السبت ٢٦ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨
بقلم رضا سليمان

ميلاد أب

لم تكن صفعة عادية ، فطريقها لم يكن فى الاتجاه الطبيعى للحياة ، ناهيك عن قوتها ..

كانت هذه الصفعة موجهة من الابن لوالده ، لذا لم تكن عادية أو تسير فى الاتجاه الطبيعى للحياة .. لم يتألم الوالد .. هل هناك وقت للتألم ؟!

كان شرود .. ذهول .. هوس .. لم يدرى الأب أى حال أدركه .. تذكر كل جزئيات عمرة الطويل دفعة واحدة .. أول شئ أمكنه مشاهدته بوضوح، لحظة تصارع مع أخيه الأكبر ..

فى هذه اللحظة ابنه البكر يصفعه على خده الأيمن ؟!! تمايلت به الأرض، خارت قواه، ألهذا الحد انهارت قوانين الطبيعة ؟!

لم تنهار قوانين الطبيعة .. فقانونها البقاء للأقوى .. الاخوة الصغار للابن البكر يتصايحون .. ينظرون فى فزع إلى أخيهم الأكبر، وبنظرات ملؤها الحسرة صعد الأبناء والدهم ..

صرخت الأبوة بداخل الأب .. ثمة شرخ كبير .. يتزايد .. أوشك البناء أن يتداعى .

لم تكن حرارة ارتطام الكف بالخد قد تلاشت لا من الكف ولا من الخد، ولم تكن الآهة قد صعدت من بين جنبات الأب كى تهبط إلى أعماق الابن، الذى ينظر إلى والده مشدوها متذكرا كيف غلبته الأهواء وأطاحت بمكامن نفسه، فقد استولت على خلاياه زوجته .. أين أمه الأن ؟

لم يشعر قط أنه يكره زوجته قدر شعوره فى هذه اللحظة، فها هو يكره نفسه وزوجته أقرب إليه من نفسه .. !!

خيط واهن ذلك الموجود بينه وبين والده .. سنى الغربة وهنت العاطفة، اضطرمت بداخله نيران بدت حمرتها القانية على وجنتيه .. تماما كوجنة والده اليمنى ..

هوى الابن الأكبر على أقرب مقعد .. لم يصدق الأب أن اللحظة الماضية كانت حقيقة .. أراد أن يعود بالذاكرة إلى ما قبل اللحظة ، خانته ذاكرته، عادت إلى تصارعه مع أخيه الأكبر .. لا يدرى سبب ارتكاز فكره حول هذه الجزئية بالذات ؟

رأى نفسه يقف لأخيه موقف الند .. لحظتها سمع صرخة وهى تنهرهما ..

عاد إلى لحظته عندما دقت أذنيه صرخة صغيرته وهى تشق ستار الصمت، واضعة كفيها الصغيرتين لتوارى وجهها .. تنكر ما تراه أو تخشى أن يصيبها بعض ما يحدث .. علت وجهها إحدى معانى الطفولة البريئة .. معنى طاهر نقى ..

أسمى ما كان يريده الابن الأكبر فى هذه اللحظة هو أن يسأل الصغيرة ..

ـ بماذا تشعرين ؟

يريد أن يتعلق بأى شئ، إنه يدرك أنه خطأ .. حملق فى يده كأنه يحصى عدد أصابعه ..

نظر أحد الصغار إلى خد والده الأيمن .. ميز أثار بعض أصابع أخيه الأكبر .. سرت بداخله قشعريرة .. بهت لونه .. وكان أسمى ما يريده الوالد هو أن يسأل الصغير ..

ـ بماذا تشعر ؟

أراد الوالد أن يهرب من شفقة الصغار .. خرج باحثا فى ذاكرته عن أى لحظة قوة أو حتى لحظة سعادة تكون قد مرت عليه .. لكن ذاكرته ذهبت إلى لحظة صراعه مع أخيه الأكبر .. أمه جالسة هناك فى الركن غارقة فى ملابسها السوداء ، سمع صوتها مفعما بدموع الهوان ..

ـ الله يرحم أبوكم ..

أبيه ؟! .. حاول أن يتذكر ماذا كان يعنى والده بالنسبة له .. أو لأخيه ؟

كان القدوة .. القيم .. المبادئ .. والتصارع بينه وبين أخيه كان بعد وفاة أبيهم ..

لاحظ الابن البكر أنه يتداعى .. لم يشعر بهوان قبل هذه اللحظة .. ما هو الشئ الذى فقد اليوم ؟!

نظر الصغار إلى بعضهم البعض .. آراد البكر أن يفعل شيئا .. تراخت عضلات جسده ..

ارتبك الأب .. تقلصت عضلات وجهه وهو يتذكر صراعه مع أخيه على ميراث والدهم .. رفع يده على أخيه الأكبر .. اليوم لا يوجد إرث .. وهو ليس أخ أكبر خاطئ

تألم أحد الصغار وأصدر أنين متواصل .. شعر البكر بأنه أكثر راحة عندما غمره الشعور بالذنب .. فهو ليس متبلد الحس ..

بحث الأب عن أبوته فلم يجدها .. ضاعت تلك الرابطة الواهية بين الابن والأب ..

ما حدث اللحظة رد فعل طبيعى لسوء التربية وضياع الأخلاق ..

ـ ليست حرية تلك التى تركت بكرى يرتع فيها .. إنها الضياع ..

نظر إلى الصغار .. هدأت خلاياه .. محيت تقلصات وجهه ..علت ابتسامة وجه أحدثهم عهدا بالبشر ..

حاول الأب أن يفلت من واقع لحظته، لكنه خشى أن يعود إلى صراعه مع أخيه .. فلح فى أن ينفلت إلى المستقبل ..ركز لحظيه على أخر بذوره .. علت وجهه علامات أسى وأمل ..

أسى لكونه انهار .. ماذا يعنى الفشل ؟

وعلامات الأمل .. أهى قليلة تلك العلامات المعبرة عن كوامن الأطفال .. هم المستقبل ..إنهم أرض خصبة لإثبات الكيان .. إثبات الذات ..

قرر الأب أن يترك المكان لابنه البكر .. لملم شجاعته وما بقى له من كيان .. ارتج جسده .. خرج .. تعلق الصغار بطرف ثيابه ..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى