الأربعاء ٢٣ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨
بقلم نوزاد جعدان جعدان

سباق الحياة

كان يمشي تحت المطر غير آبه بالبلل فهناك أشياء تتحرك في جوانحه تجعله غير مكترث بأي شيء، وحذاءه المثقوب امتلأ بالماء بيد أنه لا يشعر بقدميه فهناك أمر يدفعه للمضي إلى الأمام
وموضوع احتل مخيلته، نعم إنه يفكر بأمرين أولهما بأنه أمسى كفراشة تطوف من زهرة إلى أخرى بحثا عن رحيق الحب إلا أن الزهرات جميعهن وخزته، فكانت تبدو له زهرة ولكن عندما يقترب منها تتحول إلى شوكة، أما الأمر الآخر والأهم فكيف سيتدبر قسطه الجامعي؟.. فقد أتم المرحلة الثانوية وسيسجل في الجامعة ولكن هيهات وضعه المادي لا يسمح له بذلك..

فكر ماجد والمطر نازل على جبينه يغسل كل مرة وجهه من هموم الحياة والدنيا بالحلول الممكنة فوصل إلى حل واحد بأن المسألة مستحيلة الحل، وبدأ يفكر بحظه العاثر في اليانصيب في كل أسبوع يسحب بطاقة راسما في ذاك الأسبوع أحلاما جميلة إلا أن بطاقته تخذله كل مرة وفي أحسن الأحوال تربح سعرها، فلربما كانت مداومته على اليانصيب محاولة ليرسم بها أملا للحياة ويحقق بها أحلامه الصعبة المراس، تابع ماجد سيره في شوارع المدينة الواسعة إلى أن استوقفه إعلان عن مسابقة ( تعلن المحافظة عن مسابقة لأفضل عداء في الخامس من الشهر الجاري والجائزة عبارة عن مئة ألف ليرة فمن يود الاشتراك المجيء في صبيحة الخامس من الشهر باللباس الرياضي الكامل)..

بعيد قراءته الإعلان دمدم ماجد مع نفسه: اليوم هو الثاني من الشهر لدي ثلاثة أيام لشراء اللباس الرياضي فمن أين أتدبر سعره ؟ ..و بينما كان ماجد يفكر بدا له شاب يترنح في مشيته ويغني أغنية كلماتها:

أنا عمران السكير
أشرب الكحول لأنسى همومي وأمسي كالبعير
فأصبح بلا تفكير
الكحول صديقي يجعلني حقيقيا بلا تمثيل..

فوقف الشاب عند ماجد مستفسرا عن الإعلان فشرح له ماجد القصة وإذ به يقهقه بصوت عالي مستهزئا فأحبّ ماجد أن يتعرف عليه وسأله عن اسمه، فأجابه الرجل الغريب باستهزاء: أنا عمران السكران هكذا ينادونني في الحارة ثم باغته عمران بسؤال: أتريد الاشتراك بالمسابقة فهزّ ماجد رأسه موافقا .وأكمل عمران بأنه يريد الاشتراك أيضا وعند مغادرتهما اصطدما برجل ذو قامة طويلة تماما كأنفه الطويل وذو لباس غال الثمن ومجموعة من المفاتيح تغني على خاصرته.

اعتذر منه ماجد بينما عمران غارق في الضحك فسألهم الرجل الطويل عن الإعلان فشرحوا له الأمر وسألوه عن اسمه فعرف هذا الشخص عن نفسه بطريقة غريبة قائلا:
أنا اسكندر.بمشيتي أتبختر ..من عائلة عريقة أنحدر..الحياة عندي تحد وسمر ..لا شيء يجعلني أتبعثر.

استغرب الاثنان من جوابه المتعجرف وتابعوا سيرهم ويكاد ظل اسكندر أن يخنق ظلي ماجد وعمران، افترق الثلاثة كل منهم في طريق معاكس للآخر وماجد غارق في التفكير بكيفية تدبر النقود لشراء اللباس الرياضي، فوصل للمنزل وعيناه العسليتان الذابلتان من التفكير تتفحصان غرفته بحثا عن شيء يبيعه فلم يجد إلا كتبه فأنزلهما من المكتبة ووضعها في كيس ونزل بها إلى الشارع فاتحا بسطة للكتب كاتبا عليها كل ثلاثة كتب بمئة ليرة، بدأ ينادي بصوت منخفض خجول: هيا اقتربوا أجمل الكتب بسعر البصل، ولكنه عندما كان ينظر إلى كتبه التي هي بمثابة روحه يتضخم صوته ويصبح عاليا فيمسي كالديك: تعال إلى هنا ثلاثة كتب بمئة ليرة فاقترب منه شاب في العقد الثاني من عمره وسأله عن سعر كتاب (رسائل جون كيتس ) فأجابه ماجد بأنه مكتوب أمامك سعره، فقال له الشاب: اخصم لي سأكون زبونك، استاء ماجد من جوابه المستفز وقال: تشتري علبة تبغ بذاك المبلغ وتسترخص أن تشتري كتابا أنيسا لك والله اخجل أن أساوم على كتاب ولكن لولا الظروف لما دخلت هذا الظرف، فبئس زمن أمسى فيه الكتاب أرخص من علبة السجائر.

فرّ الشاب من محاضرة ماجد وشرع ماجد يخاطب رسائل جون كيتس: لو تعلم يا جون ..أن رسائلك ستباع بهذا السعر لما كنت فكرت يوما في الكتابة ولو تعلم أن الكتاب أمسى أرخص من السجائر لكنت استيقظت من قبرك .
جاء رجل هرم ليقتني رواية (مرتفعات وذرنغ) لإميلي برونتي من ماجد، ولكن لهذه الرواية قيمة عزيزة في نفسه فناوله ماجد للرجل ببرودة قلب متذكرا كيفية شرائه وأنه مشى سبعة كيلومترات ليقتني الكتاب ثم يعود حافيا إلى المنزل بعد تمزق حذاءه ..
لم يبق إلا خمسة كتب على بسطته واقترب سعر اللباس الرياضي من الاكتمال وبينما ماجد يحصي النقود وإذ بمراهق يركض مسرعا سارقا كتابا من كتبه تجمّد ماجد في مكانه ولم يكن يدري لما لم يلحق به ويسترد الكتاب فقط نظر إلى حركة السارق، فكان شيء في داخله يدفعه إلى البقاء والسكوت .

وأخيرا أصبح سعر اللباس الرياضي جاهزا وتوجه لشرائه ..واقتناه.. وتوجه في اليوم الخامس من الشهر إلى السباق وكان من بين المتسابقين عمران واسكندر وكل ينظر إلى الآخر بتحد وأطلقت إشارة البداية وبدأ ركضهم، فبدا ماجد يركض بكل سرعته وخطوات أقدامه تتزامن مع دقات قلبه والتي بدورها تسير جنبا إلى جنب مع مخيلته وأحلامه فبدأ يفكر بتسجيله بالجامعة وشراء مجموعة كتب جديدة بدلا من التي باعها، بينما عمران يفكر بالجائزة وكيفية صرفها على الحانات والشرب وحفلات الرقص أما اسكندر فكان يفكر بأنه إذا ربح الجائزة فكيف سيبدو مزهوا فخورا رافع الرأس وأن أنفه سيطول مليما آخر.

اقترب المتسابقون من خط النهاية ويا للهول فقد وصل اسكندر قبل الجميع ليربح الجائزة ويقف في المنصة رافعا رأسه باديا كطاووس متعجرف وبالمقابل بدا ماجد كمن فقد كل شيء وكمن خسر في المعركة بدون أن يبقى له حتى عصا يتلكأ عليها بعد إصابته .

في طريق عودته للمنزل استوقفه بائع اليانصيب ملحا عليه بأن يأخذ بطاقة فاشترط عليه ماجد بأن البطاقة التي في جيبه إن كانت قد ربحت سعرها فإنه سيأخذ بطاقة من عنده، أخرج ماجد البطاقة من جيبه ليرى إن كانت رابحة أم لا ويا للقدر كانت البطاقة رابحة نصف مليون ليرة وعيون ماجد لا تصدقه وأقدامه لا ترفعه فبدأ قلبه يعزف نشيدا لم يألفه وانفتحت أبواب السعادة في وجهه.. فركض مسرعا مغتبطا..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى