الاثنين ٢٨ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨
بقلم أحمد فراج العجمي‎

الغروب

متكئ على سريري، خلفت كلَّ متاعبي وراء ظهري، لبست ثوبَ أحلامي وآمالي، أرقبُ ذلك المنظرَ الخلابَ من تلكَ النافذةِ الزجاجيةِ، تغرب الشمس وهي تتقلب في لونها البرتقالي بين السَّحاب، ثم تطفو فوق تلكَ الأمواج وتتراقصُ أشعتها على صفحة الماء الناعمة .

هل ترقص من سعادتها كما يرقص قلبي من سعادته ؟ أظن أنني أكثر سعادة منها .

رحلة طويلة في غيابة الغربة، عامان طويلان ما أقساهما، وما أقسى الحصولَ على لقمة العيش الحلال، ولكن كل هذه المتاعب سوف تتهرأ حدتها، وتنكسر قسوتها عندما يضم صدري صدرَ ولدي عمرو .

امتدت يدي إلى كوب الشاي أحتسي منه قليلا ثم يقطع شربي تفكيرٌ عميق في ساعة اللقاء المرتقبة .

ما أقربَ اللقاءَ ! هذه يدي أشعر ببرودة يدِ أحبائي فيها، وهذا قلبي متى تتراقص نبضاتُه ودقاته على صدر أحبائي ؟ .

ما كنت أعرف أن كوب الشاي سيظل نصفه دافئا كدفء الحب الذي يكتنفني ؛ إذ قطع تفكيري نوم جميل واستلبني عن عالم الخيال إلى عالم الأحلام، أغمضت عيني عن هذا المنظر الرائع للغروب، وعن هذه الآمال التي يلوح بريقها في أفق خاطري، لا أدري ساعة نمتها أم أكثر ؟ لكن لعل هذه الساعة تقضي على هذا الطول الغريب للرحلة، وكأننا نضرب عُباب البحر منذ قرن !!

رجات عنيفة ، أصوات مخيفة، ما أقبحَه من حُلم، ليس بوقت هذا الحلم، فإنني الآن أخِيط ثوب السعادة وألُف به أحلامي وأيامي، إنني الآن أرفل في نعمة الخير والحب .

لا زالت الأصوات والاهتزازات تتزايد، نظرت من النافذة إذا الظلام قد سربل البحر بثوبه الأسود القاتم، وذهب هذا المنظر الرائع للغروب، نظرت نفسي، فإذا بي ملقى على الأرض، ما أذكر أنني نمت هكذا، جعلت أتفحص المكان، بجواري نصفُ الكوب من الشاي الذي تركته وقد افترش الأرض مثلي، والكوبُ مكسورا .

أدركت حينها أنه ليس بحلم بئيس، لكنه واقع أشدُ بؤسا .

قمت مسرعا، تحاشيت الزجاج المكسور، لملمت أحلامي، سقط من على كتفي ثوبُ سعادتي عند نهوضي، وقطع صمتي صرخة ُ استغاثةٍ من امرأة عجوز ٍ مُلقاةٍ على الأرض، تقول : الحقوني سوف أموت، همهمت بكلام لا أتذكره، هرولت نحو الباب، خرجت مسرعا .

ما أقساها من جملة سمعتها، كادت تعصف بي، وتحطم بحدها بريقَ اللقاء المرتقب، قالها فتى مفتولُ العضلات، يركض نحو سطح السفينة : السفينة تغرق، ماذا ؟

هل أحبت السفينة منظر الغروب، فأرادت أن تجرب هذا الغروب في البحر ولو لمرة واحدة ؟ قد يكون !! لكنها ما كانت تدري أن الشمس ستشرق مرة أخرى ....!!

حبي للحياة ولأسرتي دفعني بشدة لا أعرف من تخطيتُ من الناس، وبمن اصطدمت، الذي أعرفه أنني أمسكت بطوق ِ نجاة، أدافع الموج الهادئَ تارة، والغاضبَ أخرى .

ما كان أسرعَ غروبَها، أسرعُ من غروب شمس ِ هذا اليوم الجميل، دقائقُ معدودة ٌ وباتت تلك السفينة ُ في أحضان المحيط ؛ لتهديَ أفضلَ وجبة غذائية لأسماك القرش، مئاتٍ من الغرباء منذ لحظات كانوا ينقشون أحلامهم بزخارفِ اللقاء الملهوف، ولكنهم ما كانوا يدرون أنهم سينتقلون من حلم جميل إلى لقاء أجمل، لقاء الله - عز وجل - يا ترى من هيأ لهم هذا اللقاء ؟!

وبينما أنا على حالتي إذ قرع سمعي من بين تلك الأمواج صوت تنفطر أمامه القلوب القاسية، وتندك أمامه الجبال الراسية، طفل ملائكي بهاتين اليدين الناعمتين، يتمسك بحقه في الحياة، يمدهما إلى مستقبله المجهول، يرسم بهما على وجه الحياة آماله الوردية، ويطلقها مدوية : أنقذوني، لا أريد أن أموت .

أنسى نفسي، تهون عندي تلك الأمواج العالية، أتخطاها بعزيمة، أصل إليه، أحتضنه بثوبه الجديد الذي احتفظ به خصيصا للقاء أصدقائه، سبحان الله !! إنك تشبه ولدي عمرو !

ما اسمك حبيبي ؟

أزاح شعره عن عينيه الحمراوتين، يلف يديه الصغيرتين حول عنقي ويحتضنني بشدة، كأنه يحتضن الحياة َ، ويقول : وائل .

( مستطردا ) أين والدي ووالدتي وأختي ريم، أحتضنه بشدة : لا تخف يا بني .

ينظر إلي نظرة عجيبة، نفذت إلى أعماقي، وقال : لماذا ؟ وأخذه البكاء .

تلك النظرة لم تكن أكثرَ تأثيرا فيَّ من كلمته " لماذا "، صرت أرددها : لماذا ؟ لماذا ؟ لماذا ؟ .

أخذني البكاء الشديد وأنا أحتضنه، أحاول أن أطمئنه، ولكن كيف يطمئن وهو يرى حوله يدَ الموت تعيث في الأرواح، والصراخ والبكاء يذهل العاقل الراشد، والموج الغاضب يعبث بوجوهنا وأجسادنا وأمعائنا؟.

حملْتُه على كتفي ساعات لا أذكر عدَّها ؟ فتَرَتْ عزيمته وعزيمتي ، لكنني لا زلت متمسكا بحق الطفل في الحياة، ثماني ساعات، تسع، عشر .

ألطم هذه الأمواج الظالمة بشدة على وجهها، أو تلطمني، أرفض الرضوخ لقسوتها وجفائها وكبريائها، ما أشدَ ظلمَك ! وما أقبحَ استهانتَك بأرواح الأطفال والناس !

انقطع بكاء الطفل مع انقطاع عزيمته، صرت أجدد الروح فيه، ولكن اليأسَ من المساعدة والإنقاذ تمكن منه وتملكه، بجانب شدةِ إعيائه، قالها فزادني صلابة : دعني يا عم، لا فائدة، سوف أموت .

تمسكت به أكثر، احتضنته بشدة، كأنني أحتضن نفسي وولدي، ما هكذا يموت الأطفال .

إلا من تلك الموجة الغاضبة، تجمع فيها كل ألوان الظلم والسخرية، ما أشدَّها وما أعلاها ! تجرف أمامها أجسادا وبقايا السفينة الغارقة .

تضربني بشدة، مدت يدها واختطفت وائلا بقسوة وألقته في أحضان الموت .

يا ترى هذه الموجة أحبته كما أحببته، فأرادت أن تخلصه من هذا العذاب ومن قسوة الدنيا وسخرية أهلها ؟؟! لا أدري .

رأيته يتحول عني بوجهه الرائق يطفو بعيدا عني، إلى أين يا وائل ؟ إلى أين ؟

أخذني بكاء شديد وطويل ............. على أي شيء أبكي ؟!!

............... لا أدري ؟!

أخرجت قلميَ الأحمر، وكتبت على وجه الماء جملة، ووضعت تحتها خطين أحمرين،

هنا قتل وائل .

هنا قتل وائل .

أحمد فراج العجمي


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى