الأربعاء ٧ أيار (مايو) ٢٠٠٨
بقلم أحمد الخميسي

البدين والنحيف

منذ أكثر من مائة وخمسين عاما كتب أنطون تشيخوف واحدة من أشهر قصصه القصيرة "البدين والنحيف" يصف فيها كيف يشوه الثراء الفاحش والفقر المدقع نفوس الناس.

ومنذ ذلك الحين تطور العالم كثيرا لكنه لم يتحسن، كما تتطور آلة قاسية ويتحسن أداؤها ويزيد إنتاجها دون أن ينبض فيها قلب أو ينتفض الشعور.

أصبح العالم أشبه بالقرية، لكن ظل”البدين والنحيف”يخيم عليها وعلى ما بها من ثورة اتصالات، وعولمة، واجتياز حدود، وعلوم، وأتمتة، وذرة، وزراعة أعضاء، واستنساخ.

ومازلت أذكر كيف أن الصحف لدينا – في مطلع القرن الحادي والعشرين وبعده - امتلأت بأسئلة من نوع”كيف ستدخل مصر القرن القادم”، وتعددت الإجابات ما بين سيطرة على العلوم النووية، وما بين ثورة زراعية، وأخرى ثقافية، ولم تنقض سوى أعوام قليلة لنكتشف أننا ندخل القرن الجديد بالاقتتال على رغيف الخبز وقطعة اللحم! وهي قضية العصور الأولى البدائية! ودخلنا القرن الجديد وليس على الأرض سوى ظلين، ظل ضخم مهول لرجل بدين، وظل آخر لرجل جائع نحيف كالشعاع.

أما الرجل البدين فقد أقام بدنه بفئة رأسمالية تمثل 10% من سكان مصر وتحصل على 35 % من الدخل القومي، ثم فئة متوسطة، وأخيرا نحو عشرين مليون مواطن نحيف من الأجراء والعمال والحرفيين الذين يعانون من غلاء غير مسبوق في كافة المجالات، وقد أشار إليهم تقرير للبنك الدولي حذر فيه من أن 43% من المصريين يعيش الفرد منهم بأقل من دولارين يوميا (عشرة جنيهات).

وفي الأول من يناير هذا العام ناقش مجلس الشعب 14 استجوابا و146 طلب إحاطة بشأن زيادة الأسعار، وتدفقت وعود المسئولين تمني الناس بالخير، فإذا بالأوضاع تزداد سوءا من يوم لآخر.

ومع مرور أكثر من قرن ونصف القرن على”البدين والنحيف”فإن شيئا بذلك الشأن لم يتبدل تقريبا. ومنذ نحو تسعين عاما كتب عباس العقاد بجريدة البلاغ في فبراير 1923 مقالا جاء فيه:”نشرت زميلتنا الأخبار خبرا جاء فيه أن مسجونا يخدم في حديقة أحد الموظفين الإنجليز أكل" طماطمة" واحدة ملقاة، فما كان من السيدة زوجة الموظف الإنجليزي وقد رأت المسجون إلا أن أمرت الأونباشي الحارس أن يظل يضرب المسجون بالكرباج حتى تكلفه أن يكف”. وبعد نحو تسعين عاما، نشرت جريدة المصري اليوم في أغسطس العام الماضي أن طفلة في التاسعة من عمرها اشترت بدون علم والدها كيس بطاطس فظل يضربها بعصا غليظة حتى توفيت، لأن ثمن كيس البطاطس الذي اشتهته الطفلة غالي عليه.

التطور الذي عرفناه كان يتعلق فقط بتصنيع البطاطس، وبدلا من الصراع على حبة بطاطس كما هي، أصبح الصراع على كيس بطاطس مصنعة. ويقال عادة: سد رمقه، أي أطعمه بما يكفي لإنقاذه من الموت جوعا. ورمق الفلاحين والعمال والموظفين والفئات الأخرى المتوسطة في مصر رمق صغير تكفي لسده طماطمة واحدة، أو كيس بطاطس، أو رغيف خبز، لكن هناك رمقا آخر كبيرا لرجل بدين يتضخم ويتوحش ولا تسد حاجته الملايين والمنتجعات وكل وسائل الراحة والتخمة وكافة ألوان المتع، رمق لا يسده شيء. وحين كتب أنطون تشيخوف"البدين والنحيف" وصف الرجل الثري قائلا إنه”كان قد تغذى لتوه، ولمعت شفتاه من الدهن كما تلمع ثمار الكرز الناضجة وفاحت منه رائحة النبيذ والحلويات" أما النحيل فقد وقف في محطة القطار وقد انبعثت منه:”رائحة لحم الخنزير والقهوة الرخيصة".

وتجلت عبقرية تشيخوف في قصته حين نحى جانبا الفكرة التي كانت سائدة حينذاك وهي الميل لاتهام الأثرياء، وجعل المشكلة أعم وأشمل بصفتها مشكلة مجتمع، ونظام، يشوه الطرفين في عملية واحدة، ويدمر الروح الإنسانية هنا وهناك، فقد جعل الفقر النحيل يطفح "بالتبجيل والتعبير المعسول والخنوع"، بينما تلمع شفتا البدين"كحبات الكرز الناضجة". لقد أحال النظام الرجل النحيف إلي كائن مسحوق، كما أحال الرجل البدين إلي كتلة من اللحم، ودمر الروح وجعلها شائهة على الجانبين، وخلال ذلك مازال ظل البدين يفترش أرض بلادنا كلها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى