أبي الطيب الرُّندي
أبو الطيب الرُّندي:
هو شاعر الأندلس وأديبها في زمانه، وصاحب مرثيتها المشهورة، صالح بن يزيد بن صالح بن موسى بن أبي القاسم بن على بن شريف النِّفري الرُّندي، نسبةً إلى رُنْدَة بضم الراء وسكون النون وفتح الدال(1) إحدى مدن الأندلس الواقعة في الجزء الجنوبي من الأندلس – أسبانيا اليوم –.
وأما عن كنبته فقد أُختلف فيها فعند لسان الدين بن الخطيب في كتابه " الإحاطة في أخبار غرناطة " أبو الطيب، وعند المُقرّي في " نفح الطيب " (2) أبو البقاء وبها اشتهر، إلاَّ أن الأرجح والصحيح أن كنيته " أبو الطيب " لقُرب زمان لسان الدين بن الخطيب منه، وذلك أن أبي الطيب من وفيات سنة (684 هـ)، ولسان الدين من وفيات سنة (776 هـ)، كذلك المصادر التي نقل منها لسان الدين قريبة من عصر الرندي، كما أنه لم يُشير إلى خلاف في كنيته خلال ما نقل، حتى قال في أخر ترجمته: " نقلت من خط صاحبنا الفقيه المؤرخ أبي الحسن بن الحسن قال: أنشدني القاضي الفاضل أبو الحجاج يوسف بن موسى بن سليمان المنتشافري، قال: أنشدني القاضي الفاضل أبو القاسم ابن الوزير أبي الحجاج ابن الحُقالة، قال: أنشدني الأديب أبو الطيب صالح بن أبي خالد يزيد بن صالح بن شريف الرُّندي... الخ " وهذا دليل قوي على شهرته بأبي الطيب، وليس بأبي البقاء كما ذكر المُقرَّي والله أعلم.
قال ابن الخطيب في كتابه " الإحاطة في أخبار غرناطة ": " إن مولده في محرم سنة إحدى وستمائة " ونقل عن ابن عبد الملك المُراكشي انه قال: " كان خاتمة الأدباء بالأندلس بارع التصرف في منظوم الكلام ومنثوره، فقيهاً حافظاً، فرضياً، متقنناً في معارف شتى، نبيل القصد متواضعاً مقتصداً في أحواله، وله مقامات بديعة في أغراض شتى " ثم نقل عن ابن الزبير قوله: " وكان في الجملة معدوداً في أهل الخير وذوي الفضل، والدين تكرر لقائي إياه، ولقد أقام بمالقة(3) أشهراً أيام إقرائي، وكان لا يفارق مجلس إقرائي، وأنشدني كثيراً من شعره.. " وقيل انه تولى القضاء، ويبدو انه على المذهب المالكي مذهب أهل بلده وهو المشهور بالأندلس، وبلاد المغرب(4).
مؤلفاته:
وأما مؤلفاته فكان - رحمه الله – له مشاركة في التأليف وإن كانت قليلة، ولعل سبب ذلك اشتغاله بالقضاء. ذكر ابن الخطيب أنه ألف " جزءاً على حديث جبريل "، وتصنيفاً في الفرائض وأعمالها، وآخر في العروض، وآخر في صنعة الشعر سماه " الوافي في علم القوافي " وله كتاب كبير سماه " روضة الأندلس ونزهة النفس " نقل منه ابن الخطيب في الإِحاطة عدة أوراق(5).
وأما شعره فكان أبو الطيب من أفاضل العلماء بالأندلس، ومن شعرائها له قصائد طنانة ونظم رائق في وصف العقل، و البحر، وغير ذلك تدل على رفيع أدبه، وجزالة شعره منها قوله في وصف الجيش، وأبطال المسلمين، وذل الكفر، والكافرين:
شعره:
وكتيبة بالدَّارعين كثيفةجرَّت ذيول الجحفل الجرارروضُ المنايا بينها القُضُب التيزُفَّت بها الرَّايات كالأَزهارفيها الكُماة بنو الكُماة كأَنهمأُسد الشَّرى بين القنا الخَطّارمُتهلِّلين لدى اللِّقاء كأَنهمخُلِقت وجوههم من الأَقمارمن كلِّ ليثٍ فوق برقٍخاطف بيمينه قدرٌ من الأَقدارمن كلِّ ماضٍ قد تقلَّد مثلهفيصُيبَّ آجالاً على الأَعمارلبسوا القلوب على الدروعوأَسرعـوا لأكفِّهم ناراً لأهل الناروتقدموا ولهم على أعدائهمحُنقُ العِدا وحميَّةُ الأنصارفارتاع ناقوس بخلع لِسانهوبكى الصَّليب لِذلَّة الكفارثم انثنوا عنه وعن عُبّادهِوقد اْصبحوا خبراً من الأخبار
وله شعر جميل في وصف العقل، والغربة في ثلاثة أبيات:
ما أحسن العقل وآثارهلو لازم الإنسان إيثارهُيصون بالعقل الفتى نفسهكما يصون الحر أسرارهُلاسيما إن كان في غُربةٍيحتاج أن يُعرف مقدارُه
وله في وصف البحر، والأنهار، وما في معنى ذلك قوله:
البحر أعظم مما أنت تحسبهمن لم ير البحر يوماً ما رأى عجباطام له حَبَبٌ طاف على زورقٍمثل السماء إذا ما ملئت شُهُبا
وله في المحاكمة بين السيف، والقلم وهما مما اختلف بينهما الأُدباء قديماً، ويبدو من خلال أبياته انه يرجح التساوي فقال:
تفاخر السيف فيما قيل والقلموالفضل بينهم لاشك منفهمُكلاهما شرَّف الله درَّهُماوحبَّذا الخُطّتان الحُكم والحَكمُ
وله أيضاً في وصف الريحان:
وأخضر فستقي اللون غضٌّيروق بحسن منظره العُيوناأغار على الترنج وقد حكاهوزاد على اسمه ألفاً ونونا
وله في وصف ثمرة الرمان:
لله رمانةٌ قد راق منظرهافمِثلُها ببديع الحسن منعُوتُالقشر حق لها قد ضمَّ داخلهاوالشحم قطنٌ والحب ياقوتُ
وقال يصف الجزر في بيت واحد:
إن قلت قصبٌ فقل قصب بلازهر أو قلتُ شمعٌ فقل شمع بلا لهب
وقال في أخوة السوء، والصحبة المزيفة التي تتلاشى عند الحاجة ولا تدوم عند النائبات، - وهذا حال الحب في غير الله -:
ليس الأُخوةٍ باللسان أُخُوَّةفإذا تُراد أخوَّتي لا تنفعُلا أنت في الدنيا تُفرج كربةعنِّي ولا يوم القيامة تشفعُ
وله في نفس المعنى أيضاً يصور حقيقة الصديق حينما يُختبر في المعاملة المالية التي سوف تكشف حقيقة أمره:
ولقد عرفت الدهر حين خبرتهُوبلوت بالحاجات أهل زمانيفإذا الأخوة باللسان كثيرةٌوإذا الدَّراهم مَيلقَ الإخوانِ(6)
المرثيته:
لا شك أن مرثية أبي الطيب في الأندلس من أجمل ما قيل في رثاء بلاد المسلمين، وهي في الحقيقة لا تعني فقط الأندلس بعينها - وإن كانت أبياتها تذكر معالم الأندلس –، بل تعني كل بلد من بلاد المسلمين سُلبت من بين أيدي أهلها، كما حدث لكثير من البلاد الإسلامية التي استولى عليها النصارى، مثل جزيرة صقلية(7) التي فتحت في أيام الدولة العباسية، على يد القاضي أسد بن الفرات – رحمه الله - سنة (212 هـ)، وبقي الإسلام فيها مدة إلى أن تغلب النصارى عليها، أو البلاد التي كانت تحت حكم الدولة العثمانية أيام خلافتها مثل دول البلقان وما جاورها، وغيرها من جزر بحر إيجة(8)، وكل هذا حصل لما غيّر الناس وبدلوا في دين الله بأهوائهم، واشتغلوا بالملذات، وللهو وهذا أيضاً ما قالهُ واعترف به ابن الكموني أبو الحسن علي بن عبد الجبار الكاتب، في سبب فقدان صقلية حينما رثاها - فحال أهل صقلية لا يقل عن حال
أهل الأندلس -:
قد كانت الدار وكنا بهافي ظل عيش ناعم رطبِمدّ عليها الأمن أستارهُفسار ذكرها مع الركبِلم يشكروا نعمة ما خُوِّلُوافبُدِّلُوا المِلح من العذبِ(9)
وصدق الله تعالى القائل: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم [ الرعد / 11 ].
والمتأمل لقصيدة أبي الطيب الرندي يتضح له أنها قصيدة ملحمية تمثل المرحلة التاريخية التي عاشها أهل الأندلس خير تمثيل، وإن كان في الحقيقة سقوط الأندلس، خبرها مدوياً في الأمة الإسلامية ومزعجاً، فهي التي كانت تنتظر نصراً موزراً، وفتحاً مبيناً إذا بها تتجرع كأس الهزيمة، وفقد الأندلس بعد أن بقي الإسلام فيها قرون طويلة منذ أن فُتحت على يد طارق بن زياد، وموسى بن نصير - رحمهم الله - سنة (92 هـ) إلى أن حل بها ما حل.
ولكن الأمة - بحمد الله وتوفيقه - أبت إلاَّ أن يكون لها نصيب في أوروبا النصرانية، فقبل أن يفقد المسلمون الأندلس في غرب أوروبا سنة (897 هـ) كان العثمانيون قد فتحوا القسطنطينية في الجهة الشرقية من أوروبا سنة (857 هـ)، وبدئوا يتوغلون فيها حتى استولوا على مساحة كبيرة من الأراضي قد تكون أكبر من حجم الأندلس، بثوا فيها الإسلام الذي بشر به وبنبيه المسيح - عليه السلام – , بين هؤلاء النصارى المشركين.
ومن أجل أن لا نبعد عن موضوع النونية , فللأسف الشديد من خلال تتبعنا لترجمة أبي الطيب، لم نجد ذكر للمرثية سوى في " نفح الطيب " فقط، والغريب أن لسان الدين بن الخطيب ذكر كثيراً من أشعار الرندي، وترجم له في " الإحاطة " بترجمة مطولة، ولم يذكر النونية فما ندري ما سبب ذلك !.
ولم يبقى الآن إلا أن نستعرض أبيات المرثية ونبقى مع الرندي في نونيته فيقول:
لكل شيء إذا ماتم نقصانُفلا يُغرُّ بطِيب العـيشِ إنسـانُهي الأمور كما شاهدتها دولٌمن سره زمن ساءتهُ أزمــانُوهذه الدار لا تُبقي على أحدولا يدوم على حالٍ لهـا شــانُتُمزق الدهر حتماً كل سابغةٍإذا نبت مشرفيـّاتٌ وخُرصـانُوينتضي كلّ سيف للفناء ولوْكان ابن ذي يزَن والغمدَ غمدانُأين الملوك ذوي التيجانِ من يمنٍوأين منهم أكليــلٌ وتيجانُ ؟وأين ما شادهُ شدادُ في إرمٍوأين ما ساسهُ في الفُـرسِ ساسانُ ؟وأين ما حازه قارُونُ من ذهبٍوأين عادٌ وشـدادٌ وقحطـانُ ؟أتى على الكُلِّ أمرٍ لا مردّ َلهُحتى قضوا فكأنَّ القوم ما كانُـواوصار ما كان من مُلكٍ ومن مَلكٍِِِكما حكى عن خيالِ الطّيفِ وسنانُدارَ الزّمانُ على دارا وقاتلـهِوأمَّ كسـرى فمـا آواه إيـوانُكأنما الصعبُ لم يسهُل لهُ سببُيوماً ولا مَلكَ الدُّنيـا سُليمـانُفجائعُ الدَّهر أنـواعٌ مُنوَّعـةٌولِلزمـانِ مسـرَّاتٌ وأحــزانُوللحوادثِ سلـوَانٌ يُسهلُهـاوما لما حـلَّ بالإسـلام سُلـوانُدهى الجزيرة أمرٌ لا عزاء لههوى لـه أُحدٌ وأنهد ثهـلانُ(10)أصابها العينُ في الإسلام فارتَزأتحتى خلَت منه أقطار وبُلـدانُفأسأل بلنسية ما شأنُ مُرسيةًوأيـن شاطبـة أم أيـن جيـَّـانُوأين قرطبةٌ دار العلوم فكـممن عالـمٍ قد سمـا فيها له شـانُوأين حمصُ(11)وما تحويه من نزهٍونهرهُا العذبُ فياضٌ وملآنُقواعدٌ كنَّ أركان البلاد فمـاعسى البقاءُ إذا لـم تبـق أركـانُتبكي الحنفية البيضاء من أسفٍكما بكى لفراق الإلـف هيمـانُعلى ديار من الإسلام خاليـةقد أقفرت ولها بالكفـر عُمـرانُحيث المساجد قد صارت كنائس مافيهنَّ إلا نواقيـسٌ و صلبانُحتى المحاريبُ تبكي وهي جامدةٌحتى المنابرُ تبكي وهي عيدانُيا غافلاً وله في الدهر موعضةٌإن كنت في سِنةٍ فالدهرُ يقضانُوماشياً مرحاً يلهيـه موطنـهُأبعد حمصٍ تغرُّ المـرء أوطـانُتلك المصيبةُ أنستْ ما تقدمهـاوما لها من طول الدهرِ نسيـانُيا راكبين عِتاق الخيل ضامرةًكأنها في مجال السبـقِ عقبـانُوحاملين سيُوف الهندِ مرهفـةُكأنها في ظلام النقـع نيـرانُوراتعين وراء البحر في دعـةٍلهم بأوطانهم عـزٌّ وسلطـانُفقد سرى بحديثِ القوم رُكبـانُ ؟كم يستغيث بنا المستضعفون وهمقتلى وأسرى فما يهتز إنسانُ ؟ماذا التقاطع في الإسلام بينكمُوأنتم يا عبـاد اللـه إخـوانُ ؟ألا نفوسٌ أبياتٌ لهـا هِــممٌأما على الخيرِ أنصارٌ وأعـوانُيا من لذلة قومٍ بعد عزِّهــمُأحـال حالهـمْ جـورُ وطُغيانُبالأمس كانوا ملوكاً في منازلهمواليوم هم في بلاد الكفرِّ عبدانُ !فلو تراهم حيارى لا دليل لهـمْعليهمُ من ثيابِ الـذلِ ألـوانُيا ربَّ أمّ وطفل حيل بينهمـاكمـا تفـرقَ أرواحٌ وأبـدانُوطفلةً مثل حسنِ الشمسِ إذ طلعتكأنما هي ياقوتٌ ومرجانُيقودها العِلجُ(12)للمكروه مُكرهةًوالعينُ باكيةُ والقلب حيرانُلمثل هذا يذوب القلبُ من كمدٍإن كان في القلبِ إسلامٌ وإيمانُ(13)
قال المقري: " انتهت القصيدة الفريدة ويوجد بأيدي الناس زيادات فيها ذكر غرناطة، وبسطة(14)، وغيرهما مما أخد من البلاد بعد موت صالح بن شريف، وما اعتمدته منها نقلته من خط من يوثق به على ما كتبته، ومن له أدنى ذوق علم أن ما يزيدون فيها من الأبيات ليست تقاربها في البلاغة، وغالب ظني أن تلك الزيادة لما أخذت غرناطة وجميع بلاد الأندلس، إذ كان أهلها يستنهضون هِمم الملوك بالمشرق، والمغرب فكأن بعضهم لما أعجبته قصيدة صالح بن شريف زاد فيها تلك الزيادات "(15).
توفي أبو الطيب الرُّندي – رحمه الله - سنة أربع وثمانين وستمائة (684) للهجرة النبوية الشريفة.
هذا ما تيسر جمعه من سيرة أبي الطيب الرُندي، وصلى الله على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه وسلم.
[1]