الخميس ١ أيار (مايو) ٢٠٠٨
بقلم أحمد الخميسي

(كرم العنب) تحفة عبد الوهاب الأسواني

(كرم العنب) هي الرواية السادسة للكاتب الكبير عبد الوهاب الأسواني يتوج بها رحلة أدبية بدأها عام 1970 بروايته "سلمى الأسوانية".

ولعلها ليست مصادفة أو توارد خواطر، أن تصدر خلال عام واحد ثلاث روايات من "العيار الثقيل" تعود بنا إلي التاريخ: واحدة تبدأ من الحملة الفرنسية "العمامة والقبعة" لصنع الله إبراهيم، والثانية تمر بسنوات الاحتلال بعد الثورة العرابية "واحة الغروب" لبهاء طاهر، ثم "كرم العنب" التي تدور أحداثها بعد نصف قرن من غروب ثورة العرابيين.

أقول إنها ليست مصادفة أن يلجأ الروائيون الثلاثة الكبار إلي زمن أبعد محتواه التاريخي الغالب هو الغزو والهزيمة، لكن لعلها الحاجة الماسة إلي فهم واقعنا الراهن على ضوء معطيات أوضح لنفس المعضلة. وقد يصلح "دور المثقف" في الأعمال الثلاثة مادة لدراسة مقارنة. وتتخذ "كرم العنب" - الصادرة عن الهيئة المصرية للكتاب - في نحو خمسمائة صفحة من شمال أسوان مكانا لأحداثها التي تنقلها لنا تسع شخصيات رئيسية فترسم لنا خلال ذلك - في لعبة كالمرايا المتقابلة -أولا صورة لنفسها، ثم صور الآخرين، بادئة من حيث انتهت حكاية من سبقها.

وقد ساعدت تلك الوسيلة على تفادي عبء السرد التقليدي الذي عادة ما يتولاه الكاتب، خاصة أن الرواية كبيرة وتستعرض خريطة من العلاقات الواسعة المتشابكة.

ويقدم عبد الوهاب الأسواني شخصية أساسية تتصدر العمل هي مراد ابن شفيق الخولي في "كرم العنب" الذي يقف حائرا ما بين نصيحة الشيخ أيوب له: "انصت للبسطاء فهم أهلك وناسك" وبين ما لقنه إياه عطوان بقوله: "دعك من الصعاليك الذين تجمعهم زمارة، وتفرقهم عصا".

وشيئا فشيئا يحسم مراد موقفه ويقرر شق طريقه إلي أعلى، بالقوة، وبمصاهرة عمدة كرم العنب، وبالحيلة، وبالجبن، وأساسا بالتخلي عن المبادئ التي تشربها سنوات الفاقة من الشيخ أيوب نصير العرابيين، ويصبح مراد نائبا للعمدة، بل وعمدة كرم العنب، لكن بثمن فادح، إذ يقدم في سبيل الأرض والجاه والمنصب روحه، وجسد أخته صباح، إلي أن يلطخ يديه بالدم. وتموج "كرم العنب" الصغيرة الواقعة في الجنوب بكل متناقضات مرحلة الهزيمة، الإقطاع، وأصدقاء الباشوات، وعمد الريف الذين يستمدون ثقافتهم من جريدة "المقطم" صوت الاحتلال، بينما يقف على الجانب الآخر "المطاليب" الذين تختارهم السلطة لأعمال السخرة، والمطاليب عند عبد الوهاب الأسواني هم كل الفقراء المعدومين، وهم أنصار الصناعة الوطنية، وأنصار التمرد على الملك فؤاد والانجليز، وكل من يزرع أرضه ولا يجد قوته، وهم المثقفون من أمثال عبد العزيز مهندس الطلمبات الذي يتغنى بقصائد عبد الله النديم، والشيخ أيوب العواصمي، وهم أيضا جنود عرابي الذين حولهم الاحتلال إلي جنود سخرة يحفرون المصارف لأرض الخديوي تحت فرقعة السياط، وهم المقاليع الفقراء المتمردون الذين لا يأكل الواحد منهم سوى وجبة واحدة في اليوم، والمطاليب هم كذلك النساء اللواتي يرحن في عمر الزهور قربانا للصعود إلي أعلى مثل صباح أخت مراد، ومثل الأرملة العجوز التي تطوف طيلة الرواية لتؤرق الضمير بقولها إن لديها حكما قضائيا لاستلام أرضها لكن ليس لديها عزوة ولا قوة لتنفيذ القانون.

ولا يبقى أمام المطاليب كما يقول عبد الوهاب الأسواني سوى: "الهجرة أو التحول إلي أجراء أو الموت جوعا"، أو التوقيع على "التماس" يعتذرون فيه بأنهم "كانوا مكرهين حين عضدوا أحمد عرابي"! أو الحلم بأن زمنا ما سيحل ويعود فيه الثائرون ليعاقبوا الظلمة وينشروا العدل بين الناس، أو أن يستنفروا قواهم لتغيير حياتهم بشعار الشيخ أيوب "ليس ثمة حق يعود إلي أصحابه بغير صليل السيوف"، وهنا يبرز اقتراح جيل جديد يتزعمه فريد ابن الشيخ أيوب بتشكيل حزب يعمل من أجل الاستقلال السياسي والاقتصادي ويصبح عزوة وقوة كل أرملة نهبت أرضها، وبهذه الفكرة يختتم الأسواني روايته البديعة، الأقرب إلي ملحمة تألقت فيها شخصيات قريبة من روح الشعب مثل اللص حلمي المقلوع المفعم بكل ما لدي المتمردين من كرامة ونخوة، وعزيز الشاعر الذي يهوى تحطيم كل التقاليد البالية في الجنوب. وبذلك تصبح "كرم العنب" رمزا للعطاء والثروة المنهوبين،ولهذا يقول الأسواني في متن روايته
"وكم ذا بكرم العنب من مضحكات".

لقد قدم الأسواني لنا ضفيرة بديعة ومحكمة من تفاعل الخصال الشخصية لبشر محددين مع وضع اجتماعي وتاريخي عام يموج بالرغبات القاتلة، والمحبة العنيفة، وبأحلام نبيلة محفوفة بالأهازيج الشعبية. تستحق الرواية أكثر من كتابة، وأكثر من قراءة، لعلها أن تحظى ولو بجزء منها، لأنها عمل ينصت باقتدار فني "لأهله وناسه".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى