الثلاثاء ٢٩ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨
بقلم عبد الرحيم حمدان حمدان

الشخصية في رواية بقايا امرأة

تعد الشخصية مكوناً مهماً من المكونات الفنية للرواية، وهي عنصر فاعل في تطور الحكي، إذ يؤدي عنصر الشخصية أدواراً عدة في بناء الرواية وتكاملها وطريقة عرضها للأحداث، ومن خلال مواقفها يمكن تبيان المضمون الأخلاقي أو الفلسفي للرواية، فالكثير من أفكار الكاتب ومقاصده ورؤاه ومواقفه من القضايا المتعددة تصورها الشخصيات، فهي المسئولة بدرجة أكبر من بقية المكونات الأخرى عن طريق عرض الأفكار والتحكم بخط سير الأحداث أو مواجهتها.

رواية (بقايا امرأة) هي العمل الروائي الأول للكاتب الفلسطيني الشاب باسل عبد الرحمن ناصر التي صدرت عن (دار الهاني) الثقافية بغزة سنة 2006 م، وقد جاءت ثمرة لنشاطاته في دنيا المعرفة والثقافة، وعكست مواقفه ووعيه السياسي والفكري والاجتماعي، وجسدت انتماءه لجذوره المكانية.

تحفل هذه الرواية بالقضايا الاجتماعية والسياسية والوطنية في ظل (انتفاضة الأقصى) في فلسطين، إنها رواية ذات قدرة كبيرة وجرأة على طرح ما تسكت عنه أقلام كثيرة. فهي تعالج قضية المرأة واقعها في المجتمع الفلسطيني، وما تتعرض له من ظلم في ظل الظروف الاجتماعية السائدة في ذلك المجتمع، والتي تداخلت مع واقع انتفاضة الأقصى التي تمثل في الرواية محوراً موازياً ومهماً، وتظهر من خلالها مواقف أفراد المجتمع، وتباين آرائهم واختلافها.

انتخبت الرواية حقبة ملائمة لطرح هموم المرأة الفلسطينية متماهية بهموم الوطن، وهي حقبة (انتفاضة الأقصى المباركة) من سنة 2000 حتى سنة 2006م تاريخ الانتهاء من كتابة الرواية، وهي حقبة خصبة حافلة بالأحداث التي تشير إلى الصراع المرير بين الشعب الفلسطيني وأعدائه الصهاينة ومواجهتهم بالكفاح والتضحيات، وفيها جرت تغيرات كبيرة للمجتمع الفلسطيني أصابت بنيته الأساسية من خلال الشرائح الاجتماعية التي تمثل قاعدة ذلك المجتمع.

تشير القراءة المتمعنة لرواية (بقايا امرأة) إلى أن من أهم مكونات رواية (بقايا امرأة) ومرتكزاتها الأساسية صورة الشخصية الروائية التي تتضافر مع مكونات روائية أخرى: كالفضاء والإيقاع والامتداد والتلقي؛ لتكون عملاً روائياً يمكن نعته برواية (الشخصية)، إذ تهيمن شخصيات الرواية على الأحداث ؛ الأمر الذي جعل من تلك الشخصيات العنصر الأقوى، إذا ما قورنت ببقية العناصر الروائية الأخرى، ويتبدى هذا العنصر الفني في مظهرين هما:

أحدهما: العتبات النصية.

يشكل العنوان الإشارة الأولى التي يرسلها المبدع إلى المتلقي، وهو الذي يوحي بما يصطرع في عقل الكاتب وأحاسيسه من أفكار ورؤى ومضامين، والقارئ للنص الروائي يلمس أن العنوان كان بدلالاته الموحية متشظياً في ثنايا الرواية، وأنه تردد في غير مكان منها، سواء أكان بمعناه أم بنصه الحرفي، يقول بطلة الرواية:"...كنتُ خلال هذه الفترة مثل أشلاء مبعثرة، تتجمع فيعاد خلقي، كأنني حطام يعود لما كان عليــه، يحاول(عادل) أن يبث الروح في بقايا امرأة..." (بقايا امرأة، ص197).

أما صورة الغلاف الأمامي، فتعد جزءاً مهماً من دلالة الرواية، توحي بمسار النصوص الأدبية واتجاهاتها، إذ تتشكل اللوحة التشكيلية المرسومة على الغلاف من صورة (امرأة) ترتسم على ملامحها علامات الحزن والأسى والتشظي والقلق النفسي، ولعل قسماتها تشير إلى بطلة الرواية (سلمي)، وقد ألمحت البطلة الى هذا المغزى عندما وقفت أمام لوحة فنية لوجه امرأة، في معرض الفن التشكيلي الذي كان بعنوان:(وجوه نساء)، وأخذت تتأملها طويلاً، ثم ناجتها قائلة:" امرأةٌ مثلي أنتِ، حزينةٌ مثلي أنت، تبحثين عن الفرح وعن الحب فلا تجديهما، قد يكونان لديك ولا تجديهما"(بقايا امرأة، ص 48).

أسهمت الألوان التي استخدمت خلفية للوحة والتي تداخل فيها كل من اللون الأحمر والأصفر والبني والرمادي؛ لإبراز معالم هذه الشخصية وأبعادها، وقد طغى فيها اللونان: الأصفر والرمادي على بقية الألوان، وهما يرمزان لمشاعر الحيرة والقلق والضياع، ويشيران إلى إحساس الشخصية بالقهر والظلم.

ويمثل الإهداء في هذه الرواية عتبة نصية ثالثة، لا تنفصل دلالتها عن سياق الرواية العام، فقد أهدى الكاتب روايته إلى روح والده الطاهرة، ومما جاء في هذا الإهداء:"... غاب بعد أن زرع فينا العطاء والحب والصبر والخير والتوكل والكرامة، غاب جسده لكن روحه ما زالت ترفرف حولنا مثل ملاك؛ فتمنحنا الأمل والقدرة على الاستمرار... وفي الوقت نفسه تغرقنا في حزن لا ينقطع، وألم لا يتوقف"(بقايا امرأة).

المتأمل في صيغة الإهداء، يكتشف أنه يكتسي أهمية بالغة في تحديد بعض الدلالات والمكونات النصية التي وردت في متن النص الحكائي، فكل ما تتسم به شخصية المهدى إليه من قيم ومثل غاية في السمو، سيجدها المتلقي تشكل عنصراً أساسياً في تكوين كثير من شخصيات الرواية، وملمحاً بارزاً من ملامحها النفسية والخلقية التي تتبدى في تصرفاتها وسلوكها.

والآخر: بناء الفني للرواية.

ينهض المعمار الفني للرواية بدور مهم في الإيحاء بهيمنة عنصر الشخصية في الرواية، إذ يقوم هذا البناء على مجموعة من الفصول المرقمة(عددها ثمانية)، يحمل كل فصل منها عنواناً محدداً يطغى عنصر الشخصية على خمسة منها، والتي يحمل كل فصل منها عنواناً لشخصية أو اثنتين من شخصيات الرواية وهي:(عادل، صفية ويونس، وأبي وجمال، وعلاء، وحسان).

أنماط الشخصية في رواية (بقايا امرأة).

تتعدد الشخصيات في رواية(بقايا امرأة)وتتنوع، فهي تضم إلى جانب شخصية البطلة (سلمى) مجموعة كبيرة من الشخوص تتباين طباعها ومواقفها، وإن كانت في معظمها تنتمي إلى الطبقة المتوسطة المثقفة، إذ يغلب عليها الحقل الثقافي والعلمي، فهناك الأستاذ الجامعي (علاء) والطبيب (عادل) والمحامي(حسان) والطالب (جمال) وغيرهم.

وتبدو شخصية (سلمي) أكثر الشخصيات حظاً من اهتمام المؤلف وعنايته، فهي بطلة الرواية، والشخصية الرئيسة فيها، ومحور الأحداث والحركة، وبؤرة التجربة، وفي فلكها تدور بقية الشخصيات الثانوية، منها تبدأ الرواية، وإليها تنتهي، وعلى لسانها تُحكي الرواية كلها، ومن خلالها يلمس المتلقي رؤى الكاتب للأحداث، بوصفها الأنموذج أو المثال الذي يَرى المتلقي من خلاله ما جرى من أحداث.
و(سلمي) ـ كما يصورها الكاتب ـ امرأة مثقفة، فهي خريجة قسم الإعلام، وامرأة مظلومة، قست عليها التقاليد الاجتماعية الظالمة، واشتدت عليها مصائب الأقدار ومحنها.

واجهت (سلمي) في الرواية خيبات متعددة على مستويات متعددة: وذلك باستشهاد أخيها الطالب الشاب (جمال) على أيدي قوات الاحتلال في الانتفاضة الأولى، واعتقال أبيها، وهي لم تزل طفلة، في سجون الاحتلال لمدة وصلت إلى ثلاث عشرة سنة، ففقدت بذلك حنان الأب ورعايته وعطفه، ثم أفرج عنه، ليجد الموت بانتظاره ومثّلَ استشهادُ زوجها (علاء) مصيبة كبيرة، كان لها أثر عميق في نفسها. إذ غدت باستشهاده أرملة وأماً لطفلين هما:(أحمد وعلاء)، ثم أقدمت على الزواج من المحامي (حسان)؛ هرباً من نظرة المجتمع القاسية إلى الأرملة، فوجدت منه معاملة سيئة، وتجرعت على يديه ألواناً من العذاب الجسمي والنفسي؛ الأمر الذي اضطرها إلى الطلاق منه، وهكذا كانت حياة جديدة لسلمى بعد أن اكتسبت حريتها من ذاك الرجل المريض نفسياً؛ لتعود معها روح الأمل من جديد، لحياة ملؤها التفاؤل والأمل، ولتعاود النهوض من جديد، لتستمتع بالوقت نفسه بتذوق واجبات الحياة ونعيمها، مع اكتساب عزيمة جديدة، بأنها ترفض أن تكون فريسة جديدة.

ثم فصلت من عملها في إحدى الصحف المحلية، وانتهت علاقة الحب التي ربطتها بطبيب مسيحي هو(عادل) بالإخفاق؛ بسبب اختلاف الديانة، وحرمت في نهاية الأمر من حضانة ولديها.

تبدو شخصية (سلمى) نبيلة في كفاحها من أجل لقمة العيش، رائعة في صمودها أمام قسوة المجتمع سطوة الرجل، لا سيما مضايقات مدير الصحيفة(أبو غسان) وتسلطه، والذي فصلها من العمل عقاباً لها؛ لأنها لم تلب رغباته الذاتية الدنيئة، فلم تتنازل عن قيمها الخلقية، وظلت محافظة على كرامتها وشرفها؛ فمثلت نمطاً من أنماط المقاومة والفعل الإيجابي، تقول البطلة "...بدأتُ أحسُ بالمدير يرمقني بنظرات يملؤها النهم والعطش، ولم يعد ينظر إليَّ كموظفة في الصحيفة، بل امرأة فيها ما يطفئ شهوته... كان يمكن أن أحصل على ترقية، وعلى أجر أعلى بكثير مقابل بعض اللمسات بيد راجفة لعدة لحظات، لكنني رفضت، وفضلت الجوع على الامتهان، كان باستطاعتي أن أعمل وقتما أريد، وأن اكتب ما أشاء، على أن أترك كومة من اللحم البارد الهرم تلتصق بجسدي من وقت إلى آخر؛ لكنني أبيت، قدمت كرامتي على المال"(بقايا امرأة ص 124، 125).

بيد أن الظروف والضغوطات الاجتماعية التي مرت بها كانت أقوى منها، فوقعت فريسة لها، ولم تستطع أن تستمر في المقاومة، إذ سبّب لها استشهاد علاء زوجها صدمة نفسية حادة، شعرت على إثرها بضغط نفسي مستمر، وشرود ذهني، وعدم الرغبة في الحياة، وقد ازدادت حالتها النفسية سوءاً عندما اكتشفت ـ بنفسها ـ العلاقة غير السوية التي تقيمها أمها الأرملة (سعاد) مع عمها (أبو كمال)، فانهارت نفسياًً، ونقلت لتلقى العلاج في مستشفى الطب النفسي الذي يشرف عليه الطبيب (عادل)، بيد أنها تمكنت من تجاوز أزمتها النفسية، وعملت مشرفة اجتماعية في المستشفى نفسه، وبذلك عادت إلى الحياة من جديد.

ظلت شخصية(سلمي) متماسكة، عادت إلى الحياة بنظرة متفائلة؛ لتؤدي رسالتها الإنسانية السامية في خدمة مجتمعها الفلسطيني، تقول البطلة في حوار داخلي مفعم بالأمل والرجاء:"...قررتُ التخلص من الماضي كله: قليل حلوه وكثير مُرّه، حَرْق ماضينا قد يخفف بعض عذابنا.. النظر خلفنا يعيق سيرنا، وقد يسقطنا أرضاً أحياناً "(بقايا امرأة، ص 214).

وفي مقابل شخصية (سلمى) يلتقي القارئ شخصية نسائية أخرى، تواجه العواصف التي تصنعها الظروف والتقاليد الاجتماعية، بإيجابية مَنْ لا يستسلم ولا يضعف، إنها شخصية (صفية) الفتاة الجزائرية المثقفة التي أحبت شاباً فلسطينياً معاقاً – بترت قدمه في أثناء الاجتياح الصهيوني على جنوب لبنان سنة (1982)، فتزوجته، وقدِمتْ معه إلى غزة سنة (1994)، وهي تمثل أنموذجاً للتضحية والصبر والحب والشعور الوطني الخالص، وكانت مصدر تشجيع وتحفيز لـ(سلمى)، تقدم لها الدعم النفسي وقت الشدائد، تصف(سلمى) العلاقة التي تربطها بـ(صفية) بلغة تصويرية إيحائية فتقول: "مع ازدياد حدة العطش تكبر رقعة السراب، ينتقل المرء من سراب إلي سراب، وحَلْقه يزداد جفافاً، تقترب الشمس من الأرض، يوشك الرأس على الغليان، يشتد الظمأ أكثر، وما من ماء سوى السراب، فجأة يظهر مَنْ يأتي بالماء، ويأخذ باليد، فتعود الحياة بعد عطش وموت، هكذا كانت صفيه بالنسبة لي" (بقايا امرأة ص 38).

والمفارقة أن الرواية تقدم شخصية نسائية مناقضة لشخصيتي (سلمى) و(صفية) إنها شخصية (سعاد) أم (سلمى) التي صبرت على اعتقال زوجها في سجون الاحتلال ثلاث عشرة سنة، وبعد وفاة زوجها، أقامت علاقة غير سوية مع(أبو كامل) عم (سلمى)، وعندما اكتشفت ابنتها أمرها حاولت أن تسوغ خطيئتها بأسباب شبه منطقية قائلة:" أنا إنسانة، قضيت عمري قديسة من أجلكم جميعاً، لكنكم تركتموني وحيدة... لا أنيس لي سوى الجدران، أجلس بجوار الواحد منها ساعات طوال، لا أفعل شيئاً سوى البكاء على حالي، على سنوات عمري التي قضيتها انتظر الفرج، وعلى شبابي الذي ضيعته من أجلكم، هذا الرجل هو من وقف بجانبي، هو من كسر علي وحدتي، هو من سأل عن أحوالي وساعدني في حياتي..." (بقايا امرأة ص 90).

إن شخصية (سعاد) كما صورها الكاتب شخصية حية نامية متطورة، لها مواقف إنسانية ووطنية، إنها امرأة من لحم ودم، تقوى وتضعف، تصبر وتنهار، ضعفت أمام مغريات الحياة وقسوتها، فوقعت في الرذيلة، بيد أنها لم تتماد في خطيئتها، بل صحا ضميرها، فأعلنت توبتها وندمها على فرطت في حق وربها ونفسها وأسرتها، فكانت نهايتها أن ارتقت روحها إلى السماء عندما أصيبت- في أثناء تواجدها في شقة ابنتها(سلمي)- برصاص الفلتان الأمني.

وتمثل شخصيات الرجال في الرواية نماذج متنوعة: ما بين نماذج إيجابية وأخري سلبية. فشخصية (علاء) زوج (سلمي) أستاذ جامعي، له شخصية مستقلة، لم يخضع لضغوطات أسرته:أمة وأخوته؛ من أجل أن يطلق زوجه(سلمى) ويتزوج بأخرى؛ بحجة أنها تأخرت في الإنجاب مدة ثلاث سنوات، وهو شخصية وطنية دافعت بالكلمة الشريفة عن عدالة قضيتها وبلادها، فاغتاله أيدي الصهاينة الغادرة؛ ليسكتوا بذلك قلمه، فكان شهيد الكلمة.

وثمة شخصية (عادل) الطبيب المسيحي، الذي أحب (سلمى) بعد استشهاد زوجها، ورغب في الزواج منها،فرفضت طلبه لاختلاف الديانة بينهما، ومع ذلك استمر في أداء واجبه الإنساني كطبيب وواصل علاجها وساعدها في الحصول على مهنة مرشدة اجتماعية في المستشفى الذي يعمل به.

وهناك شخصية (حسان) الذي تزوج (سلمي)، واكتشفت أنه يعاني مرضاً نفسياً، فهو ضحية الظروف الاجتماعية القاسية التي عاناها في أسرته، حيث كان يشهد ـ وهو صبي ـ خيانة أمة لأبيه، فسبّب هذا الموقف له عقدة نفسية، واتخذ من النساء موقف الكراهية والعداء، يقول (حسان) مخاطباً زوجه (سلمي) بعد أن دأب على تجريعها ألوان العذاب:" أنت امرأة مثل كل نساء العالم، إني أكرهن جميعا، كلكن فاجرات مجرمات...أنت مثل أمي لا يهمك سوي الرغبة والشهوة، لا تحفظي عهداً، ولا تحترمي زوجاً، ولا تهتمي بأبنائك، الليل يشعل رغبتكن، فليكن الليل موعد عذابكن" (بقايا امرأة، ص 166).

لقد حاول الكاتب على لسان شخصياته تصوير الهم الاجتماعي والواقع السياسي العام والقضايا الشخصية من خلال إطار واقعي للشخصيات، إذ أخذ في تحليل شخصياته الرئيسة والثانوية تحليلاً عميقاً من خلال علاقة الأنثى بالذكر، وعلاقة الأنثى بالأنثى، ورصد مظاهر الفساد في المجتمع، ونقد الممارسات الخاطئة لبعض أفراده وإدانتهم، وكشف الزيف في هذا الواقع وتعرية الفئة المتسببة في تشويهه، ووضع أصابعه على مواطن الأدواء، وراح يصف لها الدواء، يقول على لسان بطلة الرواية "...أصبحت البندقية وسيلة للعبور نحو الوظيفة لا للعبور نحو الوطن، وأصبح الوطن مختزلاً في رايات متعددة الألوان، وبنادق تصوب لصدور أبناء الشعب، أصبح الوطن مختزلاً في وظيفة، أي وطن هذا الذي أصبحت راية الفصيل أهم من رايته، وأعلى شأناً؟ " (بقايا امرأة 212).

تبرز علاقة الكاتب بالسرد جلية واضحة من خلال استخدامه تقنية السرد الذاتي بضمير المتكلم (أنا)، وهذا النمط في سرد الوقائع، يضيق المسافة الفاصلة بين السارد والشخصية المحورية، وهو يناسب طبيعة المرأة المثقلة بالهموم والأحزان، التي تجنح للحديث مع النفس، ومع الآخرين بهدف إعادة التوازن إلى ذاتها الحائرة المقهورة.

وهذه التقنية في السرد تدفع القارئ إلى أن يقرر أن الرواية بمثابة (سيرة ذاتية) لبطلة الرواية أو (شبه سيرة ذاتية) لها، وقد أثار هذا الأمر للوهلة الأولى استغراب المتلقي ودهشته؛ ذلك أن شخصية الكاتب ناصر تتداخل مع شخصية بطلته(سلمى)، فأخذ يكتب عن حياتها، ويتغلغل في أعماقها وعواطفها الإنسانية؛ محاولاً تصوير أحاسيسها الداخلية ومعاناتها النفسية، ورصد ما مر بها من أحداث، بلغة أنثوية رقيقة وموحية، مستغلاً حوادث ووقائع وأطيافاً من حياة الشخصية الأنثوية؛ ليصنع منها راوية، وهذا ما تؤكده المقولة النقدية التي تذهب إلى" أن المرأة ليست أقدر على فهم مشكلات المرأة من الرجل"، وأنه لا يوجد ثمة اختلاف كبير بين رؤية الرجل الكاتب للمرأة الشخصية في الرواية ورؤية المرأة الكاتبة للمرأة الشخصية في الرواية؛ ذلك أن كتابة الأعمال الإبداعية لا تعتمد على جنس الكاتب، سواء أكان رجلاً أم امرأة؛ لأن الذي يمنح أي عمل أدبي يدور حول المرأة قيمته هو مدى عمق الصلة بالواقع الاجتماعي، ومدى امتداد الرؤية والوعي والقدرة على إتقان البنية الفنية، والتمرس بالأصول الجمالية للإبداع الأدبي.

وقد عبّر الكاتب (زياد عبد الفتاح) في تقديمه لهذه الرواية عن دهشته لهذا الأمر، قائلاً: "ذلك أن النص يدور بلسان أمرآة، يصنعها وينصفها، يغزو مشاعرها، يكشف أرق تفاصيلها ويهجس بأحلامها وأوهامها وآلامها ومعاناتها الدامية، من أين لرجل أن يدخل عالم المرآة بهذه التفاصيل والتبسيط أيضا؟‍ إذاً لا بد أن الكاتب كاتبة" (بقايا امرأة ص 8).

والدارس لتصوير الكاتب لشخصياته الروائية، يجد أنه قد وفق في الدخول في حوار مع شؤون الشخصية الرئيسة في الرواية وأحوالها، وأنها كانت تتداخل معه، فيصدر الكلام عنها في معظمه، وإن كان في الحقيقة يجري على لسان الكاتب.

وتشير القراءة لهذه الرواية إلى تعاطف الكاتب مع قضية المرآة، وحرصه على الدفاع عنها وإنصافها، وتجسيدها في صورة مشرقة وضيئة في المجتمع، وقد قامت بأدوارها في الحياة: أختا وأماً وزوجاً ومحبوبة وعاملة، وخاضت معترك الحياة الاجتماعية والنضالية والسياسية والثقافية في يقين وثبات.

كما يكتشف المتلقي أن الكاتب حرص على أن تظل شخصياته تتمتع بقدر كبير من الاستقلال، وأن تحمل بصماتها الخاصة، وأن تبقى فاعلة ومتطورة، ذلك أن جانباً كبيراً من أهمية الرواية وروعتها يعتمد على تقديمها شخصيات مستقلة.

وفي مجال تصوير الشخصيات الروائية، ثمة بعض الشخصيات التي اكتفى الكاتب بتصويرها تصويراً سطحياً في بعض المواقف، فبدت تلك الشخصيات باهتة الملامح، جاهزة البناء؛ ولعل ذلك يرجع إلى اتكاء الكاتب على أسلوب السرد بضمير المتكلم(أنا) على لسان بطلة الرواية (سلمي)، وإن كانت هذه الشخصية تظل أفضل الشخصيات تعبيراً عما في داخلها وأعماقها من أحاسيس ومشاعر.

ويلحظ قارئ الرواية أنها اهتمت بوصف الشخصيات الأساسية والثانوية من الداخل والخارج، بيد أن الصفات الداخلية من: صراع داخلي وتناقضات وطموحات وحاجات نفسية وكشف لأفكار الشخصية وآرائها ومواقفها، والتغلغل في أعماق الشخصيات، واستخلاص نبضاتها الداخلية، قد حظيت بالنصيب الأكبر من اهتمام الكاتب ومتابعته، ومع ذلك فهو لم يغفل في تقديمه لشخصياته ملامحها الخارجية وقسماتها العامة، من قبيل وصفه لشخصية(سعاد)، حيث تقول (سلمي) واصفة أمها" رأيت في مشيتها نشاطاً، وفي جسمها طراوة،...أحسستُ برغبة لديها في الحياة، حتى عيونها الخضراء قد كحلتها، لقد عاد جمال أمي بعد أن ذوى، لعينيها الخضراوين سحر فتَان، وفي وجهها الخمري جاذبية طاغية، ولابتسامتها عذوبة أخاذة، وفي رشاقة جسدها وثناياه إغراء قوي) (بقايا امرأة ص186).

ولعل ما يلفت النظر في هذا الوصف الخارجي لملامح شخصية(سعاد) الجسدية، أنه لم يأت لإبراز مهارة الكاتب وقدرته على استخدام تقنية الوصف الروائي؛ وإنما جاء لخدمة الموقف الدرامي والبناء الفني للشخصية، والإسهام في تفسير الأحداث، وحركة الشخصية بطريقة مقنعة ومسوَّغة فنياً، فهو يوحي باستعداد الشخصية النفسي؛ للتحول والضعف والاستجابة للإغراءات التي تعرضت لها.

وصفوة القول إن الشخصيات في رواية(بقايا امرأة) حملت صورة واضحة من واقع المرأة في المجتمع الفلسطيني وما تعانيه من سوء معاملة وتسلط الرجل وألوان التبعية من ناحية، وصراع الإنسان الفلسطيني مع الكيان الصهيوني الغاصب لوطنه من ناحية أخرى، كما كشفت ما قدمته المرأة من تضحيات من أجل الخلاص من واقعها الأليم، والحفاظ على إنسانيتها وكرامتها، كما عرت في جلاء وصراحة ما اعتري المجتمع الفلسطيني من ممارسات خاطئة بحق الوطن والمواطن، ولكن الصورة في مجملها تقدم شخوصاً حية نامية إيجابية؛ تسعى في الأرض وتحلم، تنتصر مرة وتخفق مرات، تنهار مرة وتصمد في وجه التحديات أحايين كثيرةً، وهي في كل الظروف تستعذب الحياة بمرارتها وآلامها، أملاً في الانتصار والتغلب على كل الصعاب.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى