الاثنين ٢١ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨
أوراق سعد زغلول الكواكبي

من ذكريات معارك الجلاء

بقلم:علاء السيد

خلال بحثي عن المعلومات المتعلقة بتاريخ سوريا عامة، وتاريخ حلب خاصة، قصدت الأستاذ الكبير سعد زغلول الكواكبي، حفيد المفكر العربي الرائد عبد الرحمن الكواكبي، والأستاذ سعد زغلول من مواليد عام 1924، وكان قاضياً منذ عام 1952 ثم تقاعد ويعمل الآن محامياً، وكان أمينا عاما لاتحاد الجمعيات الأثرية العربية ورئيساً سابقاً لمدة ثلاثة عشر عاما لجمعية العاديات، وله أبحاث وندوات وكتب في الأدب والتراث والقانون والتاريخ والآثار داخل القطر وخارجه، وأسعدني الحظ بأن أكرمني الأستاذ سعد وأطلعني على أوراقه ومذكراته ومخطوطات كتبه ومجموعة صوره القديمة التي لم تنشر، واخترت منها للقراء الكرام بمناسبة أعياد الجلاء في نيسان، هذا القسم من مذكراته:

اندلعت الحرب العالمية الثانية في 3 أيلول 1939، واستولى الجيش الفرنسي المتواجد على الأرض السورية على المؤن، وكثير من الوسائل المعيشية في البلاد لدعم جيوش فرنسا في الشرق، وحُكمت البلاد بقبضة حديدية، إذ مُنعت الصحف والمنشورات والاجتماعات والجمعيات والأحزاب، مما سبب ازدياد النقمة والتهيؤ للقيام بانتفاضة شعبية.

وفي بداية عام 1941 اندلعت المظاهرات، وكانت حلب على موعد مع هذه الانتفاضة، وخرجت المظاهرات ضد فرنسة مبتدئة من حي المشارقة بحلب، شارك فيها طلاب مدرستنا (مدرسة التجهيز) التي سميت فيما بعد مدرسة المأمون، وخرجوا بمظاهرة كبيرة شاركت فيها إذ كنت في الصف العاشر وكنت ابلغ من العمر حينها سبعة عشر عاما، واصطدمنا مع الشرطة والدرك الفرنسي.

خرجت المظاهرة من مدرسة التجهيز في صباح يوم الأحد التاسع من آذار 1941 وكنا نبلغ حوالي المائتي طالب، وكان يوماّ مشمساً، وما كدنا نخرج من باب المدرسة لنلحق بالمظاهرات في شوارع المدينة، حتى طوقتنا قوة الدرك الفرنسي عند مخفر الكتّاب، بقيادة الكوماندان الفرنسي كوردييه مع رجاله، واحتدمت المعركة بيننا وبينها، معركة باسلة، واجهت فيها الحجارة.. المصفحات والرصاص والهراوات.

فتراجع الطلاب تحت الضغط باتجاه المدرسة، وذهب قسم آخر إلى المقبرة المجاورة التي سميت فيما بعد مقبرة هنانو، واحتموا من الرصاص بين القبور، وفجأة سقط زميلي " مصطفى النعساني " برصاصة استقرت في رأسه، ففقد الوعي، فحمله رفاقي محمد السيد وعمر رشدي رفاعي إلى قاعة الإسعاف في المدرسة، ولكنه اشرف على الوضع الخطير جداً.

وأقنع المسيو غولمييه وكان مستشار فرنسي للمعارف وصار فيما بعد مستشرقا معروفا، المقدم " كوردييه " بالسماح بنقل زميلنا مصطفى نعساني الذي ساءت حالته كثيرا، إلى مستشفى الرازي فنُقل، وهناك أجرى له عمه المرحوم الطبيب أحمد النعساني عملية جراحية خطيرة استأصل بها الرصاصة الملاصقة لدماغه بنجاح، وبقي فاقدا للنطق فترة طويلة بعدها.

وتدخل أستاذ الأدب الفرنسي في المدرسة " المسيو غولمييه"، وجمع بعض الطلاب وأوضح لهم أن الفرنسيين سيدخلون المدرسة بالمصفحات، ونصحهم بالتوقف عن رمي الأحجار فلم يستجب له الطلاب.

وتضاعفت قوة العسكر فلم نتمكن من مجابهة الرصاص والهراوات، فتراجعنا إلى داخل المدرسة، وأغلقنا الباب الخارجي، ورحنا نقذف القوة العسكرية بالحجارة من خلف سياج المدرسة الحديدي.

ولما أدركنا أن الرصاص قد يصيبنا، إذ رأينا بأم العين الضباط الفرنسيين يمدون أيديهم من خلال أعمدة السياج الحديدي، ويطلقون الرصاص علينا صعدنا إلى الأسطحة، وكنت مع الصاعدين إلى السطح المطل على بيت " الجنرال" الحاكم العسكري المجاور لمدرستنا، ومن هناك كنا نلقي الحجارة التي كان يحملها على رأسه أستاذنا المرحوم عبد الجبار أبو الشامات وأستاذنا المرحوم وهبي الحريري.

حتى إذا تمكنت من إسقاط حجر كبير مرّ بجانب كتف " الكوماندان كورديي" قائد الدرك الفرنسي المحتمي في ظل أسفل الجدار، ولم تمس رأسه بسبب تحركه، رفع رأسه إلى الأعلى ليرى مصدر الحجر فشاهدني، وقد صاح أحد رجال الشرطة السوريين والذي أعرفه سابقاً من مخفر باب الفرج يقول: " هاهو صاحب الصدرية الحمراء " فأدركت خطورة ما فعلت،إذ لم يبق بين الحجر وبين رأس المقدم الفرنسي إلا بضع سنتمترات، فكادت تودي بحياته.

فرجعت عن حافة السطح متوارياً، ونصحني زميلي بخلع الصدرية الحمراء فخلعتها، وتركتها على السطح، وهرعت نازلا من السطح إلى باحة المدرسة لأشارك في رمي الحجارة من خلف السياج.

وأذكر ان صديقي محمد السيد كان أحد رماة المقلاع من على سطح المدرسة باتجاه الدرك، وجُرح الكثير من رجال الدرك من ضرب المقاليع، وقام موجه الطلبة المرحوم عمر بكور السيد (صار قاض لاحقا) بإخفائه في مستوصف المدرسة إلى جانب المرضى بعدما طالب به الفرنسيون.

واجتاحت مصفحة فرنسية الباب الخارجي للمدرسة، ومعها الضابطين الفرنسيين " موريتي " والضابط " حصيرة" كما كان يسميه أهل حلب ولا أعرف اسمه الفرنسي، وخلفها الدرك الفرنسي، وأخذوا بضرب الطلاب بأعقاب البنادق، وتصدى لهم أستاذ الأدب العربي المرحوم الشيخ الجليل طاهر الكيالي، فضربوه وسقطت عمامته على الأرض، بعدما صرخ بوجه الفرنسيين بالفرنسية...(أيها القتلة)، وكان معه الدكتور شكيب الجابري أستاذ الكيمياء، وداخل الباب كان إلى جانب الطلبة الأستاذ غفريل كحالة أستاذ اللغة الفرنسية والأستاذ ثابت عريس أستاذ الأدب الفرنسي (السفير والوزير اللاحق)، ومعهم أستاذ مادتي الفرنسي والإنكليزي اسعد محفل.

وتراجع الطلبة خشية التعرض للضرب بالهراوات والرصاص وإلقاء القبض عليهم، فدخلنا إلى القسم الداخلي من بناء المدرسة، وأغلقنا الباب الحديدي الكبير الداخلي ولجأنا إلى غرف الدراسة.

وبقي زميل صفي المرحوم " وجيه لبنية " خارج الباب يرفض الدخول مثابراً على قتال الجنود رغم كونه معاقا في سيره، ورغم نصيحة أستاذنا المرحوم " داود صليبا " له بالدخول قبل إقفال الباب، فأوسعوه ضربا وسقط أرضاً، وطار طربوشه بعيداً.
واستمرت المعركة، وسقط أستاذنا المرحوم شكيب الجابري محطم الجبهة، فنقل إلى مستشفى الطبيب المرحوم الدكتور خالص الجابري، الذي استأصل الشظايا العظمية المستقرة تحت عظام جبهته بالقرب من دماغه بنجاح.

وأقنع مستشار المعارف غولمييه مدير المدرسة هاشم الفصيح بفتح الباب الداخلي أمام الفرنسيين الذين تعهدوا بأنهم لن يؤذوا الطلبة، وخُدع المدير، ففتح الباب بما أسميناه خيانة وطنية، ودخل الجنود مع المقدم والضابطين الفرنسيين، فتصدى لهم أستاذنا المرحوم وهبي الحريري وراح يؤنبهم ويذكرهم بالتبجح بثورتهم الفرنسية، فما هم إلا كاذبين، فجره المقدم من رقبته وأصعده إلى السيارة العسكرية ناقلة الجنود التي استقرت وظهرها قبالة الباب الداخلي لحشرها بالمعتقلين من الطلاب، الذين كانوا ينتقونهم من داخل صفوف الدراسة التي التجأوا إليها عشوائياً.

وهنا تدخل المستشار الفرنسي غولمييه، وأفهم المقدم أن هذا الرجل أستاذ في المدرسة ولا يجوز اعتقاله، فأنزلوه قبل انطلاق السيارة.

وكان في جملة المعتقلين أخي المرحوم عبد الرحمن الكواكبي (الذي صار وزيراً للأوقاف لاحقا في وزارتين والمسمى على اسم جدي عبد الرحمن الكواكبي)، لكنهم أنزلوه أيضا مع الأستاذ الحريري إذ وجده الضابط صغير السن.

وراح الشرطة يفتشون عن صاحب الصدرية الحمراء التي وجدوها ملقاة على السطح أثناء تفتيشهم، في وقت كنت فيه قد تمكنت من تمويه مظهري إذ سرحت شعري وبللته بالماء ومسحت حذائي بالماء أيضاً، واستعرت سترة من أحد رفاقي فكانت تلفني كالعباءة!

والتجأت إلى صف التلامذة الكبار بالسن، اعتقاداً مني بأن الجنود يخشون من اقتحام غرفتهم، وجلست القرفصاء في زاوية شباك الغرفة.

فلما دخل الضابط " موريتي " مع شرطي سوري أعرفه من أسرة تسكن بحي السويقة، غرفة صف التلاميذ الكبار، صاح به الشرطي: يا سيدي النقيب، هنا الزعماء.

فانهال عليهم الضابط " موريتي" قرعاً بالهراوة واللكمات على وجوههم،حتى أنني لم أتمالك نفسي من الصياح، حينما شاهدت لكمة على وجه زميل لنا شركسي فوق عينيه حطمت نظارته.

ثم أمر الجميع بالخروج لاقتيادهم إلى السيارة، فنزلت من الشباك فطردني النقيب قائلا: أنت صغير، اقعد مكانك.

ولم يدرك والحمد لله أنني صاحب الصدرية الحمراء.

وتابع الجنود ضربهم وركلهم للطلاب غير مكترثين بجراح بعضهم، وأذكر منهم مصطفى رام حمداني (محافظ حمص لاحقا) وأمين الحافظ (رئيس الدولة لاحقا)، والمرحوم الأديب حسيب الكيالي، والمرحوم عبد اللطيف سليلو (مقدم طيار لاحقا)، والمرحوم غالب بلانه (القاضي لاحقا)، والمرحوم عبد السلام عويدان (سكرتير أمين عام الجامعة العربية لاحقا)، والمحامي مظهر العنبري (وزير العدل لاحقا)، وأخي إياد الكواكبي (مدير الجمارك لاحقا)، وسليمان محمود (العقيد في الجيش لاحقا)، والمرحوم ثابت المدلجي (أحد المحامين الكبار في حلب لاحقا)، وعبد الرحمن حميدة (عميد كلية الآداب لاحقا) والمرحوم صدقي اسماعيل (الأديب الكاتب والشاعر وصاحب جريدة الكلب لاحقا)، والمرحوم ضياء الدين إبراهيم باشا (الذي أصبح قاضياً ومحامياً لاحقا)، ومحمود رستم (المهندس الكيميائي الأستاذ في الجامعة لاحقا)، وشقيقه المرحوم محمد رستم، وعبد الله جسومة (الضابط ومحافظ اللاذقية لاحقا)، وهؤلاء بعض من رفاق صفي ورفاقي الذين اشتركوا في المعركة.

وبنتيجة التفتيش اعتقل حوالي ثلاثين طالبا، ونقلوا إلى خان استانبول وهو السجن العسكري حينها في السويقة وأُخلي سبيلهم بعد أيام.

حتى حل المساء، فأعلنوا في مآذن المساجد أن من له ولد في المدرسة فليأت ليكفله بألا يعود لمثلها، ويخرجه من المدرسة وإلاّ سيظل سجينا فيها.

ولم يقبل والدي رحمه الله بكفالتي أنا وأخي، أن لا نعود إلى الشغب معتبرا أن ما فعلناه واجب وطني، رغم رجاء خالي المرحوم الدكتور عمر الجابري، فاضطر هذا إلى المجيء إلى المدرسة عند حلول الظلام، والتوقيع على كفالتنا وإخراجنا.

وأغلق المندوب الفرنسي المدرسة، وأمرت إدارة المدرسة بطرد مجموعة من الطلاب لمدة خمسة عشر يوما، فكنت من جملتهم , وأرسل مدير المدرسة كتابا للمرحوم والدي يعلمه بذلك وينصحه بتهذيب سلوكي.

ورد عليه والدي محتجاً وأعلن موافقته على مشاركتي في المظاهرات الوطنية،إلا أن إدارة المدرسة لم تجرؤ على طردي مرة أخرى، لا أنا ولا أي من زملائي.

وبعد اثنين وستين عاما من ذكرى تلك المعركة صادف التاريخ يوم الأحد التاسع من آذار، فرحت أدعو من بقي حياً من رفاق مدرستي للاحتفال بهذه الذكرى،بزيارة لمدرسة التجهيز، ثانوية المأمون حالياً، واتصلت مع مصطفى النعساني (رئيس دائرة متقاعد ببلدية حلب)،و عبد الهادي ناشد (مدير مدرسة متقاعد)،و محمد السيد (أمين عام غرفة التجارة العربية اليونانية ومندوب الجامعة العربية في أثينا)،و أخي إياد الكواكبي (مدير متقاعد للجمارك)، وقدري الجزماتي (المحامي والتاجر)، وعمر الكركوكي (القاضي المتقاعد)، والدكتور مصطفى الحريري (الطبيب المعروف)،و المهندس محمود رستم، ويحيى رائف (المدير المعاون المتقاعد بالشؤون الإجتماعية)،و الأستاذ صلاح الدين الخطيب (قائد الكشافة ومدير المكتبة الوطنية) واخي المرحوم عبد الرحمن الكواكبي (الوزير لاحقا)، وذهبنا جميعاّ ومنا القاضي والمحامي والطبيب والتاجر والمهندس والوزير، وكلهم متقاعدون، ورحنا نتجول في زوايا المدرسة ونتذكر المعركة ونَصِفها للأساتذة والطلاب الذين كانوا ينصتون إلينا بشغف كبير، وهم ينظرون إلى الشهيد الحي " مصطفى النعساني " فيريهم مكان الرصاصة في جمجمته.

فلما دخلنا صف الشهادة الثانوية تقدمت لألقي كلمة على الطلاب فشرقت بالدمع، ولم أتمكن من المتابعة، فأسعفني زميلي الأستاذ محمد السيد.

وأكدنا للطلاب أن هذه المعركة كانت الخميرة الصالحة لجلاء الفرنسيين يوم الجلاء الأكبر 17 نيسان 1945، حيث جرى أول احتفال بذكراه في العام التالي 1946 وخرج الضباط السوريون في الاستعراض الكبير فوق المصفحات الفرنسية التي استولوا عليها عنوة من الجيش الفرنسي قبيل الجلاء.

فكان هذا العيد هو العيد الوطني الثاني بعد عيد 8 آذار 1920 يوم التخلص من الاستعمار العثماني واستقلال سورية العربية.

بقلم:علاء السيد

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى