الأربعاء ٢٣ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨
بقلم هدلا القصار

الجريفاني يتنفس الحب من تحت عباءاته

في مكتبة مطار بيروت الدولي استوقفني كتاب بعنوان " قلب من خوص" للشاعر والكاتب السعودي "إبراهيم عبد الله الرحمن الجريفاني" سالت نفسي مبتسمة (مالي أنا والأدباء السعوديين في رحلتي ذهاباً وإيابا!!) وبعد دهشتي من هذه المصادفة الجميلة اشتريت الكاتب وأضفته إلى المجموعة التي اخترتها من أربعة دول خلال حالتي التي قمت بها.

"إبراهيم عبد الله الجريفاني" السعودي هو من جالست حروف أقلامه وأحلامه طوال فترة انتظاري في صالة المطار حتى وصولي إلى القاهرة وأنا أسجل في ذهني محاوراته الذاتية منذ سؤاله الأول من نصه " هل يعود الأمس غداً" حتى ابتهالاته في النص الأخير " لم يا نفس.. مني تتنكرين؟ " وهو يتنهد ابتهالات الدينية الروحانية، حتى البلاغة في أسئلته وسخريته من الحروب القائمة على الساحات، وعن سيل الدم في العراقي، وسلة المشاورات بين سوريا ولبنان، وبين أصابع القادة العربية التي لا تخلو من المهازل، ومكائد الإدارة الأمريكية، وعن التناقضات السيكولوجية والعقائدية، واسهم العملات، وتناقض الواقع المهني، والعالم الذي شبهه الجريفاني بالمباراة الهلالية، "كما ركز على عقوبة جمهورية الكلمات الخارجة عن النص" ربما هنا يقصد الشاعر عن بوح المعاني في مركبات الصحراء، أو العقائد والتقاليد الموروثة في بعض المجتمعات، هذه هي كانت ترجمة عناوينه ونصوصه المتنوعة الذي طرحها على أوراقه بلغة بسيطة وغير ملونة أو معقدة.

في كل مرة يبدأ الجريفاني بعد كل نقطة من آخر النص، حتى وانه لم يترك باباً مفتوحا للتناقضات إلا ودخله، ولم يترك باباً للوصول إلى تصوفه الذاتي إلا ودخله، حتى شكوكه في عروبته في قصيدة " عربي أنا بلا هوية ؟ " يضع فيها وساوس أفكاره بماء أسئلته:

ويسال: بماذا افخر ؟، بالهوية أم بالقضية المنسية؟، فكل يوم تداس الكرامة العربية، أشاركك العزاء في فقيدتنا الهوية، تعالي معي لننعي الهوية، حين تحبل النساء تسارع للولادة في الأراضي الأمريكية؟!، والنار المشتعلة بالعراق ولبنان وغزة وحيفا، كما سخر من طوابير مواطني الهوية أمام السفارات الأجنبية.

نعم هذه هي أبجديات الشاعر إبراهيم بصدق رؤاه وشفافية أفكاره وجميع فلسفة مكوناته التي التقطها من النفوس حتى أصبح، كسنابل القمح يغذي نفسه على شعيرات الحياة الزاحفة نحوه، كقصيدة " حالة مزاجية غريبة":

بعد أن تعلمت الترقب دون استحياء، وأتقنت لغة الصمت، وأتقنت لغة الصم، وتعلمت لغة العيون، ودروس القراءة بطريقة "برايل". ليخرج بعد هذه الاستنتاجات أن كل الوجوه مقنعة، منقبة، متوحشة، متلونة، فاقدة للمصداقية، حتى أفقدته التميز لجمالية الألوان.

وهل يعتقد القارئ أن الشاعر عبد الله هرب من خشونة السياسة او انه نسى العراق حين عصفت به الايام وقال، "إياك دجلة والفرات":

يا عراق أسفاً عليك.. فقد مثلوا بجسدك

ولم يمنحوا الميت أكراماً الدفن بل جعلوه شاهد لخزيهم

وهنا ضاعت الأرض والقضية.

هذا هو الشاعر إبراهيم الجريفاني، يأخذك من السياسة إلى الحب، البحث عن الذات، إلى الارواح والتساؤلات، وحتى القوانين والمحاكم الدولية، وقضايا التسليح، والتكنولوجيا، ، وعن الصديق والعود وعن الأيادي الخفية، وعن الأسهم والعملات والبورصات والقوانين الخفية، وللعلم ان البورصة من احدى هوايات الشاعر المحببة، ولذلك يسال الدول الإسلامية في نصه "ادفع دولارا.. تقتل عربياً":

السؤال الذي ما زال يقلقني من هو العدو الحقيقي للدول الإسلامية ؟؟؟

والجواب لم يكن خافياً

ادفع دولاراً تقتل عربياً وتحرق أرضاً عربية

عجبي من زمن ندفع لنتقل عربيا!!!.

ومن سخرية القدر ومرارة الحزن أخذته الرغبة لدخول دنيا الأموات ولفحات الكفن، ورائحة السدر، وجنازة الموت، وهتافات التسبيح، والاستغفار، في القبر الذي اختار ان يموت فيه ولو ليوم واحد ليخاطب الأرواح ويكتشف ان الحياة فوق الأرض هي أكثر فجيعة وأكثر إيلاما من الحياة على وجه الأرض.

ولن أنكر أن إبراهيم دفع بي لمشاركته البحث بين أوراقه عن الحبيبة التي يريد أن تمتلكه تضمه بين ذراعيها، تلهو معه فوق أمواج ليله، تدغدغ أحلامه الساكنة داخل مراهقته التي لا يرضى لها النضوج أو زحفها نحو النسيان. فهو لا يمل البحث عنها في شارع "فردان" والمقاهي ومن النوافذ والمطاعم ومن فوق أمواج الشطآن حتى اغرق تفكيري في بحر أنثاه وملكوته المغطاة فوق لغته كأزهار الربيع وفاكهة الصيف بضوئه المغسول بالحزن وبياض ملاحقة أسئلته الضائعة في مملكته. إلى أن يهرب من واقع النهارات المغمس بالتناقضات ليعيش داخل فتنة الليل ببوحه بلا خوف ووجل من منتصف العمر المتأرجح بين السالب والموجب وداخل مركباته الصحراوية المكابرة من تحت عباءاته الشرقية المتحفظة وبانزلاق تنهدات الجسد الذي أعاده طفلا او مراهقا كما اعترف في قصيدة " مراهق خمسيني" حين وصف نفسه بصدق وبما عاشته مخيلته بعينان ساخنتان حين رأى فتاة تفوق الجمال ووصفها بأجمل من الموناليزا "دافنتشي" كان صادقا نعم كان صادقا حين خرج إلى وعيه بعد خروجها من المقهى وبعد صحوته على صوت همساته المسكونة بزغردة الجسد حتى سال نفسه:

ترى هل عشته مراهقة قرب الخمسين

أم ان الله جميل يحب الجمال

سؤال ما زال محيرتي ؟.

ولم ييأس الجريفاني من البحث عن أنثاه المحببة له قلبا وقالبا حتى يتلمس عشقه من صدق صدرها. لذا نراه يتكلم عن الحنين والاشتياق والشهوات والارتجالات والتنازلات والهفوات ومحطات العمر، وهروب الزهرات من ملامح الأنثى، في عشقه وحنينه اللذان يسريان في شريانه النابض بالحب داخل حلقات عيناه ليطوف الليل فوق أحلامه.

شاعرا حالما مستنجد باللهفة وبهلوسات الحب السريالي، يخاطب نفسه، حبيبته، معشوقة أحلامه، ينزف أقلامه المدربة على بساطة مفرداته حين يخرج الصمت المؤجل من الأحلام والمقابر وقفز المعاني وأباريق اللهفة بينما ينتظر زراع امرأة تحتويه، تحيطه في ملهماته، تسكنه، تحلم بدلا عنه، تمتلكه، تنطق كلماته، يسلمها ألوان لوحاته، واستعراضاته إيماءاته، وروائح كلماته المعطرة بأزرار رحيق حفيف العبارات ورهيفها، الذي يجمعها بعنوان واحد " في قصيدة إلى من تسكنني.. شوقاً ".

ثم ينتقل بالبحث عن من تحبه في ملكوته ووجدانياته في نفوس البشر محاولاً التقاط ملامح حبيبته في كل امرأة، وفي جميع الوجوه وكأنه يبحث عن من تأنث ملابسه ومركبات أحلامه، ليترك لها عصمته الروحية وقيود أساور معصميه وانزلاق تنهدات مراهقته المكابدة، يحلق بأجنحة غزلياته المنهارة كالجبال في أنثى أمواج بحره المنهمك بتأملاته وتربص نظراته وترقبانه بمن تجالسه نفسه يحاورها "يحاور نفسه" في قصيدة " البحر ووجهك وأنا " من خلف الزجاج الذي يفصله عن البحر يحاسب نفسه، ويسألها، إذا كان راضيا عن نفسه، وما وفعله، وعن أخطائه، وما حققه، وما لا يحققه، وووووو وهناك الكثير الكثير من المسائلات النقدية والفلسفية الحياتية عامة وهو يصفها بصدقه اللا محدود وبأسلوبه العميق والمتمعن بحالته ومعرفته بما يريد وعلى من يبحث.

استنتاج:

في محصلة استنتاجي الذي لفت انتباهي من خلال قراءتي نصوص هذان الأديبان السعوديان المبدعان بين القاص عبد الرحمن الدرعان، من داخل الصحراء "الوطن".والشاعر إبراهيم عبد الله الجريفاني، من خارج الصحراء "الوطن".

أن تقارب أفكارهم ومعاناتهم المطروحة النابعة من موروثاتهم الآتية بالفطرة هي التي جمعتهم نحو إعادة صيانة وانفتاحها على العالم الحديث كما اجتمعوا على التمرد على القيود الإنسانية الموروثة بالعادات المجتمعية والحقوق المعنوية الإنسانية واختلافات العقائد، ودواخل أصوات طفولتهم، التي يرثوا نضوجها قبل ن البلوغ. هذا طبعا باختلاف الأسلوب وطرق المعالجة.

أما التناقض فالقاص "عبد الرحمن" بمعالجة تأثير الموت عند الدرعان قد لعب دورا كبيرا في حياته الإنسانية كما ذكرت في مقالتي الأولي عن معاناته من صفرة الصحراء وهضبات رمالها ومن كحلة سوارها وسذاجة تقاليدها ومؤامرات الموت وخدام الأرواح التي سلطت عتمتها عليه وآلمته وتربعت على نصوصه وأبطال قصصه وملاعب حروفه.

أما معالجة الشاعر للجريفاني، فعالج الموت بأن وضع نفسه مخيلة في القبر ليوم واحد من خلال قصيدته " يوم أعلنوا وفاتي" وهو يتكلم مع سكان القبور، وزيارة الأحياء، وكل من تبع طقوس الدفن، والتكبير، والقراءات الدينية، والندب، ومحاكاة الأرواح بكل جراءة ومودة، فربما لأنه لم يشاهد إشارات الموت تحوم حول محبيه وإنما هو كان يحاول أن يعلم ما يجري تحت التراب فعاشها هذا الشاعر وعايشنا معه ليوم واحد بكل تفاصيله، حتى عاد من تحت التراب ليعلن لنا بان حياة الأموات أكثر صدقا واقل ألاما.من الأحياء.

ففي كلا الحالتين والمعالجتين فلا يمكننا أن ننكر مركبات الإبداع الفنية والفلسفية في الطرح والمعالجة لهموم الصحراء التي اندحروا منها من خلال حروفهم وقوة تصورهم الفلسفي للواقع ومن خلال علاقتهم بالقلم والورق وأفكاركم الصوفية الموروثة بالمتناقضة مع الواقع الحديث، مهما اختلفت الأمكنة وتناثر الوصال السيكولوجي والعامل المتحرك وأساس أعمدة الصحراء، فتبقى الحروف الصادقة هي الموصلة والمعبرة لما يحمله الكتاب بشكل عام أن اخلص للقلم حين تأخذه آلام الرؤية التي يجب أن نتوقف أمامها ونتأملها ولو من بعيد.

فأشكركم أيها المبدعان لما قدمتموه لي من خلال حروف إبداعكم الذي وسع أفاق معرفتي برؤى القلم الصحراوي من خلال تألق تلك السطور واروي عطش صدق الكلمات وتنهداته الرمادية حتى احلق بأجنحة كلاماتكم الحائرة بين الواقع الموروث والواقع الحديث.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى