بيئات صالحة لتفريخ ملايين الأُسود الغريبة، والتي لا تترك وراءها، سوى بالونات وعباءات وخيام وبيوت فارغة من محتواها، تذكرني ببيت ميسون الكلبية:(وبيت تعصف الأرياح فيه، أحب إليّ من قصر منيف).

ولهذا السبب يبتهج زملائي بنجاح فكرة القضاء على المن، ويستعدون للانضباط، والامتثال للأوامر القادمة من بعيد في (المكافحة المتكاملة)، وبعكسهم أنا مرعوب من الفكرة التي تغرس وتغرس وتغرس..! وفي النشرة الإخبارية التي ما زلت أسمعها أن (قوات متعددة الأهداف، تعد بالملايين، تُغرَسُ في رمال الصحاري العربية) وينتهى الفيلم المدهش، بالسيطرة المؤقتة لأسد المن.

ولكننا نكتشف ما هو ليس بالحسبان، إذ أن المن يتكاثر بغزارة على خلف أوراق النباتات، ويعمر الفيافي والقفار، فيقاوم انتشار أسد المن الدخيل على المنطقة.

يتقدم مني الأستاذ المحاضر فيخلع عن أذنيّ سماعة المذياع، وهو يقول لي:

  هل فهمت شيئاً مما يغرسه أسد المن في حشرة المن ؟ فأقول لـه مُحرَجاً:
  الحقيقة أنني لا أفهم شيئاً، فأنا مشدود بخبر غرس جنود أجنبية كثيفة في الصومال...!

أخرج من الحلقة الدراسية مرعوباً، وأنا أتحسس رأسي وجسدي بكلتا يديّ، وأطبِّل عليهما، كي أتأكد من كوني لست مفرغاً من ذاتي..!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى