الأحد ١ حزيران (يونيو) ٢٠٠٨

منافي الوطن

بقلم: لمياء الالوسي

تحية حب وتقدير

إلى التجمع المسرحي الثقافي العراقي..

اللائذ بصفائح دار الحرية للطباعة في باب المعظم.. وما تبقى منه

إلى الغادقين على المستحيل من نعيمهم..

إلى المحتمين بجلود الفقراء.. الباحثين عن منافيهم في وطنهم

الباحثين عن وطنهم في منافيهم..

وعذرا إذا تجاوزت

منذ سنوات عجاف، مجنونة، شحيحة، بقيت خطواته تسابق خطواتها صيفا وشتاءا وهي لأتملك إلا أن تغذي السير خلفه، لازال الطريق طويلا

لكنها هذه المرة، هاجرت إلى المستحيل، رغم الإحساس بالعجز، والخوف الذي يكتنفها، توقفت، هي التي تراجعت، فالتفت إليها، حاول أن يسد أمامها كل منافذ الإقلاع.

لكنها كانت بعيدة عنه جدا، هذه المرة فقط.. والى الأبد

* * * *

كنا كمن يبحث عن خلاص لنا في هذه الدنيا، مبللتين مهووستين بالقفز والصراخ تتقاذفنا الأوهام، وآمال مؤجلة في لحظة زمن لم تكن لنا.. لكن العالم كله كان لنا

  قذفت بروحي عاليا، لم تكبلها رغبات الجسد.
  هكذا بلا مقدمات.
  أريد أن أعود كما كنت.
  بل كما أنت، منعتقة من كل رهاب السنين.

أصوات المارة، وأبواق السيارات،جعلني اعذر شرودها، وعينيها الغائمتين.. في عالم أخر لا اعرفه، جعلها لاتعي ماأقول، ربما، أو هكذا أحسست، مما دفعني إلى التوقف عن البوح

أمام ما تبقى من المبنى، الذي نهشه الضيم، ومزقه الخراب، توقفت، دفعتني للحاق بها، دخلنا، أثارتني الجلبة القادمة من الداخل، وأصوات الآخرين المزروعين في كل مكان.. كانت الغرف المطلة على الباحة المكشوفة، منزوعة الأبواب والشبابيك، رتقت فوهاتها المشرعة بقطع الكارتون، وبعض الملابس القديمة.. أما الفناء المكشوف فتناثرت فيه بضع سيارات، مركونة في الزوايا المزحومة بأكوام النفايات والفضلات.. وحنفية صغيرة وقف صبية بملابس مهلهلة يملئون منها أوعية قديمة.. يحاولون نقلها إلى داخل المبنى يتقافزون حول بعضهم.. في فرح طفولي تملئهم به زخات المطر، وقد غدت الأرض، برك من المياه الموحلة، تحولهم إلى قطط صغيرة، ضاجة بالحياة

توغلنا إلى الداخل.. وجدنا البعض يجلس في ظلال الطارمات.

  لنخرج أفضل لنا (قلت هامسة)
 أمامنا وقت طويل دعينا نغمد رغباتنا المشرعة.. ونمنح هذا الوهج المخبأ

عالما للانطلاق..و نقتل في داخلنا هذا الخوف من القادم.. طاوعيني
تعجبت لعبارات الترحيب، والمحبة التي كانوا يستقبلونها بها.. وكأنها تعرف الجميع منذ أمد بعيد..

  انك تترددين على هذا المكان كثيرا.. أليس كذلك؟ هم يمنحوك حبهم كما يبدو
يا الله، من أين يخرج هذا العدد من الأطفال، بسحنهم الشاحبة، وأسمالهم البالية، ونساء مثقلات بأشياء كثيرة، مزحومات بأعمال يبدو إنها لا تنتهي.

في الطابق العلوي لهذا البناء.. والذي غدا هيكلا من الحديد.. ارتفعت على احدى النوافذ الكبيرة، لافتة مكتوب عليها بالخط العريض (التجمع الثقافي المسرحي العراقي)، وثمة رؤوس تلوح لي من بعيد، لرجال وامرأة يعكس شعرها الأشقر انبهارات الضوء القادم من بعيد تنادي وبصوت عالي

  اشتري لنا علبتي سكائر من أي نوع.. أو دنهل.. دنهل علبتي دنهل بسرعة رحمة على أبوك

كانت تنادي على رجل قفز من خلال كوة ضيقة في احد الجدران.. بعد أن حيانا بابتسامة صغيرة

دفعنا المطر والبرد الى داخل المبنى.. تقودني خطواتها المتسارعة.. والأصوات الزاعقة والضحكات المجلجلة بالفرحة.. كان أمامنا سلما ملتويا، عاليا..ينتهي بنا إلى الطابق العلوي.. الذي كان أكثر دمارا من الطابق الأول.. يفضي إلى رواق عاري وعلى جانبيه غرف أكثر عريا وتفحما

أحسست إنها تتحرك في المكان بألفة.. مما أثار ريبتي.. فمنذ أول خطوة في هذا المبنى.. وأنا اشعر بالتواطيء

عندما دخلنا القاعة.. كانوا رجال ونساء، وأطفال يفترشون الأرض.. وفي إحدى الزوايا ثمة وعاء كبير يحتوي على جمر متقد.. يبث حرارة ورائحة عذبة في المكان.. وقد تحلق حوله الأطفال.. يتشابه لونهم جميعا.. جلسوا على حاشية كبيرة من الإسفنج بدت نظيفة جدا.. اشرأبت أعناقهم الى الأصوات الهادرة التي يصدرها الرجال والمرأة الشقراء.. في الرقعة الخالية أمام النافذة الوحيدة.. وضارب الطبلة الجالس معهم.. يحاول في كل لحظة تدفئة طبلته فينتشلها منه الصغار، ثم يعيدونها إليه في لحظة نشوة فريدة.. وهناك بعض الأرائك القديمة.. جلس عليها شباب بزي جامعي.. نهضوا لمقدمنا الاانها أومأت لهم.. فعادوا إلى مجلسهم.. وثمة هالة من الجمال.. تغزو نظراتهم المتعلقة بحركة الممثلين.

في اللحظة التي وصلنا بها.. أصبحت صاحبتي سيدة المكان، بعد أن عانقت خطواتها خطواتهم.. تقودهم كما تريد.. تصرخ فتصرخ الطبلة معها.. تتلوى وتنحني.. بدون أن تنطق بكلمة واحدة.. ثم بدأت بالغناء

غناء اعادني إلى أيام انداحت، في زاوية قاتمة من الروح
أعجبني صوتها، وجسدها المنساب مع صوت الرجل المرافق لها، في طور عراقي حزين أثارني ودفق في كل الشجن المخزون.. أغرقت رأسها بين ساقيها، فانحسر الفستان القطيفة عن ساقين عراقيتين.. وغدا صوت الرجل رخيما هامسا.. عندها ضج الجميع بالتصفيق

شيء لم أكن اعرفه، وما عدت اعرفه عن سر ذلك الالق الممتد بين عينيها والعيون الصارخة بالحزن والفرح، المشدودة إليها، وإلى وحركة يديها المتسقتين مع جسدها، الذي عافته النظارة منذ زمن ولازال متمسكا بها، عندما رفعت إلي وجها مبتسما غارقا بالدموع.. كنت أنا الأخرى اترك دموعي تغرق وجهي.

تفصد جبينها المهموم بالعرق الراشح على وجهها، الذي أشاحت به عني وهي تتهادى بخطواتها نحوي

  كنت رائعة (شددت على يديها) ذكرتني بتلك الليالي، ونحن نرقص خلسة بعد أن نغلق الأبواب، نخشى أن يرانا احد.. بالله عليك.. كيف ترقصين أمام هذا الحشد من الشباب؟؟.

نظرت إلي، وفي عينيها ذلك السحاب المغبر.. والألم المندلق إلى الخارج، وكأنه جنين ياءبى الخروج.

 إنها قصيدة حب لرجل أحبه.. لا يحبني.. لا اعرفه، لم اكلمه.. لكنني أحبه.

اليوم فقط بدأنا التمرين عليها، لكنها تملكتني، ولا أتمكن من الفكاك منها
تلفت حولي.. انصرف الجميع للتحضير للمشهد التالي.. ربما

  منذ متى وأنت تمارسين التمثيل هنا؟

بقي سؤالي معلقا

  لما لا نعود كما كنا في الثانوية؟؟.. تكتبين المسرحية ونمثلها معا.. الم تبدأي حياتك من جديد، دعينا إذا نعود معا

اقتربت منها: نصف مسرحية بائسة، كل ما كتبت، وكنا الاثنتين فاشلتين في أدائها.
تجاهلتني : انهضي، ولنرى كيف يكون الفشل

في تلك اللحظات، دخلت شابة صغيرة زائغة النظرات، مشعثة، حافية القدمين رغم القر الذي يلف المكان، اتجهت إلى الموقد الحديدي في زاوية الغرفة، ولم تتكلم، ثم وبحركة مباغتة، تركت موضعها وتوجهت إلينا نحن الاثنتين توقفت أمامي، فراعني ذلك العالم المبهم الذي تخبؤه في تقاسيم وجهها، وذلك الهمس المجنون في عينيها، كانت ترتدي معطف عسكري طويل، يكسو قامتها النحيلة حتى تهرأت حافاته، وجرت على قدميها وساقيها، خطوط سوداء من تراب الأرض.. وكأنها لاترى احد حولها غيري.

قالت: أنت جديدة..

ما أذهلني، هذا الصمت الذي ران على الجميع، بل أن البعض نهض منصرفا على عجل.

في تلك اللحظات والكل يحاول لملمة أشياءه وذاته ألمشرده، مشدود لما سيحدث ربما في اللحظات القادمة

  مالذي يحدث؟! قلت مشدوهة
وقفت أمامي صامتة، ثم عبت الهواء بشدة، ووضعت إصبعيها على شفتيها تريد سيجارة

كم تمنيت لو امنحها أي شيء آخر لكنها أصرت على حركتها، دفعتها صاحبتي بعيدا، فالتصقت بي.. أصبحت أمامي تماما، عندها وبحركة مجنونة، فتحت المعطف، فامتلكني الغم، إذ شع جسدها الفتي، فهي لم تكن إلا مراهقة.. ينبض جسدها بالانبهار المتدفق فيها، جمالا يباهي بها الدنيا، كان المعطف العسكري يستر عريها ولاشيء آخر غيره، أغمضت عيني خجلا أمام ذلك الجمال الأخاذ.. وعطفا عليها.. فلقد كانت الكدمات، تغطي تلك المناطق الحساسة من جسدها الرائع.

مددت يدي إلى معطفها فأحطتها به، لكنها أرادت أن تخلعه عنها، فامتدت عشرات السجائر الموقدة إليها

في الخلف، احكم الشباب غلق النافذة الوحيدة بصفائح الحديد الكبيرة، وبقى الضوء الخافت المتراقص لبقايا الجمرات المتقدة، ورحل الجميع بهدوء.

اشتعل حريق الرصاص في كل مكان في الخارج.. تعالت الصيحات من الأسفل
وتوقف كل شيء.. وسكن الهلع المسرح الصغير.

ركضنا إلى الخارج.. نبحث لنا عن طريق للنجاة

  لا يوجد باب نوصده بوجهها.. فكلما حلت علينا، تبدأ القذائف.. ولا نعرف سرها.. قادمة هي من المجهول.. تتدثر بمعطفها العسكري.. تدخل، فينتهي كل شيء، لا مسرح، لا حياة، الاالقذائف والنار.. حتى القصائد تموت فينا قبل أن تولد.
  لم أكن اعرف انك ارسطية بهذا الشكل!! إنها مثل الجميع مجني عليها

التفت إليها.. كانت تغمغم وراءنا.. بكلمات مبهمة، لم تصلنا إذ اشتعلت السماء حولنا.. عدونا أو زحفنا لم نعد نعرف.. لكنها بقت في الأعلى.. مع وحشتها وجنونها الغريب.. والجمرات الخابيات

واصلنا طريقنا.. وثمة حزن شفيف يملؤنا معا.. في الأسفل توقف ضجيج الأطفال.. واختفت الوجوه.. وما عدنا نرى إلا الدخان ينفث سمومه في كل مكان

لكنها تعرف طريقها جيدا، فنفذنا خلال دروب ملتوية، إلى الأمان المتسربل بالخوف

بقلم: لمياء الالوسي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى